شايف الحسيني -
ولأن المشهد معقد وغير مقدور الإحاطة في هذا المقام فسوف يقتصر الحديث عنه في ومضات محدودة جداً تبين ما تذهب اليه، فالمشهد ضخم ورقعته واسعة واللاعبين فيه كثر والزمن طويل؟!
شائف علي الحسيني❊
أولاً الزيدية (الهدوية):
لقد وضع هذا الترتيب باعتبار ان الزيدية (الهدوية) دخلت اليمن في فترة متقدمة عن غيرها من الدعوات الاخرى المذهبية التي تنافست معها فيما بعد، فعمر الزيدية يقترب من الف عام وهي من أكثر المذاهب حراكاً سياسياً واجتماعياً وثقافياً في اليمن لم تسبقه اليه أية دعوة أخرى، ثم أنها أي الزيدية من أكثر المذاهب ا لتي ظلت متواصلة طوال تلك الفترة الى يومنا هذا.
فعندما جاء الهادي يحيى بن الحسين الى اليمن عام ٤٨٢هـ، ٧٩٨م كان يحمل معه مشروعاً للحكم جاء به من وسط معاناة شديدة تعرض لها آل البيت على يد الأمويين ثم العباسيين، فقد نكل بهم أشد تنكيل من قتل منهم ومن حبس ومن فر هارباً في الأرجاء، وكانت غاية الهادي وهدفه عند قدومه الى اليمن هو إقامة خلافة لآل البيت تشمل أرجاء العالم الاسلامي ويكون اليمن نواتها الأولى كما تشير بعض المصادر.(3)
وفي هذا السياق بدأ الهادي باتخاذ الخطوات العملية في مسار حكمه بدعوة القبائل اليمنية مساندته لإقامة دولته وقد رأى الهادي من واقع الممارسة العملية أنه من غير الممكن إقامة دولة في ظل دعوة للإمامة مفتوحة لقرشي وغير قرشي لهاشمي وغير هاشمي لذلك خرج عن قواعد الزيدية التي جاء بها زيد بن علي رضي الله عنه من جانب خاصة في إمامة المفضول على الأفضل فنص على حصر الإمامة في البطنين من أولاد الحسن والحسين من فاطمة الزهراء وجعلها من الأصول الخمسة التي تقوم عليها الزيدية »الهادوية« بل هي واجب شرعي وديني في هذا الحال، وحدد الشروط الواجب توافرها في من يدعو لنفسه بالإمامة وهي أربعة عشر شرطاً: »أن يكون، مكلفاً ذكراً، حراً، مجتهداً، علوياً، فاطمياً، عدلاً شجاعاً سخياً ورعاً سليم العقل سليم الحواس سليم الاطراف صاحب رأي وتدبير مقداماً فارساً«الخ.. ثم يخرج شاهراً سيفه منابذاً للظلمة وهو بذلك قد خرج عملياً عن نظرية ومبادئ الزيدية ليس فقط الذي جاء بها زيد بن علي والتي لا تنص على الوراثة ابتداءً ولكن التي وضع أسسها جده القاسم بن ابراهيم المؤسس الأول للزيدية في اليمن والذي لم يجعلها من الأصول الخمسة بل أنه رفض الوراثة فيها كطريق للإمامة، ثم لم يبّين مسألة الخروج.(4) نفس المرجع
فالإمام القاسم قد فلسف الفكر الزيدي في ضوء ما جاء به القرآن والسنة والفكر المعتزلي وهو كما قال علي محمد زيد في كتابه »معتزلة اليمن« هو من أوجد التلاقح بينهما، فالزيدية منذ نشأتها قامت على الفكر المعتزلي في أصوله الخمسة »التوحيد، العدل، الوعد، والوعيد، المنزلة بين المنزلتين، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر«، وقد نشأ الفكر المعتزلي على تقديم العقل قبل النقل، فالعقل لديهم هو الطريق الى المعرفة »فاعتبروا يا أولي الألباب« صدق الله العظيم، الآية ٢ سورة الحشر، فالأصل فيه هو عمل فقهي فكري قبل أن يكون سياسياً حيث، كان يجري جدلاً آنذاك في القرن الثاني الهجري بين مختلف الاتجاهات والتيارات الدينية والفكرية والسياسية حول أفعال الانسان وعلاقتها بالثواب والعقاب والخلافة في من تكون فظهر الجبر والاختيار والخوارج والمرجئة وغيرها ، وترافق ذلك مع جدل آخر سياسي حول الخلافة بين مختلف الفرق كان يقول معاوية أمام معارضي تولية ابنه يزيد ولياً للعهد: »وإن أمر يزيد قد كان قضاءً من الله وليس للعباد خيرة في أمرهم«.(5)
