أحمد الحبيشي -
إنهم يخططون للانقلاب على النظام الديمقراطي
في الحلقة الأولى من هذا المقال تناولت الأفكار المحورية التي عرضها على الرأي العام بواسطة الصحافة بعض رجال الدين الذين يشغلون مواقع نافذة في الهيئات القيادية لحزب ((الإصلاح)) وكتلته البرلمانية في مجلس النواب، وقياداته العاملة في جامعة الإيمان، بشأن مطالبة رئيس الجمهورية بحضور مؤتمر لرجال الدين في عدن
تنتج عنه محكمة تفتيش دينية يترأسها أحد رجال الدين من أعضاء الهيئة العليا لحزب (الاصلاح) الذي يقود و يوجه أحزاب المعارضة المنضوية في (اللقاء المشترك) الى جانب أربعة فقهاء يختارهم رئيس المحكمة بنفسه ، على أن يتم تشكيل هذه المحكمة الدينية بقرار جمهوري ، وتكون مستقلة عن وزارة العدل ، وليست جزءاً من هيئات ومؤسسات السلطة القضائية ، ولا تسترشد في عملها بالدستور والقوانين بل بالكتاب والسنة !!.
وبموجب الخطة التي عرضها مدرس (الأصول) في جامعة الايمان في تلك المقابلة الصحفية ، ستتولى هذه المحكمة ممارسة التفتيش والرقابة على كافة أجهزة الدولة وهيئات وأفراد المجتمع، بما في ذلك محاكمة كافة قيادات أجهزة الدولة والحكومة وهيئات المجتمع ما دون رئيس الجمهورية، بتهمٍ تتعلق بالمظالم والمفاسد والمنكرات وسوء إدارة السلطة . وبالاضافة الى ذلك تتضمن الخطة التي عرضها مدرس (الأصول) في جامعة الايمان تشكيل هيئة لحماية الفضيلة والتصدي للمنكرات يديرها عدد من رجال الدين الحزبيين بالتنسيق فقط مع ولي الأمر. على أنْ تتولى هذه الهيئة ممارسة مختلف أشكال الرقابة والرصد لكافة المفاسد والمنكرات والمظالم التي يتم ضبطها في أجهزة الدولة والحكومة والمجتمع . بمعنى أن هذه الهيئة ستكون من خلال قيادتها العليا ولجانها الفرعية أشبه بنيابة دينية تقوم بدور المحتسب وتتمتع بسلطة القبض القهري ، بما يمكنها من أن تحيل الى المحكمة الدينية جميع (الموالعة والفاسدين وشواذ الأمة وناشري الرذيلة وحماتها من المسؤولين والصحفيين والكتاب والفنانين والموسيقيين والمفكرين وذوي الرأي المخالف والعلمانيين والمتنصرين ومروجي المخططات والأفكار الصليبية والصهيونية) ، بحسب تصريحات صحفية مثيرة لأحد الداعين الى هذا المشروع.
