أنور نعمان راجح -
بعد الغول والعنقاء يأتي الخل الوفي ضمن ما عُرف بالمستحيلات الثلاث ـ وربما صارت أكثر في هذا الزمن، لكن ما قد يدعو للغرابة عند البعض كيف يكون الخل الوفي أو الصاحب الوفي خرافة شأنه شأن الغول والعنقاء؟.
الحقيقة أنه لايمكن لأحد أن ينسف هذا المثلث لإخراج الصاحب الوفي وإعادته إلى عالم الحقائق بعدما كان مستحيلاً لاوجود له في الواقع على مر العصور، وإن أدعى الكثير من الناس حباً ووفاء، خصوصاً في زمننا هذا الذي يحسب الزيف فيه والخداع والنفاق سياسة، فيظهر لك صاحبك الوفاء وهو ألد الخصام.
إن مسألة التصنيف للمستحيلات قد جاءت خلاصة تجربة عند السابقين، وهي تجربة لايستهان بها، ولا من العقل تجاهلها والنظر إليها بعين الاستخفاف والاحتقار، ومن المؤكد أن الخلاف الذي يبدأ أحياناً حول الخل الوفي وصحة وجوده ضمن اللاموجود في الواقع كثيراً ما يتكرر، إذ إن وجوده ضمن هذا المثلث يعد بمثابة الصدمة عندما يعرف من لايعرف أن الخل الوفي هو المستحيل الثالث وهو مايستدعي إعادة تشكيل الوعي وفق هذه الحقيقة، وإعادة رسم القناعات مع الأخذ بعين الاعتبار تجربة السابقين الذين اقتنعوا أن الخل الوفي هو ثالث المستحيلات بمعنى لا وجود له في أرض الواقع، وإن استطاع أحدهم أن يخدعك بوفائه لأيام وأعوام فإن النتيجة المؤكدة أنه سيضاف إلى المكان المحدد وهو الضلع الثالث في مثلث المستحيلات.
أقول هذا الكلام ومازال في نفسي شيء من عدم الاقتناع بصحة أن يكون الخل الوفي والصديق الوفي ضمن الخرافات، لكن كيف مرت هذه الثقافة على مر التاريخ ولم يدحضها أحد ولم يجرِ إسقاط أحد مكوناتها وبقيت المستحيلات كما هي، وإن قيل إنها صارت أكثر، نظراً لتعقيدات هذا العصر وتناقضاته التي حولت الكثير من المبادئ والقيم والحقائق أيضاً إلى خرافات ومستحيلات.. مازال في نفسي شيء أن لايكون الخل الوفي ضمن المستحيلات من باب التمسك بالوفاء والاصرار عليه، ولأن حقيقة من هذا النوع وبهذه القسوة تضعك بين قوسين أنت وكل من له صاحب وكل من هو صاحب لغيره أو يدعي شيئاً من ذلك.
الشواهد التي نجدها كل يوم تدفع نحو الاقتناع بالمستحيل الثالث فثمة أصدقاء بالأسس صاروا أعداء ولاعزاء إلا للوفاء فقط هو الذي جرى التخلي عنه، وثمة أصدقاء كانت بينهم قواسم كثيرة مشتركة وبينهم من الحب ما يغرق الأرض فيجعلها تنبت أزهار محبة ورياحين وداد ثم بعد ذلك لا تجد إلا الحقد والكراهية التي تنبت الأشواك.
اليوم تدخل السياسة سبباً جديداً وكبيراً لنسف القيم والمبادئ النبيلة والمحبة والوفاء.. السياسة أكثر من غيرها تجعل من الصاحب عدواً ومن الشقيق عدواً ومن الوطن عدواً ولاتعترف عند الكثير من الناس بالوفاء والاخلاص، وبذلك تؤكد السياسة أنها أكدت المؤكد، وهو أن الخل الوفي هو المستحيل الثالث حيث لايمكن بعد ذلك إخراجه من دائرة الخرافة والعدم.. وعندما لايكون الوفاء حاضراً فلن يقتصر الضرر على الصاحب الذي فقد صاحبه لأنه فقد وفاءه، وإخلاصه، بل سيصل الضرر إلى الجميع في المجتمع، فمن لم يكن وفياً لصاحبه لن يكون وفياً لغيره من الناس ولن يكون الوفاء ضمن مفردات قاموس حياته، ومن المؤكد أن هناك مفردات أخرى سوف تحل محل الوفاء ليصبح ذلك الإنسان قاموساً للبشاعة والقبح، وبهذا ندرك سر الصراعات والخلافات التي تجتاح أوقات الناس وتفتح أبواباً للشر حيث يقتتل اليوم أصدقاء الأمس وفي طريق الصراع يسقط الضحايا وتسقط الأوطان وآخر الشواهد أطراف الصراع في الصومال اليوم.
عن "الجمهورية"