بينما أهل السنة وأكثرية المعتزلة والخوارج والمرجئة (يجمعهم القول بأن الأمامة واجبة من جهة وأنها تكون بالاختيار لا بالنص من جهة أخرى«.(6)
وقالت الشيعة بوجوب التعيين والتنصيص وثبوت عصمة الانبياء والأئمة الاثني عشر، فجاء زيد بن علي رضي الله عنه ليطرح طريقاً جديداً معتدلاً وسط خلافات حادة أدت اليه استشهاد الحسين بن علي رحمه الله ورضي الله عنه، في كربلاء عام ١٦هـ مفاده إمامة المفضول على الأفضل، كان علي بن أبي طالب كرم الله وجهه الأفضل ولمصلحة عامة رؤية اختير أبي بكر للخلافة ثم عمر رضي الله عنهما فوجب طاعتهما واعتبر أن بني أمية ظلمة وأن واجب الإمام الخروج عن الظالم شاهراً سيفه منابذاً للظلمة وهذا لم يرق للأمويين لأنهم كانوا على قناعة أن أي رأي أو اجتهاد يتناقض مع حكمهم الوراثي المطلق لن يقبلوه بأي حال جاء من زيد أو من عمرو فأعلن زيد بن علي الثورة ضد الأمويين فقام جيش هشام بالقضاء على الثورة واستشهد زيد عام ٢٢١هـ.
لقد كانت اجتهادات الإمام الهادي في حصر الإمامة وفي مسألة خروج إمامين في قطرين وفي الشروط الواجب توافرها فيمن يدعو لنفسه بالإمامة هي من قصم ظهر البعير في مسيرة الزيدية وهي التي حالت دون تكوين دولة مستقرة لأن ذلك التفسير لما جاءت به الزيدية لم يراعى مساحة البلاد التي يخرج فيها إمامان لأن زيد بن علي رضي الله عنه كان يتحدث عن خلافة اسلامية مترامية الاطراف.
فمبدأ الحصر والخروج قد حول المحصورين الى محاصرين من أنفسهم ومن غيرهم فتحول التنافس حول من هو الإمام الى مشكلة بدلاً من أن يحلوا مشاكل وقد بدأ هذا الخلاف منذ الوهلة الاولى بين الهادي والإمامة القائمة في طبر ستان، الجيل والديلم بينه وبين الإمام الناصر الأطروشي الذي يدعي كلٌ منهما بتبعية الآخر له، فحصل الخلاف في المهد هذا حسني وذاك حسيني، فالإمامة لدى زيد بن علي »ليست وراثة مطلقة وقد تكون في بيت معين من ناحية الأقضلية لا من ناحية الاصل فاشراط بيت معين إنما هو شرط أفضلية لايمنع أن تكون الخلافة في غيره«.(7)
وهذا ما اجتهدت به فرق زيدية أخرى كالمطرفية التي تم الإشارة اليها والى فكرها في مواضيع شاقة.
إن فكرة الحصر والخروج قد أدى الى دخول ثلاث عائلات من أولاد وأحفاد القاسم بن ابراهيم الرسي المعترك السياسي والتي سيكون لها فيما بعد تأثير في مجريات الاحداث في اليمن لما يزيد عن ألف عام وهذه العائلات هي : »الإمام الهادي يحيى بن الحسين الذي قدم الى صعدة لتأسيس دولة زيدية عام ٤٨٢هـ ، ٧٩٨م، ثم القاسم بن علي العياني عام ٩٨٣هـ، ثم أبو هشام بن عبدالرحمن عبدالله بن الحسين عام ٨١٤هـ والذي سيأتي من سلالته الإمام عبدالله بن حمزة الذي شاع صيته في التاريخ اليمني بسبب أعماله الحربية، فقد كانت هذه الأسر الثلاث منطلقة جميعها من فكر القاسم بن إبراهيم الرسي المؤسس الأول للزيدية في اليمن.. والذي كان عالماً مجتهداً مطلعاً بعلوم عصره ذكياً شجاعاً قاوم إرهاب بعض خلفاء بني العباس وأنتج فكراً فيه استنارة في الفقه الاسلامي وفي السياسة العامة دونه في كتب ورسائل وهو أول من عمل على إيجاد تلاقح بين الفكر المعتزلي والزيدي كما أشير سابقاً وهو القائل بحجة العقل قبل النقل.