وفي الحلقتين الثانية والثالثة من هذا المقال حرصت على وضع مسار فكرة التفويض الإلهي لرجال الدين في إطارها التاريخي منذ ارتباط الدين بالدولة على إثر اعتناق الملك قسطنطين في إيطاليا للمسيحية أواخر القرن الميلادي الأول، بعد تخليه عن وثنيته، وقيامه بفرض عقيدة التثليث الوثنية على اللاهوت المسيحي ، ما أدى إلى تعرض الكنائس الشرقية التي لم تؤمن بعقيدة التثليث للاضطهاد والقمع والمجازر الدموية ، وصولاً الى انقسام المجتمع المسيحي منذ ذلك التاريخ الى طوائف متصارعة ومتحاربة صبغت التاريخ الأوروبي بلون الدماء غداة تحول المجال السياسي للدولة الدينية المسيحية إلى سلطة برأسين : (المؤسسة الملكية والمؤسسة الكهنوتية) ، وانقسام المجتمع إلى طبقة عليا تضم الملوك والأمراء ورجال الدين وطبقة وسطى تمثل النبلاء من قادة الجيش والقضاة وكبار الملاك الإقطاعيين وكبار التجار وجباة الخراج والضرائب . فيما تقف تحتها طبقة دنيا تضم الرعية من الفلاحين الأجراء و العبيد والجنود والعاملين الحرفيين في ورش الحدادة والنجارة و الحلاقة والخياطة والتطريز والتزيين وذبح المواشي وبيع اللحوم وتربية الحيوانات والطيور وتوزيع المياه ، وغيرهم من المواطنين الذين يقفون في أسفل الهرم الاجتماعي، ويتعرضون لمختلف أشكال التمييز والتحقير والتهميش والظلم والاستغلال ، حيث فرض التقسيم الطبقي للدولة الدينية عادات وتقاليد ذات طبيعة إقصائية تمنع وصول هذه الفئات الاجتماعية إلى المراتب التي تسمح لها بالاقتراب من قمة هرم السلطة الممثلة بالملوك ورجال الدين، وتحرم أفرادها من العلم الذي كان حكراً على أبناء العوائل المالكة ورجال الدين والنبلاء، كما تمنع في الوقت نفسه زواج المتفوقين والموهوبين الذين ينتمون الى هذه الطبقات الكادحة والمنتجة، من بنات ونساء الطبقة العليا، وتحول دون اشتغالهم بوظائف القضاء والتجارة والتعليم وقيادة الدولة و الجيش .
وفي تقديري أنّ ما عرضته في الحلقات الثلاث الماضية كان ضرورياً للتعرف على البيئة التاريخية التي نمت على تربتها العَلاقة البنيوية بين الملكية والكنيسة، بواسطة الملوك ورجال الدين (الأمراء والفقهاء)، منذ نشوئها في القرن الأول الميلادي المسيحي وحتى سقوط محاكم التفتيش في العصر الحديث ، بالتزامن مع ظهور الدولة المدنية الحديثة ، والفصل بين الدين والدولة، وذلك بهدف تسليط الضوء على مخاطر الدعوة إلى تشكيل محكمة دينية عليا تنطلق من مؤتمر لرجال الدين في عدن ، مدعومة بنيابة دينية تحت مسمى (هيئة حماية الفضيلة ومحاربة المنكرات)، بما تنطوي عليه المحكمة والهيئة من أبعاد انقلابية على الدولة المدنية الموحدة ودستورها ونظامها السياسي الديمقراطي التعددي، الأمر الذي يعكس إصراراً من يخطط لهذا المشروع على الحنين إلى الماضي ، والاقامة الدائمة في عصوره الغابرة ومتونه التراثية الميتة التي عفى عليها الزمن والعصر ، وتجاوزتها المتغيرات التي حصلت في الوطن منذ قيام الجمهورية اليمنية الموحدة التي ارتبطت بالديمقراطية التعددية في الثاني والعشرين من مايو 1990م ، كأساس لدولة مدنية حديثة تحكمها هيئات دستورية منتخبة عبر صناديق الاقتراع ، يحدد الدستور مهامها وواجباتها وآليات مراقبتها ومحاسبتها بواسطة منظومة متكاملة من المؤسسات الدستورية ومنظمات المجتمع المدني ومختلف أشكال المعارضة السلمية وأدوات التعبير عن الرأي والفكر، وصولاً إلى آليات تغيير السلطة وتداولها سلمياً عبر انتخابات تنافسية حرة يُشارك فيها جميع المواطنين والأحزاب والمنظمات على قدم المساواة، سواء من خلال الترشح لشغل وظائف السلطة العليا أو التصويت المباشر عبر صناديق الاقتراع.
