د. طارق المنصوب -
ربما كان لقاء الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر خلال الأيام الماضية مع بعض قادة حركة حماس بالرغم من المعارضة الأمريكية واليهودية لتلك اللقاءات، وإقراره بحقيقة القهر الذي تمارسه الدولة الصهيونية ضد أبناء الشعب العربي الفلسطيني، بمثابة اعتراف من الرئيس كارتر بحقيقة العجز أو التواطؤ الأمريكي الذي تتكرر فصوله في كل مرة يتغير فيها رئيس الولايات المتحدة الأمريكية. لكنه مع كامل الأسف اعتراف تأخر عن ميعاده كثيراً، وربما لو جاء هذا الاعتراف إبان فترة رئاسته للولايات المتحدة الأمريكية لكان وقعه أفضل ولتغير الوضع كثيراً. وهو ما يؤكد تلك المقولة القديمة - الجديدة التي عنون بها السيناتور الأمريكي بول فندلي كتابه «من يجرؤ على الكلام».
ومع أن هذه حقيقة لا ينكرها حتى الأمريكان أنفسهم، يظل الترقب والتفاؤل قائماً لدى بعض القادة والمثقفين العرب لنتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية في كل مرة يقترب فيها السباق الانتخابي من نهايته، ربما على أمل - لن يتحقق أبداً - أن يصعد إلى كرسي الرئاسة الأمريكية من ينظر إلى قضايانا وشئوننا العربية نظرة منصفة وإيجابية أو على الأقل محايدة، وهو الأمل الذي يتضاءل ويخبو في كل مرة يتبين فيها أن اختلاف الواجهات السياسية وشخوص الماسكين بزمام الإدارة الأمريكية لا يعني تغيراً واختلافاً في المواقف الأمريكية تجاه القضايا العربية والإسلامية.
ويتبين أن السياسة الخارجية الأمريكية تقوم على مجموعة ثوابت لا يحيد عنها الرئيس الأمريكي الجديد أياً كانت قناعاته الشخصية أو الوسط الاجتماعي والثقافي الذي يأتي منه، والحزب السياسي أو التيار الفكري الذي ينتمي له، ولو بتفاوت يرتبط بشخص الرئيس الأمريكي أكثر من ارتباطه باللون الحزبي الذي يمثله، وبطبيعة الظروف الدولية التي تفرض على الرئيس الأمريكي تغيير موقفه من القضايا العربية تبعاً لتلك المتغيرات. وربما لاحظ القارئ المتابع للشأن السياسي الأمريكي في مختلف مراحل السباق الطويلة والشاقة إلى البيت الأبيض، وفي طقس تقليدي يتكرر مع كل انتخابات أمريكية أن كل مرشح طامح إلى كرسي الرئاسة الأمريكية يبدأ خطابه السياسي والانتخابي بمغازلة الدولة اليهودية ومعها اللوبي الصهيوني الواسع التأثير في صنع السياسة الأمريكية، ويستمر هكذا طيلة فترة حكمه ليتراجع عن بعض تلك المواقف في نهاية فترة رئاسته أو بعد تركه منصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، وكأنه يرغب في تبييض بعض الصفحات في سجله التاريخي والذاتي.
وعلى الرغم من تلك الملاحظات الأولية، فإنها لا تغير من حقيقة أن الانتخابات الرئاسية الأمريكية جديرة بالدراسة من كثير من النواحي. صحيح أن التجربة السياسية الأمريكية لا تغري أبداً بالتقليد أو المحاكاة في أي مجتمع من مجتمعاتنا العربية والإسلامية، نظراً لاختلاف التركيبة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والأهم اختلاف التركيبة الحزبية التي تقوم على الثنائية، وهي الظروف التي تعني استحالة نقل تلك التجربة إلى مجتمعنا، إلا إنها مع ذلك تدعونا للتأمل فيما جرى خلال المرحلة الأولى من الانتخابات الرئاسية الأمريكية وهي المرحلة التي يخصصها الدستور الأمريكي لإجراءات عرض واختيار مرشحي الأحزاب المتنافسة من بين المرشحين المتنافسين داخل كل حزب سياسي وبطريقة مباشرة.
فالملاحظ أن التجربة الأمريكية خلال تلك المرحلة عرفت صراعاً قوياً على الترشيح بين مرشحي الحزبين الديمقراطي والجمهوري، حسم في صفوف الحزب الجمهوري مبكراً وبعد بضعة جولات كانت حاسمة وكافية لإعلان انسحاب باقي المرشحين واختيار جون ماكين، وهذا أتاح له فسحة كبيرة من الوقت لتنظيم حملته الانتخابية للمرحلة الثانية الحاسمة في اختيار رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، وهو الأمر الذي تعذر في صفوف الديمقراطيين بسبب التنافس الشديد بين هيلاري كلينتون، وباراك أوباما، وتمسك كل واحد منهما بأحقيته في الترشح الذي لم يحسم إلا في الجولة الأخيرة نتيجة عدم احتساب أصوات المواطنين الأمريكيين من ذوي الأصول البورتوريكية ولأسباب قانونية بحتة لا مجال للخوض فيها.
وعلى الرغم من أن التنافس السياسي بين مرشحي الحزب الديمقراطي سجل بعض الممارسات اللاأخلاقية وتبادل الاتهامات بين الطرفين، وبدرجة أكبر من السيدة كلينتون التي سعت إلى نبش بعض الملفات الخاصة بأوباما، فإنه أعطى دروساً عميقة في نزاهة العملية الديمقراطية وجدية المرشحين حتى داخل نفس الحزب السياسي في الحملات الانتخابية، وعدم الاستسلام لاستطلاعات الرأي العام التي أعلنت الفائز في بداية المرحلة، وأهم تلك الدروس أن الخاسر في نهاية المطاف يعلن أمام مرشحيه ومؤيديه تهنئة الفائز ودعمه له في المرحلة القادمة، والأمر نفسه يتكرر في نهاية الانتخابات الرئاسية بعد إعلان فوز أحد المرشحين بمنصب الرئيس الأمريكي، لعلم الجميع أن الحظوظ في الفوز كانت متساوية، وأن العملية برمتها لابد أن تفرز فائزاً في كل مرة، وهكذا هي العملية الديمقراطية.
وهي الثقافة السياسية التي افتقدناها في مختلف تجاربنا الانتخابية السابقة نتيجة إعلان الخاسرين عدم الرضا عن نتائج الانتخابات، وتحميل النظم الانتخابية أكثر مما تطيق وكيل تهم التزوير وتغيير النتائج إلى الخصوم، وغيرها من التهم التي تعكس عدم القدرة على تقبل نتائج الانتخابات، وسيادة ثقافة سياسية تقوم على الشك في الآخر، وعدم تقبل نتائج صندوق الانتخاب إذا أفرزت نتائج غير فوز ذلك المرشح أو تلك الجهة بالانتخابات.
- جامعة إب