أحمد عبدالله الصوفي -
التاريخ لا يرحم، وليس بوسع أحدٍ أن يعيد كتابته حسب الأهواء الجديدة وتوظيفه لخدمة أهداف لم تكن حاضرة لحظة صياغة الاحداث لفصول هذا التاريخ، وبالتالي ليس هو لعبة إعلامية أو تخرصات سياسية يمكن سحب التاريخ من سياقه لتكييفه وفق حاجاتٍ لا يستطيع التاريخ التموضع داخل مربعات وحسابات ضيقة.
وواضح من مقابلة العطاس التي بثت في قناة الجزيرة بعد ثمانية أشهر من تسجيلها ان التاريخ بات الهدف الذي يستقوي به من أخرجتهم الأحداث الى خارج المسرح السياسي، فالاستنجاد به وتوظيفه لتبرير مواقف محتدمة وخيارات منعزلة تصبح لعبة يرفض التاريخ ويأبى الاستسلام لها حتى لو كانت تلك الاغراض مسربة لإرجاع التاريخ الى الوراء .. التاريخ يمكن ان يتكرر ولكن مرة بهيئة مأساة وبطولة وأخرى بكوميديا وتحفة سياسية.. وهذا ما أتحفنا به حديث العطاس الذي بدا كوميدياً في كل فصوله ومحاوره.
الهيجان السياسي الذي اعترى واستولى على صوت المحافظات الجنوبية قد مر بمحطات كان أهمها تنظيم احتفال بعيد ثورة اكتوبر في الحبيلين وأمعن المبتهجون بإعلان مرارتهم تأكيد الهوية الجنوبية لاكتوبر.. ولتحقيق هذه الغاية كان عليهم اغتيال عبدالفتاح اسماعيل معنوياً بحجب صوره وتمزيقها بل انتزاعه برعونة من قائمة شهداء يناير المأساوية والتي تلخص كم هي المسافة شاقة وبعيدة بين الرفاق بالامس وكم هي نائية وانفعالية وطائشة لحظة الاحتفال الذي كرس نمطاً من التصفية والفلترة لتاريخ ثورة لا تريد أن يكون لها صلة القربى بزعيم ومناضل أو فدائي من الشمال، كيف لا والذين يحتفلون كانت تأتيهم همهمات وحشرجات متقطعة لاهثة من لندن التي لم تفقد أحداً من جنودها أو يُهاجم معسكر من معسكراتها إلا من قِبل ذلك الفتى الفذ والمناضل النبيل عبدالفتاح اسماعيل، ورفاقه بينما تفرغ الآخرون لإلحاق الهزيمة بسلاطين يمنيين كانوا هدفاً لفهمهم الأرعن لمبدأ الثورة على الاستعمار الذي أصبح الآن ملاذاً لتلك الفرقة الناجية التي احترفت تنظيم المذابح داخل المكون الوطني في الجنوب وفي قلب الحزب الطليعي من طراز جديد.. وواضح ان السير في هذا »التيه الثوري« مستمر ولن يتوقف حتى انتزاع آخر بريق وآخر ريشة من جناح هذه الثورة التي عمد العطاس على تكريس فصلها عن بُعدها الوطني.
> تبرأ من الانتماء الى الحزب الاشتراكي وهذه مسؤولية الحزب الاشتراكي ولن أناقشها.
> تبرأ من مسؤوليته عن الأحداث التي عصفت بالحزب لأنه يتهيأ للعب دور يتوخى العصف بالانجاز الوطني »الوحدة« وهذا ما يجعلني ارتاب من نوايا الحزب والعطاس من يستخدم الآخر..؟
> تبرأ من تقدميته التي كانت تصنف الوطني الجيد ذلك الذي هو الأممي الجيد المعادي للرجعية العربية والتي كانت شتيمة وذماً يلاحق ملوك وأمراء الخليج.