من حق القارئ الكريم أن يتساءل عن أسباب اختياري عنواناً رئيسياً لجميع حلقات هذا المقال، يشير إلى أنّ عدن لن تكون منطلقاً للانقلاب على الدولة المدنية الموحدة، وهو ما أتمسك به لبيان المنحى الانقلابي لهذا المشروع الذي أوضح تفاصيله وأهدافه الخطيرة وأهدافه أحد رجال الدين في جامعة الإيمان، عندما شرح لنا بكل صدق وصراحة عبر صحيفة (ايلاف) تفاصيل المشروع الذي تقدم به عدد من رجال الدين الحزبيين أثناء لقائهم برئيس الجمهورية، وطالبوا فيه بتشكيل محكمة دينية لا صلة لها بوزارة العدل والسلطة القضائية، حيث حدد المشروع الذي قدموه إلى رئيس الجمهورية طبيعة مهام تلك المحكمة الدينية، التي تتجاوز الدستور والقانون وهيئات الدولة الدستورية المنتخبة على نحوٍ ما جاء في حوار أجرته صحيفة ((إيلاف)) مع مدرس (الأصول) في جامعة الايمان ، ونشرته في عددها رقم 37 الصادر بتاريخ 6 مايو 2008م ، وهو ما دفعني إلى توجيه النقد للكثير من الزملاء الذين قلت: إنّهم ابتعدوا عن جوهر المشروع بالتركيز على شكله الذي لا يخلو من روح عدوانية تضع سلوك أفراد المجتمع رجالاً ونساءً في موضع الاتهام بالرذيلة والفسوق والخروج عن قواعد الفضيلة حتى يثبت العكس، بيد أنهم تجاهلوا جوهره الخطير الذي ينذر بكارثة كبرى ستطال ليس فقط الحريات المدنية ، بل انها ستقوض الوحدة والديمقراطية في نهاية المطاف !
والحق أقول: إنّ الزميل العزيز فوزي الكاهلي وهو كاتب صحفي و ناشط حزبي معروف في (التجمع اليمني للإصلاح) الذي يتزعم رجال الدين في هيئاته القيادية وكتلته البرلمانية الدعوة إلى هذا المشروع، قد اقترب من وجهة نظري بهذا الشأن ، حين أشار في مقال نشرته صحيفة ((الناس)) التي يمولها حزب التجمع اليمني للاصلاح (العدد 403 الصادر في 26 يونيو 2008م) ، إلى أنّ النقاش تمحور حول سطح هذا المشروع وابتعد عن جوهره . وقد أكد الكاهلي على أنّ الجميع بلا شك مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن الخلافات تدور في كيفية الطريقة التي ستتم بها وأنواع (المعروف والمنكر) التي سيتم التعاطي معها.
أرجو أن لا أكون مخطئاً عندما أفترض أن الزميل فوزي الكاهلي يتفق معي في ضرورة الاعتراف بحقيقة أننا نعيش في عصر جديد ومختلف عن العصور التي سادتها الدول الدينية ، كما أننا نعيش ايضاً منذ الثاني والعشرين من مايو 1990 م في ظل نظام سياسي ديمقراطي تعددي لا يسمح باختزال سلطة الدولة في مؤسستين فقط هما مؤسسة ولي الأمر ومؤسسة رجال الدين ، (الامراء والفقهاء) فإذا صلح الفقهاء صلح الأمراء ، وإذا صلح الأمراء صلح الفقهاء ، على نحو ما كان يقوله فقهاء السلاطين في بلاط السلاطين انطلاقاً من فكر ملكي استبدادي أوضحه الشيخ عبدالرحمن الكواكبي في كتابه الرائع طبائع الاستبداد !!
