أ.د طارق أحمد المنصوب* -
لست في مزاجٍ جيد يمكنني من الدخول في نقاشٍ عميقٍ، أو حتى سجالٍ عقيمٍ مع كل من يعتقد أن من حقه الحديث عن العودة بالأوضاع في مجتمعنا اليمني إلى ما قبل الثاني والعشرين من مايو 1990م، وعن مشروعية النضال أو الحراك الجنوبي حتى تحقيق الانفصال، خاصة إن ظل متعصباً لرأيه هذا، ولم يترك متسعاً لكل حوار ودي أو حديث قد يمس تلك القناعات والمسلمات.
لكنني أعتقد أن الواجب الديني، ومصلحتنا الوطنية تفرض علينا جميعاً الدخول في حوار مباشر وعقلاني وهادئ ومتزن ومنصف ومنطقي، بعيداً عن العواطف المتشنجة والانفعالات المتأججة، مع كل من يرى أن له حقاً في طرح ما يطرح. على الأقل من منطلق «أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً» بمعناه الإيجابي أي نصرة المظلوم وكف الظالم عن غيه وظلمه، لا بمعناه السلبي أي النصرة والتعصب في جميع الأحوال بغض النظر عما إذا كان هذا الطرف ظالماً أو مظلوماً. ومن باب أن كل واحدٍ منا يمتلك فقط نصف الحقيقة، ولا يمكنه أن يرى النصف الآخر منها إلا إذا استمع بإنصات إلى الطرف الآخر، وقبل بحقه في أن يكون رأياً مخالفاً، بغض النظر عن صوابه أم خطئه. لأن وطننا اليمني يستحق منا هذا، ووحدتنا الوطنية تستحق منا أن نبذل في سبيلها كل الجهود من أجل الحفاظ عليها وترسيخها وتقوية الإيمان بها، وتعزيز الثقافة الوحدوية لتذليل الصعوبات التي تقف في وجهها، ومجابهة التحديات التي قد تواجهها أو تعرقل مسيرتها وبقاءها.
بداية أيها الأخوة والأشقاء اليمانيون في جميع بقاع الأرض اليمنية الطيبة، دعونا ننطلق من أرضية صلبة نقف عليها، وهي أرضية الوحدة اليمنية واليمن الواحد، وأن تاريخ شعبنا اليمني عبر الحقب والعصور ظل تاريخاً واحداً موحداً مع تعدد الدويلات وتباين أنظمة الحكم السياسي، واختلاف المصالح بين تلك الدول والأنظمة، كما أن تاريخ النضال اليمني ضد المستعمر البريطاني وحكم الأئمة ظل واحداً بشهادات رواد الحركة الوطنية اليمنية ورجالها الأحرار، ولا يمكن أن يأتي اليوم من ينكر علينا هذا الإرث التاريخي المشترك الذي بات من حق الأجيال القادمة، إرضاء لمطمع شخصي أو تلبية لنزوة عابرة سرعان ما تزول إلى غيرها.
ثم، دعونا نطرح على أنفسنا بعض التساؤلات، وليبحث كل واحد منا بنفسه عن إجاباتها في كتب التاريخ، وقصاصات الصحف اليمنية أو العربية القديمة، أو في سير المؤرخين ورجال الثورة اليمنية التي واكبت أحداث الثورتين اليمنيتين، ومنجز الوحدة اليمنية؛ ليس بنية التوثيق أو الأرشفة، ولكن بنية وضع الحقائق في موضعها الحقيقي، ولكشف زيف بعض الروايات والأحاديث والتصريحات الصحفية والخطابات السياسية المفبركة، التي تعتمد على ضعف الذاكرة الوطنية خاصة في أوساط الشباب اليمني الذي لا يعرف كثيراً من وقائع التاريخ اليمني الحديث والمعاصر، ونسيان كثير من الناس لكل ما جرى في الساحة الوطنية عبر العقود الخمسة الأخيرة من تاريخ الوطن اليمني الواحد، وتناسي بعضهم الآخر لكل ما جرى، والتركيز على بعض الأحداث المنتقاة، والتصرفات الخاطئة التي اقترفت خلال السنوات التسعة عشر من عمر الوحدة اليمنية، بغرض الإساءة إلى منجز الوحدة اليمنية وإثارة الحنق والضيق من الوحدة اليمنية، وتحميلها كافة السلبيات المرتكبة، وهي التصرفات والسلبيات التي نرفضها جميعاً بوصفنا مواطنين يمنيين في جميع محافظات الوطن، بصرف النظر عن انتماء مرتكبيها ومراتبهم، وانتماءاتهم المكانية والاجتماعية والسياسية والوظيفية.
