الأحد, 26-أبريل-2009
الميثاق نت -  د طارق أحمد المنصوب -
يعرف واقعنا اليمني اليوم قضايا كثيرة متشابكة ومتعددة الأبعاد والجوانب، يتداخل فيها الحقوقي أوالقانوني، مع السياسي والثقافي، والاجتماعي مع الأمني. وهي قضايا فرضها الإيقاع المتسارع والمتلاحق للأحداث في الساحة السياسية الوطنية، حتى أنه لم يدع لنا جميعاً مجالاً لالتقاط الأنفاس وحشد الطاقات، ولملة الصفوف ورصها، وتضميد الجراح ومداواتها.
بعض تلك القضايا يحتاج إلى مراجعة نصوص الدستور أو القانون الذي ينظمها، رفعاً لكل لبس أو تفسير غير صحيح لتلك النصوص، وهذه مهمة القانونيين؛ وبعضها الآخر في حاجة إلى وقفات طويلة للدراسة والتأمل والقراءة الواقعية، لإبداء الرأي الواضح والشفاف والصريح من أجل وضع نهايات أو حلول مقبولة لها، وأحسبنا جميعاً معنيين بذلك، إذ لم يعد يفيدنا أو يفيد وطننا اليمني الكبير الاكتفاء بدفن الرؤوس في الرمال، أو اللامبالاة أو المواربة في الحديث عنها، أو انتظار ما سيتمخض عنها كأنه قدر لا فكاك لنا منه.
من أبرز القضايا، الآتي: المطالبات المتكررة لرفع الحصانة البرلمانية عن بعض النواب، وتأجيل الانتخابات، والتداعيات السلبية التي شهدتها بعض المحافظات والمديريات اليمنية بهدف إثارة النعرات الانفصالية والمناطقية والطائفية، وتجدد المعارك في صعدة، وحرب الإرهاب وجرائم التفجير والاختطافات ... وكثير من الأحداث التي شهدها مجتمعنا اليمني خلال الأشهر والأيام الماضية بهدف إثارة الأزمات وزعزعة الاستقرار وتهديد الأمن، في تسارع ملحوظ، وتزامن عجيب، ولا يكاد ينغلق ملفاً حتى ينفتح عشرات الملفات غيره، في تواتر غريب يثير الريبة والشبهات.
وهو ما يعيد إلى الذاكرة الوطنية – مع الفارق الكبير في بعض التفاصيل، وفي التوقيت والملابسات، والأطراف التي تقودها، والمصالح التي تقف وراءها - الأحداث المماثلة التي شهدها وطننا اليمني بعد قيام الثورة اليمنية وبدايات تثبيت دعائم النظام الجمهوري، حين وقعت الجمهورية الوليدة ضحية مؤامرات خارجية وداخلية تبغي الانقضاض عليها في مهدها، بهدف إعاقة وصول الثورة اليمنية إلى محافظات جنوب الوطن، وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل قيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر المجيدة. وقد يتساءل القارئ عن الرابط الذي يجمع تلك الأحداث والقضايا المتنافرة والمتباعدة؟ ونعتقد، إن الخيط الرفيع الذي يجمعها أنها تمثل تحديات لنظامنا السياسي الجمهوري، ووحدتنا الوطنية، وتجربتنا الديمقراطية الناشئة. أي باختصار لثوابتنا الوطنية، وهويتنا العربية والإسلامية.
وهذا دعانا في مناسبات عديدة إلى تناول بعض تلك القضايا وتداعياتها وسلبياتها وآثارها. وسنواصل هذه التناولات بالحديث عن الحصانة البرلمانية، وما أثارته من لغط في الأوساط السياسية والقانونية اليمنية، خاصة في بعض الحالات التي كانت مبررات طلب رفع الحصانة البرلمانية ذات علاقة بتصرفات النواب الماسة بتلك الثوابت، وسوء تقديرهم لمعنى الحصانة البرلمانية ونطاقها وحدودها. وهذا ما سنتناوله في هذا المقام.
فلكي يمارس أعضاء البرلمان مهامهم الجليلة داخل النظام السياسي، يجب أن تتوفر لهم ضمانات هامة تكفل قيامهم بواجباتهم على خير وجه. ومن هذا المنطلق تضمن النظم الدستورية الوضعية الشخصية للبرلمانيين لضمان استقلالهم حيال الحكومة، كما أنها تجعلهم في منأى عن الملاحقات القضائية التي يمكن أن تمارسها الحكومة ضدهم، بفضل ما يعرف بمنظومة الحصانة البرلمانية Parliamentary immunity، التي تعد بمثابة الحصانة القضائية التي تحمي النائب وتصون حرمته الشخصية والوظيفية.