ومن المفارقات العجيبة انه بقدر ما أعجبني التعريف الرائع الذي قدمه الزميل العزيز فوزي الكاهلي لمفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في صحيفة (الناس)، بقدر ما أرعبني وأزعجني في الوقت نفسه ما جاء في خاتمة ذلك المقال، وبما يؤكد المخاوف المشروعة لمعارضي هذا المشروع الذين وجدوا فيه عدواناً على الحريات المدنية ، ومقدمة للانقلاب على الدولة المدنية الموحدة ومؤسساتها الدستورية ، دون أن يعني ذلك أنّ الزميل الكاهلي يتبنى ويساند هذا المشروع الانقلابي الخطير،على نحوٍ ما سأتناوله في العدد القادم استناداً الى تعريف القرآن الكريم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ما من شك في أنّ ردود الفعل التي تميَّزت بطغيان خطاب التكفير والتنسيق والتخوين من قبل الداعين للمشروع في مواجهة معارضيهم، تكشف الطابع الانقلابي، لما يدعون إليه تحت شعار (حماية الفضيلة والتصدي للمنكرات).. لأنّ السيكولوجيا الانقلابية الإقصائية تتسم دائماً بالنزوع إلى العنف والقمع في مواجهة العوائق التي تعيق نجاح أي مشروع انقلابي تصفوي يسعى إلى التغيير بالوسائل غير المشروعة ، خصوصاً عندما يكون الهدف هو تغيير نظام سياسي ديمقراطي تعددي تحكمه آليات دستورية وتديره هيئات منتخبة، وتحميه حقوق وحريات سياسية ومدنية متاحة ومكفولة للجميع في السلطة أو المعارضة على حدٍ سواء، وحيث يكون الشعب هو وحده مالك السلطة ومصدرها، فيما يكون النظام السياسي موزعاً بين هيئات دستورية منتخبة ومتوازنة، بدلاً من الصيغ التقليدية الانكماشية القديمة التي كانت تحصر السلطة السياسية على الملوك ورجال الدين (الأمراء والفقهاء) وبينهما أهل الحل والعقد من النبلاء والإقطاعيين.
والحال أنّ الداعين لمشروع تشكيل هيئة لحماية الفضيلة ومحاربة المنكرات كانوا سباقين في عرض أفكارهم ورؤيتهم لهذا المشروع الذي أصروا على أنْ يصدر به قرار من رئيس الجمهورية .. وإذا كان من حقهم في إطار التعددية السياسية والفكرية أن يعبروا عن آرائهم وأفكارهم وتوجهاتهم في إطار الممارسة الديمقراطية بصرف النظر عن كونهم يمثلون أقلية سياسية وحزبية معارضة لم يحظ برنامجها الانتخابي بثقة غالبية الناخبين من المواطنين والمواطنات ، فقد كان من حق معارضيهم أيضاً أن يعبروا عن آرائهم وأفكارهم من خلال الصحافة باعتبارها إحدى وسائل التعبير السلمي عن الرأي والفكر والاختيار .
اللافت للنظر أنّ الداعين للمشروع قاموا بردود فعل عنيفة سادتها لغة التكفير والتخوين والتفسيق والتهديد والوعيد لكل معارضيهم ، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ هذا التصرف لا يمكن قبوله حتى إذا وصل هؤلاء إلى السلطة من خلال غالبية أصوات الناخبين . لأن قواعد الممارسة الديمقراطية تستوجب احترام حقوق الأقلية من قبل الأغلبية ، الأمر الذي يطرح تساؤلات مشروعة حول مدى أهلية هذه القوى لاحترام قواعد العملية الديمقراطية في حال وصولها إلى السلطة . مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار أنّه ليس من حق أي جماعات حزبية أو فئوية فرض توجهاتها التي فشلت في كل الانتخابات السابقة على الحكومة المعنية دستورياً بتنفيذ برنامج الحزب الذي نجح في الانتخابات !!
وبوسع الداعين إلى تشكيل مشروع هيئة الأمر والنهي ، تضمينه البرنامج الانتخابي لحزب ((الإصلاح)) أو ((اللقاء المشترك))، والسعي لنيل غالبية أصوات الناخبين في الانتخابات البرلمانية القادمة حتى يتسنى لهم تنفيذ ما يريدونه ويتطلعون إليه ، بدلاً من محاولة إجبار المجتمع على أكل الثوم الفاسد بفم الحزب الحاكم وبقرار جمهوري، والاصرار على فرض برنامجهم وتوجهاتهم الخاسرة، باساليب ملتوية وغير مشروعة على حكومة معنية بتنفيذ البرنامج الانتخابي لرئيس الجمهورية رئيس حزب الأغلبية الذي فاز عبر صناديق الاقتراع بثقة الأكثرية العظمى من الناخبين والناخبات . .
