الميثاق نت - أحمد الحبيشي

الخميس, 25-يونيو-2009
أحمد الحبيشي -
من مخرجات عصر اقتصاد الخراج الى تحديات عصر الاستعمار

هكذا شهدت بلادنا أول ظاهرة سياسية في تاريخ اليمن المعاصر، تمثلت في التزاوج الذي حصل بين الثقافة والأيديولوجيا في إطار ثقافة سياسية شمولية تحولت إلى محدد رئيسي للتعاطي مع موضوعة الوحدة ومعادلة التجزئة وذلك من خلال رفع شعار الوحدة وتكريس التناقضات بين الشطرين في آن واحد.. وهي ظاهرة تستدعي التأمل الموضوعي لظاهرة أخرى في تاريخ اليمن الوسيط، حين كان للثقافة الدينية المتزاوجة مع الأيديولوجيا المذهبية دور هام في نشوء أول دولة يمنية مستقلة عن الدولة العباسية في عهد الخليفة المأمون من جهة، وتكريس التناقضات الداخلية في إطار هذه الدولة المستقلة، والتي وصلت ذروتها إلى تشرذمها وتجزئتها في هيئة كيانات ودويلات داخلية من جهة أخرى، شأنها في ذلك شأن دول ملوك الطوائف التي نشأت على أطراف نظام الخلافة الامبراطوري، كنتاج موضوعي لتناقضاته وتشوهاته في عصر اقتصاد الخراج.
في هذا السياق نجح الإمام الهادي يحيى بن الحسين الرسي في الوصول الى اليمن تلبية لدعوة من زعماء القبائل اليمنية المتناحرة على الحكم، بهدف إيقاف الحروب الداخلية، وتمكن من إقامة نظام حكم مستقل ذاتياً عن الخلافة العباسية عام 819م، وذلك بعد ان أضاف إلى المذهب الزيدي مبدأ يحصر الحكم بموجبه على سلالة البطنين العلوية الهاشمية، ثم بدأ الدعوة إلى مذهب الإمام زيد بن علي في مدينة حجه بشمال اليمن حيث أسس هناك الدولة الزيدية التي انتقلت فيما بعد إلى مدينة صنعاء.
وأجمعت الدراسات التاريخية المتوفرة حتى الآن، على أن دولة عقائدية من هذا الطراز لم تستطع تحقيق وحدة اليمن وحمايتها، كما لم تستطع في الوقت نفسه الحفاظ على استقراره الداخلي، وذلك بسبب منحاها الأيديولوجي المذهبي الذي سعى إلى تشكيل الوعي الديني وتوظيفه كأيديولوجيا لنظام الحكم، وهو المنحى الذي ميز التطور التاريخي اللاحق لمختلف الدويلات اليمنية التي نشأت فيما بعد على أسس مذهبية وعقائدية.
الى هذا المنحى يعيد بعض المؤرخين ما ساد اليمن من ظواهر التمزق والصراعات المذهبية والقبلية التي أسفرت عن نشوء عدد من الدويلات اليمنية القائمة على الاستقطابات المذهبية الدينية، والنزعات المناطقية والقبلية، وكان القاسم المشترك بينها يتمثل في إستغلال الوعي الديني واستخدامه كأيديولوجيا تبريريه للحصول على الشرعية، ما أدّى الى أن يصطبغ تاريخ اليمن خلال تلك الحقبة الوسيطة بصبغة دموية..عجزت تلك الدويلات والكيانات الإقطاعية عن التوسع وإخضاع الكثير من المناطق اليمنية، ولم تتمكن من الوصول إلى حضرموت شرقاً، والى عدن وأبين جنوباً، وإلى حدود نجد شمالاً باستثناء دولة الصليحيين التي أسسها علي بن محمد الصليحي عام 1047م، وجعل من مدينة «جبلة» عاصمة لها بعد أن نجح في إقامة أول دولة مركزية واحدة لليمن بأسره من أقصاه إلى أقصاه.