كانت الزيدية بالمقارنة مع ما ساد من الجدل في عاصمة الخلافة الاسلامية بغداد تتميز برقي التفكير وفي فتح باب الاجتهاد وهو ما اعتبر فقهاً متقدماً على غيره من فقه المذاهب الاخرى ولكن اللاحقين من أبناء المذهب تجاوزوه وساروا بالدعوة للإمامة »حصراً ثم شرعاً وإيماناً« دون عقل كلٌ يعتقد بنفسه أن اعرف الناس في زمانه وكفى، كما قال أحد الدعاة هو يحيى بن محفوظ من سلالة الهادي ٤١٦هـ
أنا كنز الله في الأرض وما ❊❊ قلت في دعواي هذا كذبا(8)
فأضاعوا الجمل بما حمل، وقد كان قدوم هذه العائلات الى اليمن في فترات مختلفة جعل كل عائلة تسير بطموحاتها نحو تأسيس دولة تكون تابعة لها وخاصةً بها، لذلك وجدنا عمق الاختلافات والحروب التي دارت بين أطراف هذه العملية ومع منافسيهم الآخرين من مذاهب وقبائل فكانت الساحة اليمنية مفتوحة لصراع من هذا القبيل لم يبقَ ولم يذر، فبعد وفاة الهادي يحيى بن الحسين عام ٨٩٢هـ ، ١١٩م بدأت الحروب تدب بين أحفاده وأبناء أعمامه وقرابته حتى وصلت الى الحروب الدامية بينهم أن يقاتل الأخ أخاه، وكما سبقت الإشارة أنه من غير الممكن تتبع صيرورة الاحداث والتنازع حول أحقية الحكم نظراً لتعدد الاطراف المتنازعة وإمتداد التاريخ فإن الأمر هنا سيقتصر على بعض الأمثلة في فترات تاريخية مختلفة لتقريب صورة ما جرى لأن الغرض هو استنطاق التاريخ وفق ما حصل بل وتأكد حصوله ليعرف اليمنيون أن الصراع على السلطة داخل العائلة لم يفضَ الى شيء يحسن من حياتهم ويبني دولة لهم ترفع من شأنهم وتطور من حياتهم وتجعلهم رقماً مهماً بين الأمم وإنما جرهم هذا النوع من الصراع الى هذا المآل وإلى هذا المصير الذي جعلهم وقوداً لحروب شخصية وليست في كل الأوقات وطنية وهو ما جعل الحاضر في بعض الأوجه أقرب ما يكون الى الماضي في المضمون وربما في بعض الاوجه في الشكل أيضاً.
بعد وفاة الهادي وتولي ابنه المرتضى محمد الذي وجد نفسه أنه غير قادر على تحمل أعباء المرحلة تنازل لأخيه أحمد الذي لقب بالناصر ثم مبايعة ابنه يحىى الذي لقب بالمنصور فيما بعد وحدث الانقسام والحروب بين الأخوين »فقد تفجر صراع دموي بين القاسم بن الناصر الذي تلقب بالإمام المختار لدين الله وأخيه يحيى بن الناصر الذي تلقب بالمنصور بالله، وانقسام القبائل بين مؤيد لهذا أو ذاك من طرفي الصراع على الإمامة الذي انتهى بدمار صعدة وإتفاق القبائل على خلع إمامتهما معاً واختفت الإمامة الزيدية عملياً من اليمن ولم يعد لها نفوذ يذكر«.