لا ريب في أن كل من يقرأ ردود فعل الداعين إلى هذا المشروع على معارضيهم ، سيُلاحظ إفراط دعاة (الأمر والنهي) في تكفير وتخوين وتفسيق الذين عارضوهم بشجاعة ، وهو ما يميز أي نزعة انقلابية شمولية إقصائية لا تتوافر لها شروط النجاح . ناهيك عن أنّ طبيعة ردود الفعل القمعية التي صدرت عن الداعين الى تشكيل محكمة دينية ونيابات دينية تحت مسمى (محكمة الايمان) و هيئة حماية الفضيلة ومحاربة المنكرات ، كشفت حقيقة أنّ الذين يخططون لهذا المشروع في داخل حزب ((الإصلاح)) و((اللقاء المشترك)) و((جامعة الإيمان)) هم سياسيون بامتياز، وأنّ الدين بالنسبة لهم مجرد غطاء لا غير.
في هذا السياق قرأنا كلاماً خطيراً على لسان القيادي في حزب (الاصلاح) حمود الذارحي ، وكيل شركة ((المنقذ)) لتوظيف الأموال التي تمتلك رصيداً كبيراً من المنكرات ، حيث وصف كل من يعارضون ذلك المشروع بأنّهم ((شواذ الأمة وحُماة الرذيلة وأقلام مأجورة تتطاول على الله والدين والقرآن والرسول والعلماء)) كما أتهمهم ايضاً بخدمة مشروع الهدم ونشر الرذيلة الذي تتبناه الصهيونية ودوائر الاستعمار الغربي ، بحسب ما جاء في تصريحات خطيرة نشرها في صحف عديدة طوال شهر كامل !!؟؟.
على هذا الطريق سار أيضاً عدد من خطباء المساجد وفي مقدمتهم خطيب جامع ((الرحمن)) بالعاصمة صنعاء ، وعضو مجلس النواب عن حزب ((الإصلاح)) النائب البرلماني محمد الحزمي الذي أرعد وأزبد في وجه الصحفيين والكُتَّاب المعارضين لهذا المشروع، ولم يتردد هو الآخر في اتهامهم بالعمالة لمن اسماها (قوى الاستعمار والاستخراب والصهيونية والدوائر الأمريكية) .. كما وصفهم بأنّهم إرهابيون في ثياب صحفية، وأفرط في الاستبداد برأيه حين كتب في صحيفة ((إيلاف العدد 43 بتاريخ 27 يونيو 2008م،)) مقالاً ظهر فيه وكأنّه يخطب من على منبر للخطابة صارخاً: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر.. إنّ هؤلاء القوم يجاهرون بأفكارهم الهدامة.. فأين نحن من أوامره صلى الله عليه وسلّم : «من رأى منكم منكراً فليغيره» !!
ومما لا شك فيه، أنّ كل من يقرأ ردود فعل الحزمي والذارحي والريمي والمهدي والحطامي وغيرهم من المدافعين عن مشروع هيئة (حماية الفضيلة ومحاربة المنكرات) على كتابات معارضيهم في الرأي، لا يجد في تلك الردود الانفعالية والخطابية نقاشاً موضوعياً للأفكار التي احتوتها تلك الكتابات بما يسهم في إعلاء مكانة العقل وإثراء الحوار وتوسيع أطر البحث عن الحقيقة ، بعيداً عن الإدعاء باحتكارها . بقدر ما يجد سباً وشتماً ولعناً وتكفيراً. كما يجد ايضاً تحقيراً صريحاً ومكشوفاً للعقل، بذريعة كاثوليكية كان يرددها رجال الدين في محاكم التفتيش المسيحية، مفادها أنه (ليس من العقل تحكيم العقل) بحسب ما جاء في نص الحكم الذي أصدره رجال الدين في الاكليروس الكاثوليكي بإعدام جاليليو ، ثم نقله الينا عن لاهوت الملوك المسيحيين وفقه السلاطين المسلمين النائب البرلماني عن حزب (الاصلاح) محمد الحزمي صراحة وبالحرف الواحد بواسطة مقال نشره في العدد رقم 39 من صحيفة ايلاف) الصادر بتاريخ 20 مايو 2008 . الى جانب اتهامات خطيرة، تكفي لإرسال كل من يعارض الذارحي والحزمي ومدرس (الأصول) في جامعة الايمان إلى المشانق أوساحات الاعدام أو السجون !!