وكما هو معروف فان هذه الدولة اليمنية الموحدة استمرت بعد موت مؤسسها عام 1066م، حيث تولي قيادتها من بعده، نجله المتزوج من السيدة أروي بنت أحمد التي أصبحت أول ملكة يمنية في التاريخ الميلادي الوسيط، بعد أن أشركها زوجها في حكم البلاد بسبب ماكانت تتمتع به من علم بأصول الدين، وقوة في الشخصية، وإنفتاح على مختلف الفرق والمدارس الكلامية والمذاهب الفقهية.
شهدت اليمن في ظل الدولة الموحدة والمستقلة عن نظام الخلافة الامبراطوري، استقراراً سياسياً ساعد على تحقيق تقدم ملموس في المجالات العلمية والسياسية والاقتصادية والإجتماعية، واحياء التقاليد السياسية التاريخية القديمة للمجتمع اليمني في مجال الحكم القائم على مبدأ الشورى والمشاركة الشعبية، وقيام الدولة بوظائف عامة، مثل الاهتمام بالزارعة وتنظيم الري والتجارة والحرف المهنية. كما انتعشت في البلاد حركة فكرية وثقافية، تجسدت بظهور تيارات فكرية للفرق الإسلامية المختلفة وإبرزها المعتزلة، حيث أمكن لليمن بفضل تنوع وتعدد هذه التيارات الفكرية أن يسهم بدور فعال في إغناء الفكر الإسلامي والثقافة العربية.
وقد إستمرت هذه الدولة الموحدة إلى أن توفيت الملكة أروى بنت أحمد عام 1138م، حيث خلفها في الحكم نهج منغلق تسبب في تفكك أوصال المجتمع اليمني، ودخوله نفق الانقطاع الحضاري نتيجة لإحياء الصراعات المذهبية التي كانت تشكل المحتوىالرئيسي لنظام الخلافة الامبراطوري و الدويلات اليمنية غير الموحدة،التي قامت على اطرافه في عصر اقتصاد الخراج الى جانب دول ملوك الطوائف الاخرى في شمال افريقيا والمشرق العربي ومغربه.
وكانت هذه الدويلات تستمد مقومات وجودها من نزعات التشدد والتعصب والظلم والتعسف التي أصابت الشعوب العربية بعد إنتقال مركز الدولة الإسلامية إلى الأتراك العثمانيين، وما ترتب على ذلك من تمزق المجتمع العربي، وتفاقم الركود الإقتصادي والثقافي، ووقوع أجزاء عديدة من البلاد العربية تحت سيطرة القوى الاستعمارية الأوربية في وقت لا حق.
في هذا السياق، وخلال قرون متلاحقة شهدت بلادنا قيام دويلات مذهبية وآخرها المملكة المتوكلية في مطلع القرن العشرين، والتي تأسست في ظل ظروف تاريخية نوعية، برز فيها دور العامل الوطني الممزوج بالعامل المذهبي على اثر تنامي مخاطر التهديدات الاستعمارية الأوروبية واحتدام الصراع على الإمامة بين اكثر من إمام إدعى لنفسة الأصالة العقائدية ونزاهة المقصد، إلى أن تمت مبايعة يحي بن محمد حميد الدين إماماً على اليمن بلقب المنصور بالله المتوكل 1917م، بعد نجاحه في مقاومة الأتراك وتوقيع صلح دعان مع دولة الخلافة العثمانية عام 1911م، التي أقرت له بالإستقلال الذاتي مقابل الإلتزام بدفع الزكاة والخراج والدعاء للخليفة في خطب الجمعة بمساجد اليمن، وصولاً الى تأسيس المملكة المتوكلية اليمنية التي استمرت حتى يوم السادس والعشرين من سبتمبر 1962م.
