شائف علي الحسيني -
الزيدية القاسمية
لاتختلف عن الزيدية »الهدوية« في الأصول والمنطلقات والأركان إنما هي منسجمة معها بل إن أئمتها أنفسهم امتداد عائلي للإمام الهادي يحيى بن الحسين ومايلاحظ من الاختلاف بينهما هو في بعض الأوجه التي اقتضتها المستجدات القائمة في الواقع الحديث والتي فرضها المتغير الزمني بين عصرين، فقد كانت علاقة الزيدية الهادوية مع محيط اجتماعي قبلي متخلف وبُنى اقتصادية عتيقة لم يتم تطويرها ومذاهب مغلقة متعصبة ودولة خلافة في بغداد شديدة البطش لمعارضيها وأئمة كل يدعي بأفضليته عن غيره وثورات قبلية في كل الأصقاع.
بينما الزيدية »القاسمية« جاءت في أغلب فتراتها مع وجود الحكم العثماني السني المتعاقب على اليمن فاستفاد الأئمة من الوسائل الحديثة التي أدخلت في البلاد كوسائل الاتصال والمواصلات وأدوات الحرب مثل البندقية والمدفع واحتكاك الأئمة بما يجري خارج البلاد من تطورات سياسية وعلمية خاصة مع وصول السفن التجارية والحربية إلى الموانئ اليمنية في الغرب »الحديدة« في الغرب و»عدن« في الجنوب، مما كان يعني الاتصال بالعالم الخارجي، وقد استفاد الأئمة كذلك من خلال التعامل اليومي مع الأتراك ومع الأنجليز في كسب الخبرة العسكرية والإدارية والاطلاع على مجريات الأحداث في »الاستانة« عاصمة الخلافة العثمانية وفي »لندن« العاصمة البريطانية الاستعمارية بالإضافة إلى استقبالهم لوفود الزائرين من علماء مذاهب وسياسيين وأطباء وفلاسفة وتبادل الرسائل مع غيرهم من الأمراء والملوك خارج القطر اليماني إضافة إلى تراكم المعرفة بسيرة الدول السابقة والاستفادة من تجاربها وخبراتها أثناء حكمها للبلاد كالدولة الزيادية والرسولية والدولة الصليحية فتميز بذلك عهدهم عن عهود الأئمة السابقين.
كما أن الأئمة الزيديين المتأخرين انفتحوا على المذاهب الأخرى سنية وغير سنية وتعايشوا معها في مناطق امتداد نفوذهم مثل المذهب الشافعي والأباضي والإسماعيلي وغيره، عكس أسلافهم الذين حكمتهم الجغرافيا ولم يمتد نفوذهم إلى السهول وتحدد نطاق خلافهم السياسي مع الدعوة الفاطمية وتحديداً مع علي بن الفضل ومنصور بن حوشب وعلي محمد الصليحي ، فعندما نقول الزيدية القاسمية فإننا نعني بعض المتغيرات التي لم تكن ظاهرة في مراحل الزيدية الأولى وأهمها:
1- المتغير الزمني والتوسع في حكم البلاد ليشمل مناطق أخرى ومذاهب أخرى.
2- رفع شعار القضية الوطنية للتحرير بما سمي آنذاك الاحتلال التركي لليمن.
3- دخول عنصر جديد في النظام الإمامي وهو ظهور »ولاية العهد« الذي خالف مفاهيم »الهدوية« في اختيار الإمام حتى وإن استمرت مظاهر هذا الاختيار فإنها لاتعدو عن اعتباها أمراً شكلياً بينما ولاية العهد هو الثابت في أغلب المراحل أي أن يأتي الابن خلفاً لأبيه في الحكم.
4- اتباع واقعية سياسية في التعامل مع الأحداث وإقامة التحالفات، فمرة يتم التحالف مع الأتراك ومرة مع المماليك وفي مرات أخرى مع الزعامات المحلية والقبلية وبحسب مقتضيات الأحوال وطبيعة الصراع.
5- استمرار الإمامة والحكم بعائلة آل القاسم لفترة زمنية طويلة حتى قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م وتغيير نظام الحكم والدولة في اليمن إلى جمهوري.