من نافل القول ان النزعة القمعية الاستبدادية لدعاة (الفضيلة) وصلت ذروتها بصدور بيان تكاد سطوره أن تقطر بالدماء عن مكتب عبدالمجيد الريمي رئيس أحد المراكز الدينية المذهبية، أفتى فيه بتحريم الديمقراطية والانتخابات وحرية الصحافة والأحزاب والتسليم برأي الأكثرية ، و بكفر كافة الصحفيين والكتاب الذين عارضوا مشروع تشكيل هيئة لحماية الفضيلة ومحاربة المنكرات ، واعتبرهم مرتدين عن دين الله بسبب آرائهم التي عبروا عنها في الصحف . ثم وضع أمامهم خيارين.. إما الاستتابة أو القتل.. وهو أدنى ما يستطيع ملالي الإسلام السياسي القيام به تجاه كل من يخالفهم في الرأي والفكروالمذهب ، شأنهم في ذلك شأن رجال الدين في الأكليروس المسيحي، الذين كانوا سباقين في (حماية الفضيلة ومحاربة الهرطقة والبدع و النمكرات) من خلال محاكم التفتيش التي مارست مختلف اشكال القمع والاضطهاد ضد المفكرين والعلماء والفلاسفة والفنانين والأدباء والكتاب ورجال الدين البروتستانت ، وصبغت تاريخ أوروبا الحديث بالدماء وأرهقته بالآلام والمواجع، على نحوٍ ما أوضحتاه في حلقات سابقة من هذا المقال.
بالاضافة الى ما تقدم يمكن الاستدلال أيضاً على مؤشرات النزعة التصفوية الاقصائية لهذا المشروع الانقلابي ، من خلال تحليل مضمون التهديد المبطن الذي وجهه النائب محمد الحزمي خطيب جامع الرحمن في العاصمة صنعاء وعضو مجلس النواب عن حزب ((الإصلاح)) ، إلى كافة الكُتَّاب والصحفيين الذين عارضوا مشروع تشكيل (هيئة حماية الفضيلة ومحاربة المنكرات) ، حيث طالبهم بضرورة ((التزام السكوت والصمت المحقق للنجاة ، لأنّ كل أمريء ما بين فكيه مقتل.. وعلى الصحفيين أنْ يقولوا خيراً أو يصمتوا فهذا خير لهم)) بحسب ما جاء في مقال نشرته صحيفة (الأهالي) الاسبوعية القريبة من حزب (الاصلاح) في عددها رقم 47 الصادر بتاريخ 10 يونيو 2008م .. بمعنى أنّ كل ما يكتبه ويقوله الصحفيون ولا يعجب الحزمي وأمثاله باطل لا خير فيه . لأنّهم وحدهم أي رجال الدين الحزبيين يحتكرون قول الحق والحقيقة ، وينطقون باسم الله، ويصدحون بالخير.. وهم وحدهم الذين ينزل المطر إذا تكلموا أمام رئيس الجمهورية ، حيث لا يحق لأحدٍ غيرهم أن ينتقد رأياً يصدر عن (فقيه) حزبي .. فالرأي الآخر عند ملالي وشيوخ أحزاب (اللقاء المشترك) كفر وعدوان على الله ورسوله يستوجبان التوبة أو القتل كما هو الحال عند رجال الدين في الاكليروس المسيحي .. أما مناقشة وجهات نظر وآراء رجال الدين الحزبيين فهي منكر غليظ .. لأنهم قديسون معصومون من الخطأ وغير قابلين للنقد والنقاش .. ولا حولَ ولا قوة إلا بالله العلي العظيم القائل محذراً من سُنَّة فرعون وهو يخاطب قومه : (مَا أُرِيكُمْ إِلاّ مَآ أَرَى وَمَا أَُهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ الرَّشَادِ) 29 سورة غافر.. وما أصدق المطابقة بين ما أورده القرآن الكريم على لسان فرعون ، وبين ما يقوله للناس أشباه فرعون المتأسلمون في كل زمان ومكان .