أول تلك الأسئلة، لماذا يصر بعض إخواننا وأبناء جلدتنا من قادة «النضال من قاعات الفنادق الفخمة، وعبر شاشات التلفزيون» على الإساءة إلى الوطن والإنسان اليمني، وإلى منجزه الوحدوي الهام في الثاني والعشرين من مايو؟ ولماذا يطلون علينا في كل توقيت لمناسبة وطنية ليفسدوا علينا روعة الاحتفال بها؟ ولماذا يسعى بعضهم إلى تغيير المسميات وقلب الحقائق وتزييف الوقائع وتصوير الأمور على غير ما هي عليه؟ ولماذا يصرون على التنصل عن كل الروابط الوطنية والتاريخية والقيم الدينية والأخلاق الإنسانية التي تربطهم بالوطن اليمني؟ ولم يحاولون التجرد عن كل مسئولية اقترفوها أو جرم ارتكبوه في حق الوحدة والشعب اليمني عبر تاريخهم الطويل في حكم جزء غالي من أرض اليمن؟
ربما أصيبوا – بسبب طول مدة البعد عن الوطن وهموم مواطنيه - بفقدان ذاكرة مؤقت أو مستدام، فلم يعودوا يتذكرون ما صنعته أيديهم، وما اقترفته في حق هذا الوطن وأهله، مع أن كتب التاريخ لم تنس تدوين ما اقترفوه من جرائم يندى لها الجبين، وتعاقب عليها القوانين الدولية. وربما هي سياسة الانتقاء المتعمد التي تدفعهم إلى اختيار بعض الأحداث التاريخية، والقفز على غيرها مما يدينهم ويحملهم مسئوليات وطنية وتاريخية تجرم ساحتهم، وتوجب محاسبتهم ومعاقبتهم وطنياً ودولياً بتهم كثيرة، منها: ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية « زرع ملايين الألغام على الحدود، المقابر الجماعية المكتشفة في مدينة عدن»، وقصف المدن بالصواريخ سنة 1994م، والتصفيات الجسدية المتعاقبة لقيادات سياسية وحزبية، واغتيال ثلاثة رؤساء دول «أحمد حسين الغشمي، وسالم ربيع علي، وعبد الفتاح إسماعيل»، وجرائم الحرب المرتكبة ضد الإنسان اليمني خلال حروب الجبهة الوطنية، وانتهاك الأعراض، ... وغيرها، حتى إن قيل إن الوحدة تجب ما قبلها، وأن علينا أن نفتح صفحة بيضاء، أو صدر بحقهم قرار عفو رئاسي، فإن العفو أو الصفحة البيضاء يجب أن يعاد فيها النظر بسبب المتغيرات التي استجدت على الساحة اليمنية، ويجب أن يلاحق هؤلاء بتهم ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية.
ولهؤلاء، وغيرهم نعيد التذكير ببعض الأحداث والمسارات التي ساهمت في خلق الأوضاع المأساوية التي يدعون أنهم يرغبون في معالجتها، مع أنهم من ساهم في خلقها. فمثلا: كان الأخ علي سالم البيض، في 22 مايو 1990م، يتمتع بسمعة طيبة في أوساط جميع أبناء المجتمع اليمني، من حضرموت إلى صعدة، وصورته يرفع علم الوحدة اليمنية جنباً إلى جنب مع الرئيس علي عبد الله صالح، لا تفارق مخيلة أحد ممن عايش تلك اللحظة التاريخية، وهي اللحظة ذاتها التي جعلت كل من يعرفون تاريخ الرجل يغفرون له كل خطأ، ويتجاوزن عنه كل زلل اقترفه قبل إعادة الوحدة اليمنية. فلماذا يصر على استمرار الإساءة إلى نفسه وإلى تاريخه، وإلى الصورة الجميلة التي ارتسمت في مخيلتنا جميعاً؟ ولماذا يجعل نفسه معولاً لهدم ما ساهم هو نفسه في تحقيقه؟ وهل يرضى لنفسه أن يدخل كتب التاريخ اليمني، بصفته واحداً ممن وأدوا حلم الوحدة اليمنية والعربية إلى الأبد، بعد أن كان طرفاً في إعادة لحمة الوطن والشعب اليمني؟ بئس التاريخ إذن هذا الذي يسعى إليه، وبئس الناصح الذي أشار عليه به، وبئس الهدف الذي يدفعه إلى ارتكاب هذا الجرم.
