أحمد الحبيشي -
استناداً إلى معطيات سياسية ذات أبعاد ثقافية سبق لكاتب هذه السطور في مقالات وندوات سابقة القول بأن الثلاثينات شكلت الميلاد الحقيقي للحركة الوطنية اليمنية المعاصرة.. ولمّا كان وعي شروط الحريةلا يمكن أن يتم بدون وعي شروط الاستبداد، فإننا لا نبالغ حين نقول: إن بدايات انبعاث الوعي الوطني في اليمن ارتبطت بالدور الذي لعبته مجلة «الحكمة»
–التي أصدرها الشهيد أحمد عبد الوهاب الوريث عام 1938م وأغلقها النظام الإمامي الاستبدادي عام 1948م– في تأسيس ثقافة وطنية جديدة، تفاعلت فيها أشكال الإبداع الفكري والأدبي المتنوعة باتجاه إنتاج المعرفة بالواقع واكتشاف محدداته، وبلورة سبل تغييره، واستشراف آفاقه.
والثابت أن القيمة التاريخية للفكر والأدب والفن تكمن في التأثير الذي يلعبه الإبداع الفكري والأدبي والفني في تشكيل الوعي الاجتماعي بصورة مستقلة عن تأثير بقية عناصر البناء الفوقي لأي مجتمع، وفي مقدمتها سلطة الدولة، الأمر الذي يجعل وظيفة الفكر والأدب والفن مجالاً -مستقلاً- لعلاقة حركية تتسم بالتشاط الواعي والهادف بين الإنسان والواقع، سواء تم ذلك بمعزل عن البناء الفوقي للمجتمع، أو بالتفاعل معه في حالة وجود مشروع وطني للتغيير تلعب فيه الدولة والمجتمع دوراً محورياً.
لعبت مجلة «الحكمة» دوراً غير مسبوق في صياغة اتجاهات الفكرالسياسي اليمني، على طريق تأسيس مشروع وطني للتغيير في اليمن.. وعلى صفحاتها شهدت اليمن صعود كوكبة لامعة من المفكرين والأدباء والكتاب الذين أحدثوا في المجتمع حراكاً فكرياً وثقافياً، من خلال نشرعشرات الأبحاث والمقالات والدراسات التي عكست الميول الفكرية التنويرية للرواد المؤسسين في الحركة الوطنية اليمنية، وسلطت الضوء على نشوء وتطوّر الأفكار الدستورية في العالم، وأدت قسطها في نشر أفكار الروّاد الأوائل لحركة التنوير الإسلامية أمثال رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبدالرحمن الكواكبي، الى جانب نشر القصائد التي أيقظت الوعي الوطني، وبشرت بقيم الحرية والعدالة، الأمر الذي مهّد االطريق لظهور الدعوة الى بناء نظام دستوري في اليمن، والمطالبة بإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية تحد من الاستبداد والتخلف والفقر والمرض والعزلة.
في هذا الاتجاه تفاعل الفن اليمني من خلال الغناء والموسيقى مع الحراك الثقافي الذي دشنته مجلة «الحكمة» في تلك الفترة، حيث تحولت القصائد المشبعة بالمضامين النقدية المباشرة وغير المباشرة إلى أعمال غنائية أسهمت في تعميق الوعي الاجتماعي بضرورة التغيير وحرضت المجتمع للكفاح ضد الظلم والطغيان، وقد أسفر البعد السياسي للحراك الثقافي الذي أوجدته مجلة «الحكمة»، عن ميلاد المثقف العضوي من خلال إشهار عشرات المفكرين والشعراء الذين آمنوا بمبادئ الحرية، ونشروا أفكار الإصلاح والتغيير، ثم تحولوا الى قادة للرأي في المجتمع، من خلال تأسيس وإنشاء الجمعيات والهيئات الثقافية والاجتماعية، بهدف الدعوة الى الإصلاح، الأمر الذي قاد بعضهم الى ساحة الإعدام، فيما سبق آخرون الى السجون بسبب الأبعاد السياسية لنشاطهم الثقافي.