الثابت أن الموقع الجغرافي الإستراتيجي لليمن مثل همزة وصل بين بلدان البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر والمحيط الهندي، جعله في العصر الحديث هدفاً لحملات التوسع والاحتلال من قبل الدول الاستعمارية الأوروبية الكبرى مثل البرتغال وهولندا وإيطاليا وتركيا وبريطانيا، حيث نجحت الأخيرة في الانفراد باحتلال عدن 1839م، والاحتفاظ بها لفترة طويلة فرضت خلالها هيمنتها الكاملة على باقي أجزاء الجنوب اليمني التي كانت خارج السيطرة المباشرة لدولة الخلافة العثمانية والدولة المتوكلية في آن واحد، وفي هذا الإتجاه استكمل الإستعمار البريطاني احتلاله للجنوب بتوقيع معاهدات صداقة وحماية مع السلاطين وحكام الإمارات والمشيخات المجزأة، والتي أصبحت بموجب تلك المعاهادات محميات بريطانية.
ولَّد هذا الوضع شعوراً وطنياً بالأخطار التي تهدد السيادة الوطنية والمصير الوطني، وأفسح الطريق أمام بروز الإرهاصات الأولى للقضية الوطنية في ظل وضع متميز بالتخلف الشديد والعزلة الخانقة والانقطاع الحضاري، غير أن طموح حكام بعض المناطق اليمنية في تكريس سلطتهم على الكيانات التي كانوا يحكمونها، وبناء دويلاتهم الإنعزالية فيها، أسهم في تمكين القوى الاستعمارية من استغلال الخلافات المذهبية والنزعات القبلية والمناطقية وتأجيجها باتجاه تحويلها الى صراعات طائفية وقبلية تضعف وحدة المجتمع من جهة، وتمهد لطمس الهوية اليمنية من جهة أخرى.
في هذا السياق سعت القوى الإستعمارية الى تغذية طموح بعض الزعامات المحلية لإقامة دويلات مستقلة في جنوب الوطن من خلال ابرام معاهدات للحماية والصداقة مع سلاطين وامراء ومشائخ الكانتونات التي كانوا يحكمونها على اساس قبلي أو عائلي بعيداً عن نظام الخلافة الامبراطوري في عصر اقتصاد الخراج، وبعد وقوعها في دائرة التبعية المباشرة للاستعمار البريطاني، كما حدث ما يشبه ذلك في شمال اليمن عندما تحالف محمد علي الإدريسي مع الإستعمار الإيطالي الذي كان ينظر الى تهامة كمجال حيوي للمستعمرة الإيطالية «اريتريا»، وفيما بعد عندما تحالف الإدريسي مع الاستعمار البريطاني الذي أحتل ميناء الحديدة وسلمها له عام 1921م، بعد توقيع معاهدة حماية وصداقة معه بهدف توسيع الدويلة الأدريسية، والحيلولة دون قيام دولة يمنية موحدة على الأراضي اليمنية التي كانت تابعة للدولة العثمانية.
بيد أن حكم آل حميد الدين نجح في تصفية الدولة الإدريسية من تهامة والحديدة، وفي وقت لاحق من حرض، وحصرها داخل عسير، وهو عمل تاريخي أسهم في توسيع نطاق الجغرافيا السياسية للدولة اليمنية، وكان له تأثير هام على إهتمام نظام آل حميد الدين بعد ذلك بجنوب اليمن.
والحال أن العملية الوطنية التاريخية التي بدأها شعبنا اليمني منذ الربع الأخير للقرن التاسع عشر، سارت في اتجاه ثابت استهدف القضاء على الحكم التركي في المناطق الشمالية من اليمن، ودرء مخاطر الوجود الاستعماري البريطاني بأفق التطلع الى بناء دولة مركزية موحدة.