وإذا كان هذا هدفه المعلن، فهل يتوقع أن يتحقق له الآن بخطاب سياسي بائس ومتهافت ومليء بالادعاءات والأكاذيب والمغالطات التاريخية واللغوية والقانونية، ما عجز عن تحقيقه عندما كان على رأس السلطة، ولديه جيوش وميليشيات، ودعم دولي وإقليمي واسعين، مما لا يتوفر له منه شيء اليوم؟ هل نسي أن الوحدة اليمنية صمدت بإرادة الله، وإرادة كل أبناء المجتمع اليمني الشرفاء من أقصاه إلى أقصاه؟
ترى ألم يكن حرياً به، وبرفاقه من دعاة وقادة الانفصال أن يبقوا في خندق الدفاع عن مسار الوحدة اليمنية، ويحاولون إبطاء إيقاعات الاندماج، وإصلاح ما اعتور تلك المسيرة، وأن يجاهروا برفع الصوت عن كل خطأ أو ممارسة غير متفق عليها، من موقع المسئولية بوصفهم شريكاً في إعادة الوحدة اليمنية. ألم يكن من حقهم بوصفهم شركاء في الحكم، أن يطالبوا بضرورة إصلاح الأوضاع وتعديل مسار الوحدة، وتنفيذ ما جاء في اتفاقية الفترة الانتقالية بدلاً من أن يسارعوا إلى افتعال الأزمات في سنوات الوحدة الأولى، والاعتكاف والهروب من مواقع المسئولية، وتعمد الظهور بمظهر العاجز عن تعديل أو تغيير أي شيء، عندها كان سيلتف معهم كل الشرفاء من أبناء هذه الأمة المباركة، وكل الحالمين بيمن خال من الفساد والممارسات اللا أخلاقية، بدلاً من العودة إلى أساليبهم القديمة من الالتفاف والتآمر والتخطيط لإقصاء الطرف الآخر، وإضعافه وتهميشه، أو الاستعداد للعودة إلى وضع ما قبل الوحدة اليمنية، وكأن ما جرى من عمليات الدمج والتوحيد كان نزوة عابرة أو هدفاً تكتيكياً، أو خطأ سرعان ما يتم التراجع عنه إلى غيره، أو البحث عن صيغة أخرى أو سيناريو مغاير، وكأنهم تجار أو أصحاب مشاريع صغيرة وليسوا رجال دولة، مطلوب منهم التفسير والتوضيح لأبناء المجتمع اليمني عن دوافع اتخاذ مثل هذا القرار الخطير، ومحاسبتهم عن اقتراف أي خطأ ارتكبوه.
وإذا كانوا يعتقدون أنهم على صواب عندما قرروا فصل الجسد اليمني في صيف 1994م، بعد سلسلة من أعمال العنف والتفجير والاغتيالات المفضوحة والمفبركة، ألم يكن من المنطق أن يبقوا في خنادق القتال مع قواتهم ومقاتليهم في ساحات الوغى للذود عن قضيتهم، وقتال «جيش الاحتلال، كما جاء في خطاب البيض، الأخير» بدلاً من أن يلوذوا بالفرار بما خف وزنه وغلا ثمنه عند سماع طلقات أول دبابة تقترب من خطوطهم الأمامية، ويذهبوا للعيش في بحبوحة وراحة مع أفراد عائلاتهم في أفخم الفلل والفنادق في دول الجوار، ويكتسبون جنسياتها، هذا إن كانوا يؤمنون أنهم يدافعون عن قضية، أو لو كانوا حقاً يمتلكون مثل تلك القضية منذ البدء؟ ألم يلفظهم الشعب اليمني بعد خطابٍ مشابه لعلي سالم البيض في 21 مايو 1994م، ومباشرة بعد افتضاح مشروع الانفصال، واتضاح أبعاد المؤامرة التي تورطوا فيها لإعادة الأوضاع إلى ما قبل إعادة الوحدة، وتقسيم الدولة اليمنية؟ ألم يلتف الشعب اليمني بكل فئاته مع قياداته التي دافعت عن مشروع الوحدة لتفتح أمامها كل الجبهات والتحصينات العسكرية، وأغلبها فتح دون قتال.