من نافل القول ان مجلة «الحكمة» لعبت دوراً بارزاً في تشكيل مناخ فكري قامت على تربته ثورة 1948م الدستورية.. وليس صدفة أن يتزامن إغلاق مجلة «الحكمة» مع قيام هذه الثورة التي أدى فشلها إلى انتشار موجة واسعة من الإعدامات والاعتقالات وحملات القمع والتنكيل بنجوم الحرية وروادها الأوائل، وبضمنهم رئيس تحرير «الحكمة» الشهيد الخالد أحمد عبدالوهاب الوريث، بالإضافة إلى إصدار فتوى بتحريم الغناء والعزف على العود والآلات الموسيقية ومنع المواطنين من استخدامها في الأفراح، وكانت تلك الفتوى تستهدف إغلاق كافة المنابع التي أسهمت في تكوين ثقافة وطنية تحررية تنطوي على نقد الأوضاع السائدة والدعوة الى تغييرها.
والثابت ان هذه السياسة القمعية كادت أن تقضي على التراث الغنائي الصنعاني المشهور، لولا انتقال الأغنية الصنعانية إلى مدينة عدن التي يعود إليها الفضل في المحافظة عليها بواسطة عدد من الفنانين الذين عملوا على نشر الأغنية الصنعانية في عدن، وتوثيقها وتسجيلها على أسطوانات.
يقيناً أن انتقال المثقفين والفنانين اليمنيين من الهاجس الفردي الذي يتمثل في السخط الذاتي على الواقع من داخل المثقف نفسه، إلى الهاجس الجماعي من داخل المجتمع نفسه، ارتبط بظهور اتجاهات متنوعة لتطور الثقافة الوطنية اليمنية خلال الثلاثينات والأربعينات، في بيئة متخلفة لا تتوافر فيها فواعل اقتصادية وسياسية قادرة على الاستجابة لتحديات التغيير المنشود وإنضاج شروطه.. ولئن تنوعت مرجعيات تلك الاتجاهات بين الفكر الديني التقليدي والفكر الدستوري الغربي والفكر الإسلامي التنويري، إلاّ أن النزعة الإصلاحية كانت القاسم المشترك فيما بينها.
كان لهذه الاتجاهات المتنوعة فضل ظهور البذور الأولى للفكر الجديد في تربة الثقافة الوطنية اليمنية المعاصرة، التي شكلت رافعة أساسية لتطور الفكر السياسي في اليمن منذ بدايات الانبعاث الوطني العام وحتى الخمسينات، حين شهدت بلادنا ميلاد تيارات فكرية جديدة ومعاصرة تطورت على أساسها الحركة الوطنية اليمنية المعاصرة، ودخلت تحت تأثيرها طوراً تاريخياً جديداً تمثل بقيام ثورة 26سبتمبر 1962م وثورة 14 أكتوبر 1963م وتحقيق الاستقلال الوطني 1967م، وظهور دولتين شطريتين اقتسمتا الهوية الوطنية اليمنية في ظروف معقدة، وصولاً إلى قيام الجمهورية اليمنية في الثاني والعشرين من مايو 1990م، الذي أنهى التشطير وأعاد للوطن اليمني المجزأ وجهه الشرعي الواحد، في سياق أول عملية تاريخية معاصرة للتحول نحو يمن حر ديمقراطي موحد.
البعد الثقافي لمشروع التغيير
على تربة الدور الوظيفي للثقافة الوطنية الجديدة شهدت اليمن بدايات استيقاظ الوعي الوطني في الثلاثينات.. وعلى خلفية البعد الثقافي للحراك السياسي في المجتمع كان العمل الوطني ينمو ويتطور.. وحين قامت ثورة 1948م الدستورية لتعبر عن آمال وأشواق شعبنا الى الحرية والانعتاق من الاستبداد والخروج من أنفاق التخلف والعزلة والظلام، كان علماء الدين والمفكرون والأدباء هم قادتها وشهداؤها.
