سلوى صنعاني -
معهم سلخت أياماً وليالي تناسلت شهوراً كل ليلة يأخذني أحدهم في سياحة جميلة ربما تمتد لأكثر من ليلة.
هؤلاء الرجال النائمون تحت التراب يأخذون وقتي وأياماً من عمري في رحلتي بصحبتهم أناء الليل وبعضاً من النهار.
عالم جميل مفعم بالحب والجمال والمتعة أعيشه بصحبة كل واحد منهم أفضي سويعات معه بمتعة قد لا أجدها في الرجال الأحياء.
لم يجبرني أي واحد منهم على العيش معه.. وصحبته في خلوة تنسيني كل ما حولي ومن حولي بل بكل رضاي وإرادتي.
هؤلاء الأموات الأحياء معهم أسلخ الأيام وهم بجانبي.. لا يفارقون خيالي وتفكيري حتى أصبحت زاهدة في الحياة إلا منهم وبهم.
منحتهم اهتمامي و تفكيري وعششوا في وجداني وأثروه...أعطوني الكثير فأصبحت مدينة لهم بهذا الكثير.
رجال لم أعش معهم وربما من جيل قد سبق الجيل الذي انتمي إليه.. إلا أنني قد تهت فيهم حباً وأغرمت بهم عشقاً.
وحدي في غرفتي ربما يخال لمن حولي كذلك ولكنني مع هؤلاء الرجال الذين سكنوا وجداني وأثروه وأغنوه وحلقوا بي في عوالمهم التي عاشوها ونسجوا من لياليها و أماسيها أجمل الكلمات وأحلى المفردات وأعمق المعاني فملكوني بكل ما بي من أحاسيس ومشاعر تواقة إليهم بل ربما قد يعتقد البعض أنني بالغت أن قلت أن روحي قد التحمت بأرواحهم .. أنهم أحياء ومعهم أحياء يصاحبوني حتى في مضجعي.
أنام وأصحو معهم .. وأركض هنا وهناك طوال نهاري بحثاً عنهم تنقيباً عن كل شيء منهم وأجمل ما لديهم.
عشت معهم أدق تفاصيل حياتهم ، وكم عصف بي الألم والأسى لمصير البعض منهم وعلى رأسهم الشاعر الكبير أحمد شريف الرفاعي الذي صال وجال في مجال الصحافة والأدب فكان مصيره السجن والاعتقال ... وعشت معه تفاصيل ليلة هروبه من وطنه ومدينته التي عشقها عدن خالي الوفاض إلا من آلة كاتبة أخذها متجهاً إلى الحديدة قاطعاً معظم المسافة مشياً على الأقدام . هي شقوة المثقف في عالمنا العربي ... يشقى بثقافته ومعارفه ومواقفه فتكون سبباً في النكال به وقهره.. مثلما رافقته رحلته الزاخرة بالعطاء لدى استقراره بالعربية السعودية .. وعشت انتصاراته وإبداعاته ونيله الجوائز المتعددة ومعه بقيت على أمل العودة إلى الحبيبة عدن ... وكم أوجعني موت الأمل على أهدابه عندما مات غفي حادث مروري ولم تتكحل عيناه برؤية معشوقته ومثله عدد من المبدعين في ساحة الشعر الغنائي وكم أوجعني رحيل الشاعر الفنان اسكندر ثابت الذي عاش أواخر سنينه مهملاً ومات متوجعاً.. ذلك البلبل الذي غنى للثورة عبر المذياع نسمعه من صوت العرب بالقاهرة.. ثم تباع آلته العود التي عزفت للوطن وترجمت أحلامه والآمه بستة ألف ريال عقب موته لإحدى المغتربات...! ولن أسهب كثيراً في سرد عشرات الحكايات عن هؤلاء العمالقة . ولكنني مدينة لهم بالكثير من الإثراء والعطاء والمعارف التي اكتسبتها عنهم. لهم الشكر والشكر والامتنان لأستاذي القدير علي الشاطر مدير دائرة التوجيه المعنوي بالوزارة لإتاحة الفرصة لي للإطلاع والإسهام في موسوعة الشعر الغنائي للقرن العشرين... وجهوده وجهود فريق العمل على هذه الموسوعة.
عن"14اكتوبر"