ترى هل سيصدق أحدنا الآن أن ما حدث في صيف عام 1994م، لم يكن مرسوماً ومخططاً له من قبل نفس الأطراف التي تسعى اليوم إلى إعادة إنتاج نفس الظروف التي سبقت أزمة 1994م؟ هل يقبل أي عقل أو منطق أن تكرار مطالبته بإعلان الانفصال في نفس التاريخ، بعد مرور 15 سنة على إعلانه أول مرة سنة 1994م، لا يعني أن النية كانت قد عقدت على إدخال البلد في أزمات سياسية واقتصادية خانقة، لخلق رأي عام معارض ومناهض لكل خطاب أو حديث عن الوحدة، وتهيئة الناس لقبول واقع عودة الأوضاع إلى ما قبل إعادة الوحدة اليمنية. وليجعل لسان حالنا يقول: «ما أشبه الليلة بالبارحة»، مع اختلاف الوسيلة والتوقيت. وكأن الهدف النهائي هو عودة تلك الأطراف إلى السلطة ولو على جثث وأشلاء اليمنيين، وهو ما يتكرر بدفع عشرات الآلاف من الشباب والمواطنين اليمنيين الأبرياء إلى الموت والمواجهات المسلحة مع قوات الأمن اليمنية، لتمهيد الطريق لعودة عبيد الدم، وعشاق الشهوات والسلطة، من باب ما يسمى بالنضال السلمي والحراك الجنوبي، وكأنهم قد جربوا جميع الوسائل فاهتدوا إلى هذا الأسلوب الشيطاني الذي يؤجج المشاعر ويثير الأحقاد بين أبناء الوطن اليمني الواحد، مما يكفل وأد مشروع التوحد الوطني إلى الأبد، ويقضي على كل خطاب وحدوي مستقبلي، وهذا ديدنهم ومشروعهم غير المعلن.
وهل نسي أشقاءنا وإخواننا في محافظاتنا اليمنية في الجنوب، مسلسل التدمير الذاتي لمقدرات الدولة وموارد المجتمع اليمني التي لم يحسنوا استغلالها عندما كانوا في السلطة؟ هل نسوا مديونيات السلاح الباهضة التي تحملتها ميزانية دولة الوحدة اليمنية واقتصادها الناشئ، بسبب دورات العنف المستمرة التي كان أبطالها هم نفس دعاة الفرقة والانفصال اليوم؟ هل محت 19 سنة من عمر الوحدة المباركة سجلات الشهداء وضحايا دورات القتال المتكرر بين قادة الحزب المتنافسين على السلطة في 68، 72، 74، 79، 86؟ ألم يكن هؤلاء هم أول من تبنى فكرة تحقيق الوحدة اليمنية عبر القوة سنة 1979م، وتحالفوا مع الجبهة الوطنية شمالاً للانقضاض على الحكم في صنعاء من أجل تحقيق هذا الهدف، لولا أن الحكمة اليمنية والكويتية قد أوقفت هذا المسلسل التخريبي المنظم، الذي كان من نتائجه زرع أكثر من 12 مليون لغماً على طول حدود ما بين شطري الوطن، وراح ضحيته عشرات مئات الآلاف من المواطنين الأبرياء من الجانبين؟ وآثاره لازالت ماثلة لمن أراد أن يتيقن ويتثبت في محافظات لحج وتعز وإب والضالع وغيرها. فهل نتنبه جميعاً إلى حقيقة ما يراد لنا ولوطننا ووحدتنا اليمنية؟ وهل يعي إخواننا في عموم محافظات الوطن اليمني حقيقة المشروع الذي يعدهم به دعاة الفرقة والانفصال، والجنة الموعودة التي يبشروهم بها إن هم ساروا في طريق المطالبة بالانفصال؟ إنها، بالتأكيد ليست جنة الدنيا وخيرها، لكنها الجنة التي أعدها الله مثوى للشهداء، بعد أن تتولى هذه القيادات إرسالهم إليها عبر أقصر الطرق، أي عبر سلسلة من الأعمال الحربية والإجرامية، وتفجير الصراعات السياسية المستمرة التي لا يجيدون سواها، ولا يعرفون غير لغتها، والتاريخ خير شاهد، و«تجريب المجرب خطأ».
*جامعة إب