فـاروق ثـابت - كانوا يقولون لي أنهم يذهبون لأداء الحج.. ظل هذا الاعتقاد مسيطراً على ذهني كثيراً.. ولكن بمجرد أن كبرت عرفت أن ذلك لم يكن سوى تقليد لايمت للحج بصلة..
في قريتي.. إلى الشمال من مدينة تعز الكبار والمعمرون هناك يعتقدون أن زيارة جامع الجند تكتب عند الله حجة..
على أحر من الشوق يستقبل القرويون في تعز شهر رمضان بالتهاليل والأناشيد الترحيبية والحاملة لتعابير طلب مغفرة.. المأثورات تسود إلى حدٍ كبير..
»الشعبانية« آخر جمعة من شعبان يذهب فيه أبناء القرية رجالاً ونساءً للصلاة في جامع معاذ بن جبل.. لأداء منسكهم كما يعتقدون.. وهذا التقليد الذي ورثوه عن آبائهم ربما كانوا يقيمونه استقبالاً للشهر الكريم.. لكن الآن ترك الرعية من أبناء »الحوبان« هذه العادة لتيقنهم أن الحجة لاتكون إلاّ للبيت الحرام.. ربما كان الجهل آنذاك هو الذي دفعهم لاعتقاد ذلك..
> فقط فالأطفال في قرى الحوبان- بل وكل الأطفال في تعز المدينة القديمة أيضاً ينشدون لرمضان بصوت صداح بالسعادة والأمل.. وهذه عادة التعزيين لاستقبال الشهر الفضيل.. احراق القش والإطارات أقل ما يجده الأطفال للتعبير عن فرحتهم الكبيرة بالقادم الناسك الوقور.. ويظلون يركضون في أزقة الحارات ويتلوون بين المنازل حاملين معهم فوانيس الفرحة ويرددون اهازيج الترحيب ويدعون الناس ويذكرونهم بشهر الله والصيام والصلاة والعبادة.
قبيل الفطور ينتظر الأطفال في سقوف المنازل وقت الزوال ويبدأون بالصياح: »دفع دفع يا علي حمود.. زوجتك جاوع قاهية إشتموت«..
وعلي حمود هنا من يعتقد أنه يتحكم بمدفع الإفطار والإمساك..
في صنعاء.. وبالتحديد القديمة لفت انتباهي طفل يصيح بأعلى صوته:
»يا رمضان يا أبو الحمائم
إدي لأبي قرعة دراهم
يا رمضان يابو المدافع
إدي لنا مخزن بضائع«
كلمات بسيطة.. لكنها قوية المدلول واسعة المعنى، فالطفل رمز للشهر الفضيل »أبو الحمائم« باسلام متيمناً به بل ويأمره بالفعل الأمر باللهجة الشعبية »إدي«- يعني إعط »قرعة دراهم« أي المال..
ينادي الشهر الكريم.. الوقور.. كأنه شيخ متسامح جليل كريم ودود صاحب عطاء يغدق كل من يطلبه يناديه بمخزن البضائع ويسيسه ببساطة بـ»أبو المدافع«..
الطعام في رمضان ونظام الأوقات في الراحة والخروج للزيارات ثقافة ينفرد بها اليمنيون عن باقي الشعوب في الدول الشقيقة ربما..
اليمنيون يستقبلون شهر رمضان بصيام أيام من شهر رجب وصيام الشعبانية- الثلاث البيض من شعبان- وقبل حلول الشهر بأيام تجهز الأسرة الحبوب كالذرة والشعير والفول إلى أصناف آخرى تتم قبل حلول الشهر بيومين أو ثلاثة وهو مايعرف لدى التعزيين بالأخص »التناصير« لدى حرق بعض من الحشائش والأحطاب والرقص مع ترديد بعض الأناشيد وهو ما يعرف بـ(التماسي) ويستعد الأطفال لأدائها منذ بدء العشر الأواخر من شهر شعبان وهذا ما يتميز به أطفال اليمن عن غيرهم لدى ترديدهم نشيد الحمائم ولـ»قرعة الدراهم«..
بنشيد الأطفال لرمضان والحمائم يجسدون فيه شخصية المتضرع إلى هذا الضيف الروحاني المعطاء في ليمنَّ عليهم وآبائهم بالوافر من الرزق لأن هذا الشهر يحتاج للكثير من الرزق..
الحلويات الشعبية اليمنية أحد مفردات القديم تحضر نفسها بقوة خاصة مع قدوم رمضان فهي ذات أولوية جامحة بالنسبة للصائم، أيضاً تبادله هي بالمثل ربما رغبةً منها لأن تنال ثواب إفطار الصائم..
الأسواق الشعبية في مدينة صنعاء مكتظة بأصوات الصائمين وتهافتهم المتزايد خاصة قبيل الفطور بغية شراء الرواني والقطائف والشعوبية والسمينة.. ليس هذا فحسب فللعصائر نصيب وافر أيضاً.. الزبيب والشعير والمنقع والدُبا تستقبل الصائم في سوق الملح وباب السبَّاح بأقداحها الباردة.. تعرض نفسها للصائمين بهدوء..
لاصوت يُسمع.. سوى قرقعة الأكواب الزجاجية هناك في صنعاء القديمة تقول للقادمين: »شهر مبارك وكل عام وأنتم بخير«.
> »مدد ليفرس وهي محراث الشجون
وغيهبُ الأذكــار
قبتها الصغيرة سره الدنيا
ومعصمها البحار«
تمنيت لو أكون صوفياً يستقبل الشهر الفضيل في كوّة محاطة بأتباع الشيخ والمجاذيب والغرباء في جامع ابن علوان..
أرتشف من بحر (حقه)
أنتشي من ثغر مارب
فأجرني يا إلهي
من معاصي الغيب
واصطفيني..
مدد ليفرس..
محراب الشجون
مدد يا ابن علوان
مدد..
|