والحصانة البرلمانية تعني: "عدم مسئولية النائب البرلماني عن الأفعال والأقوال التي يقوم بها أثناء أداء مهامه وفقاً للقانون". وهي تنقسم وفقاً لفقهاء القانون الدستوري إلى نوعين: «عدم المسئولية»، والحرمة الشخصية أو ما يعرف «بعدم الانتهاك»؛ فعدم المسئولية يقصد بها حصانة النائب وحمايته من كل الملاحقات أو رفع الدعاوى الجزائية عليه بسبب الآراء والأقوال والأفعال التي تصدر عنه أثناء ممارسته لعمله النيابي سواء داخل أم في إطار اللجان التي يشكلها البرلمان، وهو ما يمكنه من ممارسة وظيفته بحرية كبيرة دون متابعة من الأفراد أو الحكومة. وهذه الحصانة هي وحدها التي يجب أن يحميها القانون، ويكفل عدم التعرض للنائب البرلماني تحت أي ذريعة أو مبرر. والامتيازات الممنوحة للنائب في إطار هذا النوع من الحصانة البرلمانية - باستثناء ما يصدر عن النائب من أعمال تخرج عن نطاق ممارسته لمهامه مثل: القذف أو السب - تعد جزءاً من النظام العام يكفلها الدستور، ولا يجوز للنائب أن يتنازل عنها. والمادة (81) من الدستور اليمني تحدد الأمور والتصرفات التي تندرج ضمن نطاق «عدم المسئولية» البرلمانية، والاستثناءات الواردة عليها.
أما الحرمة الشخصية، وتحددها المادة (82) من الدستور اليمني، فيقصد بها كفالة حرمة النائب الشخصية، وهي متصلة بأعماله الشخصية خارج البرلمان أي خارج ممارسته لوظائفه، أو عند ارتكابه مخالفات جزائية تتعلق بالحق العام، وهي تحول دون متابعته جزائياً أثناء دورات البرلمان إلا بإذن هذا الأخير، وتهدف إلى تجنب ملاحقات الحكومة لأعدائها على نحو غير مبرر، لمنعهم من المشاركة في المناقشات. وفي كثير من دول العالم لا يطبق مبدأ «عدم الانتهاك» إلا فيما يخص الملاحقات الجزائية في الجرائم والجنح، ما عدا حالات التلبس بالجريمة، حينها يمكن للبرلمان أن يصوت على رفع الحصانة التي كانت تحمي النائب البرلماني الذي ارتكب تلك الجرائم أو الجنح.
والأصل في الموضوع بصفة عامة، أن عضو مجلس النواب في أي نظام سياسي يمارس تلك المهام نيابة عن الشعب الذي أعطاه ذلك الحق بصفة مؤقتة، ولم يمنحه تنازلاً نهائياً أو شيكاً على بياض يبرزه في كل وقت وحين. وعلى كل عضو في البرلمان أن يتذكر أنه يمثل أبناء دائرته التي انتخبته لمدة محددة من الزمن، طالت أو قصرت، وبعدها يمكنهم وحدهم أن يعيدوا انتخابه أو ينتخبوا شخصاً غيره، إن وجدوه غير جدير أو أهل بتلك الثقة التي منحوها له. ولذا فليس من حقه أن يتصرف كما لو أن القانون يعني أشخاصاً آخرين، أو أنه فوق القانون، كما تفرض عليه واجباته أن يكون أكثر الناس إطلاعاً على نصوصه، وأكثرهم فهما لتلك النصوص، وأشدهم حرصاً على تطبيقها، لا العكس.
ومن باب التذكير كذلك ليس إلا، فإن أعضاء مجلس النواب يشتركون مع كل مواطن يمني في ضرورة الالتزام بثوابت النظام السياسي، وصون وحدته والحفاظ على استقلاله وسلامة أراضيه، يفرضها عليهم واجب المواطنة، كما تفرضها عليهم اليمين الدستورية التي أقسموها عند انتخابهم أعضاء في مجلس النواب؛ فقد جاء في المادة (160) من الدستور اليمني نص (اليمين الدستورية) التي يؤديها رئيس الجمهورية ونائبه، وأعضاء مجلس النواب، ورئيس الحكومة، ورئيس وأعضاء مجلس الشورى، وجاء فيها: " أقسم بالله العظيم أن أكون متمسكاً بكتاب الله وسنة رسوله، وأن أحافظ مخلصاً على النظام الجمهوري، وأن أحترم الدستور والقانون، وأن أرعى مصالح الشعب وحرياته رعاية كاملة، وأن أحافظ على وحدة الوطن واستقلاله وسلامة أراضيه". وفيما يخص عضو مجلس النواب، تجعل المادة (76) من الدستور اليمني، أداء اليمين الدستورية علانية شرطاً لمباشرة مهام العضوية في المجلس.
ترى كم نائباً في برلماننا اليمني الموقر أدى تلك اليمين مؤمناً بما جاء فيها؟ وهل يدرك أنه ملزم باحترام وتطبيق هذا القسم؟ وكم واحداً منهم يعي المضامين التي وردت في تلك المادة؟ أترك لهم حق الإجابة بأنفسهم عن هذه الأسئلة، ومراجعة ممارساتهم على ضوء تلك الإجابات، وتقييم أداء كل نائب برلماني بمعيار الالتزام بتلك البنود، أي البنود المتعلقة بالحفاظ على الشريعة الإسلامية، والدفاع عن النظام الجمهوري، واحترام الدستور والقانون، ورعاية مصالح الشعب وحرياته، والحفاظ على وحدة الوطن واستقلاله وسلامة أراضيه، وغيرها من البنود التي انتخب من أجل تحقيقها والدفاع عنها. لا بمعيار الحضور والغياب خلال دورات الانعقاد، والتهافت على الامتيازات والحصانات والرتب والألقاب، والتمديد وغيرها من المعايير التي يبقى لنوابنا اليمنيين شرف سبق العالم إلى اختراعها، وتحقيقها. ولنا عودة إن شاء لمواصلة الحديث.
تمت طباعة الخبر في: الأحد, 24-نوفمبر-2024 الساعة: 02:52 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-10033.htm