> ما الذي يجعل العطاس يتخلى عن الصدق وهو بصدد مهمة ما لم يكن الصدق جوهرها وأداتها ووسيلتها بل غايتها لن يكتب لها النجاح.. لقد كانت زلاته على نفسه وعلى حزبه هو التبرؤ من طيش تجربة ودليلاً على أنه يقود طيشاً جديداً وهنا يظهر الانقسام في شخصيته وموقفه، فقد أراد ان يلعب دور القائد لما يسمى الحراك لكنه أخفق في إظهار ملكة القيادة، ربما بسبب أنه يتدرب على دور جديد لم يكن يألفه أو قد اختبره.
> لقد اقترف أبو بكر العطاس زلة لا يتمادى فيها ذكي بحجم قدرته الإدارية إلا بسبب أنه جديد في عالم السياسة فقد قال في حديثه أنه أقحم في عضوية المكتب السياسي أي لم يوافق على الاختيار لتبؤ هذا المركز الرفيع الذي أهله يوماً ما ليكون رئيساً لمجلس الشعب الاعلى وكأن الحزب الاشتراكي الذي أنا اعتز بإرثه الثقافي ولا أوافق على سلامة منهجيته ولا أطمئن على أداء قياداته هو الذي جلبه بعد ٢٢مايو ليكون رئيس وزراء ويتصدر صفحة تاريخ أمعن المذيع ان يقدمه كأول رئيس وزراء لدولة الوحدة.. هذا الحلم الذي يجمع بين أطيافه قامات مثل عمر الجاوي والفقيد الشحاري وعبدالفتاح اسماعيل وعلي عنتر وصالح مصلح.. هذا الامتياز نكأ جرحه واستنزف طاقته وأطفأ بريقه حين تحدث خارج الذات بمزاعم لاتتصل بالذات.. علماً أنني صاحب الدعوة والشهادة أنه افضل رئيس وزراء.. ولكنني استغرب ان يصدر عنه تصريحان غريبان كل الغرابة في إطار التلاعب بالتاريخ وتجيير حقائقه.. فالأولى: قال إن الحزب الاشتراكي قد شكل لجنة برئاسة سالم صالح (الحزب يعني المكتب السياسي في حديثه للتصحيح فقط) واعتكفت هذه اللجنة في مكان منعزل حتماً توافرت فيه كل سبل الراحة وهيأت لهم دروب التفكير النقي والالتصاق بحاجات المصلحة.. اعتكفت للتوصل لقرار يحدد موقف الحزب من الوحدة اليمنية من الوحدة الوطنية وهنا الصاعقة.. يعترف العطاس حتماً ليس بسبب أنه أحد أعضائها أو المتحكم بتوجهاتها لأنه لم يقل ذلك ولا يمكننا أن نقوِّله أنه كان كذلك، وإن أراد في سياق الحوار أن يوحي ويسجل للتاريخ شهادته أنه لم يكن يريد الوحدة.. وان اليمن الواحد كان مختلفاً كاختلافه مع علي عنتر لهجة وهيئة وثقافة وبُنية بل وطلاقة في اللسان والتفكير.. ولكنه للأسف قدم شهادة ستوصم تاريخ الحزب الاشتراكي أنه ماكر، انه كان يبيت استراتيجية بقاء اليمن يمنين، وان شعار الحزب الذي كان يلصق في كل جدار والمكون من اهداف ثلاثة إحداها تحقيق الوحدة اليمنية كان كاذباً ويمت بصلة لهدف التمدد على الجغرافيا لخدمة الايديولوجية لا باعتباره شعوراً وطنياً ويمت بصلة لقضية استراتيجية للشعب اليمني بل جزءاً من أهداف الاستيلاء على الجغرافيا لخدمة معسكر يزعم ان استخدام المشاعر الوطنية المدخل للبرهنة على الأممية وهذا يتناقض مع ما يقوله العطاس أنه لم يكن اشتراكياً ولم يكن قيادياً وبراءته من عضوية المركز