وكما هو الحال في صنعاء وتعز وحجة والحديدة، كان الحال كذلك في عدن ولحج وحضرموت حيث كان المفكرون والمثقفون والكتاب والأدباء والصحافيون والفنانون يجسدون الوحدةالعضوية بين الثقافة والسياسة، ويحملون رايات الكفاح ضد الاستعمار والتجزئة، ويرفعون شعارات الحرية والاستقلال والوحدة.
وإذا كان ما يميز الرعيل الأول من قادة الحركة الوطنية اليمنية المعاصرة -شمالاً وجنوباً- أنهم من العلماء والمفكرين والكتاب والأدباء والصحافيين وخريجي الجامعات العربية والأجنبية، الأمر الذي يشير بوضوح الى البعد الثقافي لمشروع التغيير، فقد كان الرواد الأوائل لثورة 26سبتمبر 1962 هم أيضاً من طلاب وخريجي المدارس العسكرية في صنعاء، وخريجي الكليات الحربية في مصر والعراق، الذين قامت على أكتافهم بعض الإصلاحات التي اضطر النظام الإمامي الى تنفيذها في الجيش، بعد أن كشفت حروبه مع الجيران والبريطانيين ضرورة الشروع في بناء وتحديث الجيش والنظام التعليمي.
بيد أن هؤلاء الثوار لم يوظفوا معارفهم العسكرية والعلمية التي اكتسبوها من أجل خدمة النظام الإمامي الاستبداي، بل وظفوها لتخليص الوطن من ظلمه وظلامه، وإيقاد شعلة الحرية في ربوعه.
صحيح أن عملية الانبعاث الوطني العام تطورت عبر مسيرة طويلة ومعقدة وصلت ذروتها بقيام الثورة اليمنية (26سبتمبر- 14 اكتوبر).. لكن ذلك لاينفي حقيقة أن الحركة الوطنية اليمنية التي قادت هذه العملية التاريخية، واجهت في أحد منعطفاتها الخطيرة حدثين متزامنين كان لهما تأثير سلبي على مسار التطور اللاحق للثورة اليمنية.
في الخامس من نوفمبر 1967م وقع في صنعاء انقلاب عسكري من داخل الصف الجمهوري الذي فجّر ثورة 26سبتمبر ودافع عنها، و تسبّب ذلك الانقلاب في إحداث شرخ غائر في المجتمع، أسفر عن عدد لا يحصى من التناقضات والعمليات السلبية التي عرقلت تقدم مسيرة الثورة اليمنية صوب استكمال أهدافها الوطنية.
كانت عدن أثناء حدوث الانقلاب تشهد حرباً أهلية منذ الثالث من نوفمبر 1967م، بين فصائل ثورة 14 أكتوبر بمشاركة واسعة وحاسمة من جيش اتحاد الجنوب العربي الذي قاتل إلى جانب الجهة القومية ضد جبهة التحرير والتنظيم الشعبي للقوى الثورية، وانتهت تلك الحرب في السادس من نوفمبر 1967م، بحدوث شرخ وطني عميق في جسم المجتمع، تمهيداً لانفراد الجبهة الجبهة القومية بالسلطة وإقصاء الفصائل الأخرى التي شاركت في الكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطاني، وظهور دولة شطرية ذات شرعية دولية في جنوب الوطن الذي كان مجزأً بدوره إلى 22 سلطنة ومشيخة وإمارة وولاية.
ما من شك في أن حصار صنعاء ما كان ليحدث لولا انتقال بعض الوحدات العسكرية وانسحاب البعض الآخر من مواقع حيوية على هامش تداعيات الانقلاب العسكري وهو ما أكدته مداولات وشهادات صريحة في الندوة العلمية التي نظمتها صحيفة «26سبتمبر» عام 2002 بمناسبة العيد الأربعين للثورة اليمنية حول حصار صنعاء، والتي شارك فيها عدد كبير من المناضلين والمقاتلين بحضور فخامة الرئيس علي عبدالله صالح رئيس الجمهورية.. وقد أكّد ذلك الحصار الذي استمر سبعين يوماً، ضرورة استعادة وحدة قوى الثورة اليمنية والدفاع عن الجمهورية المهددة بسقوط عاصمتها.. وبفضل تلك الوحدة تحقق الانتصار الحاسم الذي اجترحه الجمهوريون وشاركت فيه قوات فصائل ثورة الرابع عشر من أكتوبر التي انهزمت في الحرب الأهلية وانسحبت إلى الشمال، ولم تمنعها جراحها النازفة من القيام بواجب المشاركة في الدفاع عن صنعاء.