أما الأمر الذي ظل مشتركاً ومتشابهاً بين المرحلتين هو الاستمرار في دعوات الأئمة لأنفسهم وإعلان الخروج على الإمام القائم وحصر الإمامة في البطنين مما جعل الساحة ممتدة لصراع من هذا النوع على طول الفترات التي حكم بها الأئمة الزيديون.
ومن الجدير هنا الإشارة إليه قبل الخوض في الزيدية القاسمية وفي مراحلها المختلفة أن من الضروري في هذا المقام التعريج لتناول مرحلة أخرى مهمة جداً سبقتها وفي الحقيقة لايمكن التغاضي عنها وتجاوزها من ناحية أنها ذات امتداد وتداخل بين ما مضى وماهو قادم.. ومن ناحية ثانية لاتصال أحداثها بموضوع الصراع الأسري على الحكم وهي فترة الإمام شرف الدين وابنه المطهر.
الإمام شرف الدين وابنه المطهر (٢١٩-٠٨٩هـ)
كان الإمام شرف الدين قبل ظهور دعوة الإمام القاسم بن محمد بن علي عام 1006- 1029هـ قد أدار حروباً كبيرة ومكلفة في أرجاء اليمن منذ إعلان إمامته في عام 912هـ لتثبيت إمامته وإقامة دولته في ظل حالة عامة تسود فيها الاضطرابات والعداوات سائر المناطق اليمنية وتشتت فيه الولاءات بين الأسر والعائلات المتنافسة في طول البلاد وعرضها ولكنه لم يفلح في تحقيق ذلك بل إنه عزل نفسه في آخر أيامه في حصن الظفير بحجة مهيض الجناح ومات فيه »رحمه الله« عام 965هـ بعد أن تيقن في آخر أيامه أن الإمامة لم تعد تصلح في أولاده خاصة بعد وفاة ابنه شمس الدين الذي كان المعول عليه لخلافته.
فقد كانت البلاد مجزَّأة على نحو ما كان يحدث في المراحل السابقة من الدعوات وإقامة السلطنات هنا وهناك، كلٌ على ماتحت يده أو ما يمكن الاستيلاء عليه »التهائم واليمن وزبيد وعدن ولحج وأبين إلى رداع تحت سلطنة عامر بن عبدالوهاب وصنعاء ومخالفها تحت سلطنة محمد بن الإمام الناصر، وكوكبان وما إليه تحت سلطنة أولاد المطهر بن سليمان، والشرف والظاهر، وصعدة وما يليها متفرقة بين آل المؤيد والأشراف آل المنصور والإمام محمد بن علي السراجي الوشلي.»١«
حاول الإمام شرف الدين -بعزم وقوة- السيطرة على هذه الجهات وتوحيد هذه الأراضي تحت قيادته ولكنه أصيب بخيبة أمل في السيطرة عليها بعد أن بدأت تظهر أمامه مشاكل داخل الأسرة تتمثل في صراع الاخوة على ولاية العهد وهي التي أقضت مضجعه وأرقت منامه وصرفت جهوده، فتحولت حروبه أو الجزء الأعظم منها من حروب لأجل تحقيق ذلك الهدف الكبير إلى حروب شخصية بينه وبين أبناء المطهر ثم بين الأخوة مع بعضهم البعض لم تهدأ على طول الوقت بل كلما سكنت لبعض الزمن باتفاق ينقضها خداع ونكوث فتعود من جديد وهلّم جراء.
فكانت هذه الفترة أوضح دليل على ما في الإنسان من حب للذات والأنانية وحب السلطة التي تؤدي إلى تجاوز الحدود في أن يقاتل الابن أباه والأخ أخاه، ونسيان ما قد مضى، من صلة، وبر، وود، فيصير ذلك فعلاً قبيحاً وبائقة كبرى، يزول فيها الخلق وتغيب فيها القيم ويتعلق المرء بأستار الدنيا البالية ناسياً مترتبات ونتائج ذلك الفعل على نفسه في الدنيا والآخرة.