القيادي في الحزب حين كان دولة وفكرة وارتباطات استراتيجية، واليوم حين أصبح بذرة وارتبط مصير أعضائه باحتياجات ظل يثني عليها بحرارة للملكة العربية السعودية التي دون شك تغدق عليه ليس بسبب أن يلعب هكذا دور ولكنها تريده ان يعترف أن تاريخه ودوره لا يُنسى، ولكن العطاس أبى الا أن يكرس هذا القدر من التمادي الذي يجعل مني أنا صديقه وأحبه وأعتز أنني يوماً كنت أحد العاملين في إطار حكومته، ومع ذلك أرفض أن تنزلق مثل هذه العقلية الجميلة الى مهاوي التناقض الصارخ الذي لا تجعله يحافظ على تميزه ولا يستحق أوهاماً قادمة مثل قوله أو شهادته او اعترافه أنه التقى بصدام حسين قبل الحرب أوشن العدوان على الكويت بيوم فقد أزكى لنفسه مواقف مبهرة وكأنه يستدر دموع وتعاطف الجلابيب الخليجية ويعزف على وتر البداوة الكامنة فيها ليعلن أنه كان له موقف ضد احتلال الكويت أو غزوها، وكأنه حاكم مقام نفسه، بينما كان في تلك الزيارة التي أبى وتمنّع شرح تفاصيلها وسرد مكوناتها وتفصيل أسبابها وعرض موضوعها والاعتراف بمن أرسله باعتباره رئيس حكومة يحدد رئيس دولة كان ولايزال يقودها الرئيس علي عبدالله صالح ويحدد مضمون رسائلها ويعين من يحملها، لكنه دون أن يدري قال ما لم يستطع أن يقوله ويأبى كبرياؤه أن يقوله الرئيس علي عبدالله صالح الذي أُتهم أنه كان جزءاً من سيناريو يقوده صدام حسين ويضيف الرئيس علي عبدالله صالح باعتباره أهم حلفائه، لكن العطاس برأ الرئيس علي عبدالله صالح وتحدث بلغة صريحة تبدو شخصية لكنها في مضمونها اعتراف أن الرئيس صالح هو من حمّله تلك الرسالة وهو من لقنه التعبير عن ذلك الموقف إزاء غزو الكويت، وهو فعلاً مستهجن ان تقوم دولة قوية وكبيرة بفرض إرادتها على دولة صغيرة.. وأنا أسأل عزيزي وحبيبي حيدر العطاس الذي اعتبره من أفضل القدرات في إدارة الحكومات: لماذا لم يقل أنه كان مرسلاً من الرئيس علي عبدالله صالح أو حتى يقول أنه مرسل ليعبر عن موقف مجلس رئاسة ليوزع فضيلة ما قاله على غيره ممن كانوا مرؤوسيه، أنا حزين جداً خلال أسبوعين لأنني أنفقت زمناً طويلاً لأسمع جديداً من رجل بإمكانه أن يكون جديداً دائماً، لأننا نفتقد لملكته إلا أنه يأبى إلاّ أن يكون جزءاً من جوقه ترتل وتعزف وتنشد وتبتهل لكل صور التيه السياسي بذريعة أنه يمثل حراكاً وأخشى أن يكون في محصلته نمطاً من التحريك الذي التهم ودمر وحطم كل صور الحياة في تجربة لم يبقَ منها سوى هذا الشعور الحزين، بأن يذهب هذا الرجل الجميل المتميز سدىً في طريق كله دماء وظلام وغربة وحنين الى وطن بين يديه، ولكنه لا يسترشد بحدسه وموهبته في الإدارة فأصبح يُدار، وأذكره ان ابراهيم -عليه السلام- كان أمة وأتمنى أن أتحدث إليه كما كنت بحوار مباشر حتى لا نفقد قامة إدارية تنزلق خارج التاريخ وهي تنهمك في إعادة كتابة التاريخ هو مِلك للشعب اليمني وحده.<