بيد أن تداعيات الجراح الناجمة عن انقلاب نوفمبر العسكري في صنعاء وحرب نوفمبر الأهلية في عدن، ألقت بظلالها على الحياة السياسية بعد توقف المعارك، حيث برزت الى السطح استقطابات داخلية حادة على خلفية وجود دولتين في وطن واحد، مهدت تلك الاستقطابات لوقوع أحداث أغسطس 1968م الدامية والمؤسفة بعد فك الحصار عن صنعاء بستة اشهر، بين قادة بعض الوحدات العسكرية التي شاركت في ملحمة السبعين يوماً لتلحق أضراراً بليغة بوحدة العمل الوطني الثوري، في ظروف انقسام الوطن الى دولتين تعلنان إنتماءهما الشرعي للثورة اليمنية (26سبتمبر- 14 اكتوبر)، فيما تكرسان على الأرض أوضاعاً لا تاريخية، وتؤسسان في اللاوعي ثقافة سياسية مشوهة.
دشنت تلك الظواهر والأحداث بداية مرحلة جديدة من العلاقات القائمة على التناقض والتنافر بين أول دولتين يمنيتين في التاريخ الوطني المعاصر للشعب اليمني، ولم يخل هذا التناقض من حالات الاحتراب والتصادم، وتبادل الحملات الإعلامية وتنظيم وتسليح المعارضات المتبادلة بصورة متفاوتة، وصولاً الى تحويل اليمن بشطريه الى ساحة مفتوحة للاستقطابات الدولية والحرب الباردة بين القوى الكبرى، الأمر الذي زاد من حجم الأخطار التي تهدد سيادة الوطن واستقلاله ووحدته ومسيرته الثورية عموماً، ويندرج ضمن تلك الأخطار ظهور بعض المفاهيم اليمينية واليسارية الخاطئة التي أنكرت واحدية الثورة اليمنية، وزعمت بوجود مسارين مختلفين ومتناقضين لكل من ثورتي 26سبتمبر و14 اكتوبر.
وبالقدر ذاته فإن العلاقات بين الدولتين اليمنيتين لم تخل أيضاً من الميول الموضوعية نحو الوحدة، ففي كل مرحلة من مراحل تسعير المواجهات السياسية والإعلامية كانت الحرب هي المحصلة النهائية، بيد أنها سرعان ما كانت تنتهي بالتوقيع على اتفاقيات وحدوية تعرضت لاختبارات صعبة في مجرى التنفيذ.
وتبعاً لذلك نشأت معادلة خطيرة في حياة الشعب اليمني لم تستطع الدولتان تجاهلها، ولم تستطع أيضاً معالجة تناقضاتها وتداعياتها بصورة جذرية، حيث شكل استمرار التجزئة بؤرة خطيرة لعوامل التصادم وعدم الاستقرار والحروب التي تغذيها عوامل داخلية ومصالح خارجية تندرج في إطار استقطابات الحرب الباردة عربياً ودولياً.
لم يكن الاستمرار في رفع شعار الوحدة اليمنية كافياً لتأكيد الانتماء إلى العملية الثورية التاريخية المعاصرة للشعب اليمني، وتجسيد الشرعية الوطنية للدولتين الشطريتين، بقدر عدم كفاية رفع هذا الشعار للتحقيق الناجز، طالما بقي شعاراً يتم تعاطيه ضمن منظور تكتيكي يستهدف تطويق الآثار الناجمة عن معادلة التجزئة دون حلها بصورة حاسمة وجذرية، وهو ما سنتناوله في الحلقة القادمة من هذا المقال.
|