لقد كانت المرحلة الأخرى من مراحل صراع الأئمة هو مع مجيء الإمام المتوكل أحمد بن سليمان ويعود نسبه الى الهادي فقد أعلن إمامته معتمداً على إرث جده الهادي ومتعتبراً نفسه وحيد عصره قائلاً: »فإني لا أعلم أحد من أهل هذا البيت في زماننا هذا أحق بهذا المقام مني ولا أحمل لأثقاله ولا أجر على أهواله الجسام مني«.(10)
ولمايزيد عن ثلاثين عام وهو في حروب طاحنة مع منافسيه الأمراء من أولاد الإمام القاسم بن علي العياني ومع قبائل متمردة عليه فشهد عصره اضطرابات لم يسبق لها مثيل كما تقول الروايات التاريخية فقد كانت سلطاته تمتد لتصل الى صنعاء ثم ما تلبث ان تتراجع الى الجوف فتعود الى صعدة وهكذا حتى أقعد بعد أسره من قبل منافسيه أولادالقاسم العياني وأصيب بالعمى وتوفي في عام ٦٦٥ هـ، وقد قال الحجوري عنه وهو أحد مؤرخي الزيدية: »لم يبن شيئاً ولا جبى خراجاً ولا دون ديواناً وإنما كان يصدم القبائل بالقبائل والسلاطين بالسلاطين«.(11)
وفي مرحلة لاحقة لا تتجاوز سبعة عشر عاماً بعد وفاة أحمد بن سليمان كان بنو القاسم العياني يعلنون دعواتهم في شهارة وما حولها وكان عبدالله بن حمزة من سُلالة بنو هاشم بن عبدالرحمن بن الحسين يعلن دعوته للإمامة في ٣٨٥هـ، ٧٨١١م في صعدة ثم الجوف مستنداً على تراث الزيدية الهدوية وعلى ما قال له والده أن الخلافة تكون في البطنين »أخبرني أبي تلقيناً وحكاية بجمل العدل والتوحيد وصدق الوعد والوعيد والنبوءة والإمامة لعلي بن أبي طالب بعد رسول الله بلا فضل ولولديه الحسن والحسين بالنص وأن الإمامة بعدهما في من قام ودعا من أولادهما وسار بسيرتهما واحتذى حذوهما كزيد بن علي ومن حذا حذوه من العترة(12) وقد شن عبدالله بن حمزة حروباً دامية ضد خصومه ومن ينكر عليه الإمامة أو يدعي بدعوته في قطره، فقد انطلق من المنطقة الشرقية فاتحاً البلدان واحدة بعد أخرى وظل في أعمال حربية طوال فترة حياته وكان مثل سابقه الإمام أحمد بن سليمان في كل حروبه غير أنه فاقه في قتل المطرفية واستئصال شأفتهم وهو ما يعتقد لدى الفرق الإمامية اللاحقة بأنها من أهم منجزاته، لكن في واقع الأمر أنه قد شغل نفسه ومن حوله بحروب لا طائل من و رائها سوى تأكيد أحقيته بالإمامة والحكم لا أقل ولا أكثر، بينما يعيش المجتمع حالة من الفقر والخوف الذي لم يسبق له مثيل دون أن يتدخل أحد لانقاذه.
تقول سيرة الإمام عبدالله بن حمزة نفسه في وصف هذه الحالة في عام ٨٨٥هـ »حين كان يهبط الإمام في كل جمعة من بيت مساك الى ريدة للصلاة في جامعها وقد صارت خربة لاستمرار دول الظلم فيها فيلقاه ناس ضعاف مساكين من أهلها ما على أكثرهم ما يغطي عورته من شدة الفقر، وأما سائر البلاد التي ظهرت عليها يد الظلم مثل البون والخشب ومخلاف الحد والشرف المتصلة هذه البلاد بجبل حضور فإن قراها قد خلت من أهلها وتعطلت من سكانها وما بقي في الأكثر منها زرع ولا ضرع إلا التافه اليسير«(13).
وللحديث بقية
الهوامش:
١- هذا قول المقتدر بالله العباس بن الحسن في أواخر الدولة العباسية صـ٠٧ محمد اسعد طلس، تاريخ العرب، دار الأندلس، بيروت ٣٨٩١م
٢- شاكر مصطفى، دولة بني العباس ج٢ صفحة ٨١٤
٣- علي محمد زيد، معتزلة اليمن، دولة الهادي وفكره صـ٧٣
4- نفس المرجع
5-محمد عابد الجابري، صـ٣٨ الدين والدولة وتطبيق الشريعة ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ٤٠٠٢م
6- صـ٨٢ نفس المصدر
7- محمد أبو زهرة ، الإمام زيد صـ٨٨١، المكتبة الاسلامية بيروت
8- محمد يحيى الحداد، التاريخ العام لليمن، المجلد الثاني صـ٦٤٤
9-صـ٧١ علي محمد زيد، تيارات معتزلة اليمن في القرن السادس الهجري
10- صـ٦٤ المصدر السابق
1١- نفس المرجع صـ٢٦
2١- صـ٩٥١ نفس المصدر
3١- علي محمد زيد، تيارات معتزلة اليمن في القرن السادس الهجري صـ٠٥١