محمد حسين العيدروس -
بين الأمس واليوم مسافة شاسعة تفصل بين زمن مظلم لا يجيد حكامه غير قطع الأعناق أو ارتكاب المجازر، وزمن آخر لا يعرف أشكال الزنزانات، ولا حروب الشوارع التي تتعفن فيها جثث آلاف الضحايا، إنه زمن الحوار والتعددية الحزبية، والحقوق الإنسانية، وزمن الديمقراطية غير المستوردة على ظهور الدبابات أو طائرات الـ"بي52".
هذا الزمن الجديد الذي نفاخر به اليوم أطل فجره منذ السابع عشر من يوليو 1978م حين وضع أبناء شعبنا ثقتهم بالأخ الرئيس علي عبدالله صالح وأولوه أمانة مسئولية حكم اليمن فكان أن ترجم تلك الثقة في العام الأول من حكمه حين أصدر قراراً بتوسيع العضوية في مجلس الشعب التأسيسي كمؤشر أولي على أن زمن الشمولية في طريقه إلى الزوال، وأن اليمن مقبلة على عهد آخر يكون فيه للمواطن العادي نصيب كبير في صنع القرار.
بتقديري أن أولى خطوات الديمقراطية في اليمن كانت توأم العهد الجديد، وانها أرست أولى قواعدها بتأسيس المؤتمر الشعبي العام في الفترة (24-29 أغسطس 1983م) الذي مثل مظلة لكل القوى السياسية الوطنية لتمارس من خلاله مسئولياتها في خدمة اليمن وتنميتها، ومواجهة التحديات الجسيمة التي كانت تواجهها، وفي مقدمتها قضية التشطير التي كانت في صدارة هموم شعبنا الوطنية.
إن الوحدة الوطنية التي تحققت بفضل قيام المؤتمر الشعبي العام كانت هي الأساس المتين للعمل من أجل إعادة تحقيق الوحدة اليمنية، ولولا ذلك لما كانت هناك وحدة يمنية، ومن هنا نجد أن طريق العمل من أجل الوحدة كان هو نفسه طريق الديمقراطية القادرة على خلق لحمة وطنية وإرادة صلبة تترجم تطلعات الجماهير الثورية وتقودها إلى أمانيها.. كما أن الديمقراطية لم تكن مجرد وسيلة لإعلان الوحدة اليمنية، بل مثلت أيضاً أسلوباً سياسياً لحكم الدولة ما بعد إعلان إعادة تحقيق الوحدة اليمنية المباركة، إذ أن دستور دولة الوحدة أقر التعددية الحزبية كأسلوب لنظام حكم في اليمن وللتداول السلمي للسلطة.
ومع أننا قلنا أن الديمقراطية بدأت خطواتها الأولى في الـ17 من يوليو 1978م إلا أننا اليوم نجعل من يوم الـ27 ابريل يوماً للديمقراطية اليمنية لأننا لم ننعم بفرحة كاملة بالديمقراطية آنذاك طالما والوطن كان مشطراً، وكانت تجربتنا حديثة وخبرات قوانا السياسية الوطنية في طورها التجريبي إلا أن شعبنا من صعدة إلى عدن أقبل على صناديق الاقتراع يوم السابع والعشرين من أبريل 1993م بإرادته الوحدوية الجبارة، ليسقط كل المراهنات على وعيه وقدراته على ممارسة الديمقراطية بشفافية وأمانة لأنه يرى فيها سبيل خلاصه الوحيد من إرثه التاريخي الثقيل، ويعدها أداته الآمنة للدفع بعجلة الوطن التنموية إلى الأمام، وترسيخ الأمن والاستقرار وإصلاح كل الأوضاع الاقتصادية والثقافية والاجتماعية المختلفة التي يكابد آثارها شعبنا منذ سنوات طويلة.
لا شك أن الديمقراطية التي تحتفل بمنجزها اليوم هي التي نقلت اليمن من عالم النسيان إلى الحضور الدولي المؤثر والفاعل في ساحة الأحداث.. ومن بلد سلبي يعيش الصراعات الدامية ويقلق جيرانه وإقليمه إلى بلد فاعل يقدم الحلول والمبادرات السياسية ويساهم في حل خلافات بعض دول الإقليم ويلعب دوراً رئيسياً في الاستقرار الدولي بالمنطقة ومن بلد مدان بالسياسات الإرهابية والمجازر والانتهاكات الحقوقية للشعب، إلى بلد ديمقراطي توكل إليه دولياً مهام نشر الديمقراطية ومفاهيم العدل والمساواة بين شعوب المنطقة وترسيخ الشفافية وحريات الرأي والتعبير، ومثلاً أعلى يتحدث عنه قادة الدول الكبرى كلما مر ذكرهم بالتحولات الديمقراطية التي يشهدها العالم النامي.
ولا نريد اليوم أن نتحدث عن المنجزات الداخلية التي تحققت في ظل الديمقراطية لأننا جميعاً نعيشها ونراها بأم أعيننا أينما سرنا من هذا الوطن المترامي.. فالديمقراطية تعني لنا الأمان والاستقرار والسلم الاجتماعي وكل ما سواها لا يمت للديمقراطية بشيء وإنما هو نموذج للجهل السياسي، وللثقافة العقيمة التي تتوقع عليها بعض القوى خوفاً على مصالحها الشخصية والفئوية والحزبية.. فالديمقراطية نقيض العنف.. والاتجاه المعاكس للتخريب والتدمير.. وهي سلوك واضح وصادق لا لبس فيه، ومهما حاول البعض تحويلها إلى شعارات حزبية للاستهلاك المحلي فإنها لا يمكن أن تطاوع أحد في ذلك، ولا يمكن أن تتماهى لأنها حالة وعي ناضجة ترافق الأجيال، ومن سيقف في طريقها سيجد نفسه خلف ركبها بكثير جداً، وأنه وحده الذي يشار إليه بالبنان بأنه الحالة الشاذة الوحيدة في هذا البلد..!.
نقلا عن الثورة