في جنوب الوطن المحتل شهدت مدينة عدن خلال الحكم الاستعماري في الاربعينات نوعا من التعاطي مع سؤال الهوية على يد الجمعية العدنية التي كانت تسعى للدفاع عن عروبة عدن والتحرر من هيمنة النخب والجاليات الأجنبية لدول الكومنولث على الوظائف الإدارية والفعاليات الإقتصادية والتجارية في المدينة ومما له دلالة أن شعار «عدن للعدنيين» الذي جسد مفهوم الجمعية العدنية لحق تقرير المصير جوبه بمقاومة شعبية عارمة من قبل الحركة الوطنية اليمنية التي كانت تطالب بالحق في الإستقلال عن الإستعمار، والحق في إستعادة الهوية اليمنية المسلوبة، لا بتقرير مصير عدن خارج هويتها الوطنية اليمنية، فيما وجد مشروع الكومنولث.. الاستعماري دعماً من بعض رجال الدين أمثال الشيخ محمد بن سالم البيحاني والشيخ محمد علي باحميش اللذين اختزلا مفهوم الهوية في نطاق ديني ضيق حيث اصدرا فتوى مشتركة زعمت بأنه من حق مسلمي دول الكومنولث البيحاني على حساب ثوابت الانتماء الوطني والهوية اليمنية، كما كرس الشيخان البيحاني وباحميش خطب الجمعة -التي كان الاستعمار البريطاني ينقلها على الهواء عبر اذاعة عدن الاستعمارية بالتناوب اسبوعياً- لتسويق تلك الفتوى التي باركها حاكم عدن البريطاني آنذاك، والترويج لحق مسلمي الكومنولث في الاقامة الدائمة بمدينة عدن كمواطنين، والتمتع بحقوق المواطنة الكاملة.
وقد نجح الوطنيون اليمنيون بفضل عدالة قضيتهم وصدق إيمانهم بحقيقة الوطن اليمني الواحد، في إلحاق الهزيمة بمشروع توطين ابناء الكومنولث في مدينة عدن، والتصدي لشعار حق عدن في تقرير المصير، والذي كان يراد له -هو الآخر- ان يكون مدخلاً لطمس هويتها اليمنية، ومنطلقاً لشعارات مماثلة لتقرير مصائر السلطنات والإمارات المتعاهدة مع الإستعمار البريطاني، الهدف منها في نهاية المطاف هو سلب الهوية الوطنية اليمنية لكامل اراضي الجنوب المحتل، وتلفيق هويات بديلة زائفة!!
ثمة تاريخ طويل وزاخر بالمآثر الكفاحية العظيمة التي اجترحها السياسيون والمثقفون والأدباء والكتاب والفنانون والطلاَّب والعمال والمزارعون والتجار ورجال الدين الوطنيون في مجرى الدفاع عن الهوية الوطنية اليمنية، والتطلع الى محو وإلغاء الخارطة التي فرضها المستعمرون والأئمة والسلاطين، وإستبدالها بخارطة الحلم الوطني التي رسمت معالمها الثورة اليمنية (26سبتمبر- 14 اكتوبر)، وتتوّجت بإنتزاع الإستقلال عام 1967م، وإستعادة الوجه الشرعي للوطن اليمني الواحد يوم الثاني والعشرين من مايو 1990 العظيم.
وعلى أساس هذا الاتجاه تطورت هذه العملية ابتداءً من ثلاثينات القرن العشرين، وشكلت المحتوى الرئيسي للحركة الوطنية الشعبية المعاصرة في اليمن، والتي وصلت ذروتها في الخمسينات والستينات، وتوجت بقيام ثورة 26سبتمبر 1962م وثورة 14 أكتوبر 1963م وتحقيق الإستقلال الوطني في 30نوفمبر 1967م، وميلاد الدولتين الوطنيتين اللتين اقتسمتا الوطن حتى الثاني والعشرين من مايو 1990م.
تمت طباعة الخبر في: الأحد, 24-نوفمبر-2024 الساعة: 02:25 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-10714.htm