أحمد الزبيري - مثَّل اللقاء الذي جمع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، مشهداً من حيث الشكل فيه الكثير من الكوميديا، ومن حيث المضمون عكس حقيقة أمريكا وطبيعة الحرب الأوكرانية الروسية أو الأطلسية الروسية، وهو في كل الأحوال فاق التوقعات لطبيعة ترامب الذي يرى نفسه أنه إمبراطور الدولة العُظمى الأوحد، وعلى قادة الدول أن ينفذوا ما يطلبه منهم، ولم يستطع أن يتحمل ردّ زيلينسكي والذي عليه -من وجهة نظر ترامب- أن يعطي ثروات أوكرانيا ومعادنها النادرة لواشنطن مقابل ما قدمته له ولبلده في حرب ما كان لها أن تكون لولا أمريكا والغرب..
أطماع الغرب وخاصةً أوروبا الاستعمارية تجاه روسيا، ليست وليدة الحرب الروسية الأوكرانية، بل تمتد لقرون، ولا يهم إنْ كانت محكومة من القياصرة أو سوفييتية شوعية أو جمهورية اتحادية كما هو حالها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وفي عهد يلسن الذي مكَّن الغرب من استباحتها لتصل إلى الحضيض، أو في عهد بوتين، رغم أن هذا البلد الامبراطوري الشاسع الذي لطالما نظر له الغرب بعنصرية كان هو المنقذ لقارة أوروبا، ويكفي الإشارة إلى حروب نابليون امبراطور فرنسا في مطلع القرن التاسع عشر، وحروب هتلر (فهور) ألمانيا النازية.. والمسار التاريخي فيه الكثير من الأمثلة؛ وفي كل هذه الحروب لم تكن روسيا معتدِية بل معتدَى عليها..
غورباتشوف الرئيس الأخير للاتحاد السوفييتي، اعتقد أن بإمكانه -عبر التنازلات الاستراتيجية لأمريكا وحلفائها- إنهاء حالة العِداء، وأنه سينخرط في سياسة دولية بالشكل الذي يحفظ له بقاء البلد المترامي الأطراف الذي كان يحكمه، ولا ندري إنْ كان تسليمه هذا يسفر بنظرية المؤامرة وهو جزء منها كما يحلو للبعض أم بسبب حُسن النوايا الذي هو في التعامل مع إمبراطوريات استعمارية عنصرية غباءٌ مطلَق.. في النهاية لم يبقَ هو ولا الاتحاد السوفييتي؛ وحتى روسيا الاتحادية كانت على وشك التفكك بعده..
اليوم بالنسبة لأوكرانيا بعد استقلالها عن الاتحاد السوفييتي، وحتى قبل ذلك كان جزءاً منها ينظر إلى الروس بذات نظرة الغرب وتحديداً في الأقاليم الغربية منها، وهذا ما عايشته بوضوح في السنوات الأخيرة للاتحاد السوفييتي في مدينة لفوف التي تحالفت مع النازية الألمانية وبقيت تقاتل الاتحاد السوفييتي حتى بعد هزيمة ألمانيا بسنوات، وكان يُنظر إلى القيادات القومية الأوكرانية الفاشية في تلك المدينة بأنهم أبطال أوكران، والشخصية الأبرز ستيبان بانديرا..
الغرب استثمر في فترة الاتحاد السوفييتي في العهد الروسي لجعل هذا البلد السلافي الأقرب من حيث اللغة والقومية والعادات والتقاليد إلى الروس رأس الحربة، مستخدِماً النزعة القومية المتعصّبة كوسيلة للنيل من روسيا، والشواهد الكبرى الثورات الملونة التي تكررت في هذا البلد وآخرها عام 2014م.. ترامب ليس حالة جديدة في العلاقات الأمريكية الأوروبية، فقد دعمت أمريكا في عشرينيات القرن الماضي النازية والفاشية في ألمانيا وحتى إيطاليا في مواجهة الإمبراطوريتين الاستعماريتين بريطانيا وفرنسا، لخلق صراع في أوروبا يحقق مصالحها ويخرجها من خلف المحيط وهذا ما كان، وهي لم تدخل الحرب العالمية الثانية إلى جانب بريطانيا وفرنسا إلا بعد أن تأكد لها نهاية هتلر..
ما حصل يوم الجمعة في البيت الأبيض قد يكون له تداعيات لصالح روسيا، ولكن ما حجم هذه التداعيات، وكيف سيكون انعكاسها على ترامب وزيلينسكي وعلى العلاقات الأوروبية الأمريكية وعلى روسيا.. التحليلات تأخذ مذاهب شتَّى، لكن الأكيد أننا أمام مرحلة مفصلية في التاريخ العالمي.. زيلينسكي استطاع أن يقول لترامب لن أعطيك ثروات أوكرانيا دون تحقيق ولو جزء من أهداف حربكم التي استخدمتم أوكرانيا أداة فيها، وهو لن يتجرأ على فعل ذلك إلا بإسناد أوروبي خاصةً من بريطانيا وفرنسا وألمانيا.. من المهم الإشارة إلى موقف زيلينسكي ومواقف الزعماء العرب الذين لطالما أرعبهم ويرعبهم ترامب في فترة رئاسته الأولى والثانية، فزيلينسكي الذي قدمت له أمريكا دعماً عسكرياً وسياسياً واقتصادياً وإعلامياً شاملاً، وأولئك القادة الذين يقدمون لأمريكا كل شيء ولا يستطيعون أن يقولوا لا حتى عندما أصبح وجودهم كأنظمة ودول مهدَّداً.. وهنا نسأل هل سيشجعهم زيلينسكي على رفض طلب ترامب بتهجير الشعب الفلسطيني من أرضه إلى هذه البلدان، لاسيما وقد أصبح واضحاً أن العالم يتغير باتجاه نظام دولي جديد؟!.
|