الإثنين, 29-يونيو-2009
الميثاق نت -   شائف‮ ‬علي‮ ‬الحسيني -
إن السلطة لاريب عبر التاريخ هي شهوة أكبر من أية شهوة أخرى تسكن النفس البشرية إذا لم تحكمها القوانين وتسمو فيها أخلاقيات وقيم الإنسان الراشدة لتنهيها عن غيِّها فإنها تتحول إلى ما يشبه الطبيعة الحيوانية التي تتحكم فيها الغرائز على العقل وإذا لم تكن كذلك فلماذا ياترى هذا الصراع المحتدم وسفك الدماء لأجلها عبر العصور، لايبرح منها الحاكم إلاّ مقتولاً أو ميتاً بل ان الذاتية واللاعقلانية تتجسد هنا في أن من يموت من الحكام يريد أن يحيا من خلال من يعهد إليه في الحكم وتطمئن له نفسه، وهذا لعمري كان مسلك حكام الخلافة الإسلامية‮ ‬على‮ ‬الدوام‮.‬
فيا ترى ما الباعث والسبب لهذه الحروب داخل الأسرة.. تشير كافة المصادر التي أرخت لهذه الفترة ويستوحى منها- وخاصة كتاب روح الروح لعيسى بن لطف الله بن شرف الدين الذي عاصر الفترة نفسها بل انه ابن من أبنائها - ان السبب يعود إلى أن الإمام شرف الدين كان يرى أحقية ابنه شمس الدين في الولاية بعده لأنه أكثر اخوته زهداً وأرجحهم رأياً وأكثرهم تقى، وهذا ما كان يتلاءم نفسياً مع رغبة الأب ففضَّله على أخيه المطهر الذي كان الأب يخشى سطوته حتى على إخوته فلما وجد المطهر هذه الرغبة لدى أبيه خرج على الطاعة وبدأ يعد عدته للانقضاض على‮ ‬إمامة‮ ‬أبيه‮ ‬معتبراً‮ ‬نفسه‮ ‬صاحب‮ ‬الفتوحات‮ ‬والانتصارات‮ ‬لبيت‮ ‬شرف‮ ‬الدين،‮ ‬فكيف‮ ‬لاتؤول‮ ‬إليه‮ ‬ويكون‮ ‬أخوه‮ ‬أفضل‮ ‬منه‮.‬
كانت‮ ‬معركة‮ ‬الجراف‮ ‬ظاهرة‮ ‬جديدة‮ ‬في‮ ‬تاريخ‮ ‬الصراع‮ ‬على‮ ‬الحكم
فبدأت المماحكات داخل الأسرة ثم تطورت إلى مؤامرات ومن ثم إلى حروب، ففي عام 952هـ جرت محاولة من قِبل الأب للقبض على المطهر وحبسه تجنباً للفتنة التي كان يتوقع أن تحصل في الأيام القادمة إذا ترك المطهر طليقاً ولكنها لم تفلح فقد ارتاب المطهر واحترس فتحولت إلى شقاق ثم إلى حروب بين الأب وابنه عرفت فيما بعد بحرب »الجراف« في ضواحي صنعاء بين أنصار الأب وأنصار الابن ثم توالت المعارك في كل مكان في مد وجزر فانتهج المطهر كل السبل لهزيمة أبيه مستخدماً خبرته الحربية وعلاقاته القبلية فأرسل الرسائل إلى كل الجهات يحفز الولاة والقبائل الخروج عن أبيه ودعوتهم لعدم طاعته بل والتمرد عليه وإعلان الحروب ضده.. وفي هذا الصدد لم يستثنِ الأتراك من هذه المراسلات رغم عداوة بيت شرف الدين لهم حيث بعث برسائله إلى »أويس باشا« في زبيد يحثه على احتلال صنعاء لكن القائد التركي عرج على احتلال تعز ثم واصل السير نحو صنعاء فاسحاً المجال أمامه ومهيئاً له الظروف »وأنه بجيشه يعضده ويمده ويؤيده وحسن له أخذ البلاد وعرفه أن معامليه عن أبيه وأخيه لايخشى من نزال ولا جلاد فعند ذلك نهض أويس باشا بتلك العساكر الجرارة حتى أناخ على مدينة تعز.»٢«، ثم احتلها وواصل الزحف‮ ‬إلى‮ ‬صنعاء‮ ‬ولولا‮ ‬مقتله‮ ‬في‮ ‬الطريق‮ ‬من‮ ‬قِبل‮ ‬جنوده‮ ‬من‮ ‬اليمنيين‮ ‬لوصل‮ ‬بأسرع‮ ‬ما‮ ‬يمكن‮.‬
لقد كانت معركة الجراف ظاهرة جديدة في تاريخ الصراع على الحكم في اليمن ونكالاً على المتخاصمين، حيث يخرج الابن على طاعة أبيه متجاوزاً كل حد وغير آبهٍ بما سيقال فيه من عمل قام به غير مشروع ديناً وعرفاً، حيث يقول مؤرخ الفترة عيسى بن لطف الله بن شرف الدين بهذا الصدد: »فأمر بقتال أبيه وإمامه، وانتهاك ما أوجب الله عليه من احترامه، وهذا غاية العقوق ونهاية العصيان وقطع الحقوق، فنعوذ بالله من الغضب الذي يورث الإنسان سوء المنقلب« »3«، فأوصل الأمور إلى ذروتها وسد كل منفذ فيه نصر لأبيه أو لأخيه وتداعت الأحداث في كل مكان وفقد الإمام السيطرة عليها، فكان الأمر الواقع أمام الأب وابنه إما الهزيمة أو التسليم، فخضع الجميع وآل ماتحت يد الإمام وأبنائه إلى المطهر عام 953هـ ودخل صنعاء متوجاً بالإمامة وبدأ بتصفية الحساب مع أنصار أبيه وأخيه فقتل من قتل وسجن من سجن حتى كرهته البلاد.
ورغم ذلك لم تهدأ البلاد من الاضطرابات ولم تكف المؤامرات داخل الأسرة فقد تواصل زحف الأتراك على صنعاء من قبل »أزدمر باشا« القائد التركي ودارت معركة حامية الوطيس، وفي يومٍ ذي مسغبة على أسوار صنعاء وداخلها ومن تحت رماد الحرب وغبارها كانت تجري المؤامرات بين الاخوة حتى أنه يقال إن دخول الاتراك إلى صنعاء قد سهل لهم ذلك ماجرى من مكاتبة سرية بين الأمير علي أخي المطهر وخصمه والقائد التركي، يحثه الأول على مواصلة تقدمه إلى صنعاء متعهداً له بنفقات الجنود عاماً كاملاً وغير ذلك، وتراخى الأخوة في الدفاع عن صنعاء نكايةً بالمطهر وضعف حماس المطهر نفسه بالدفاع عنها كما صرح بذلك نفسه قائلاً أنها ضمن هفواته التي ندم عليها وانسحب المطهر من صنعاء ودخل الترك وجنودهم من القبائل وغيرها ونهبوا صنعاء وكانت النتيجة »قُتل من صنعاء مقدار اثني عشر مئة ونهبت البيوت وأخذت النساء والبنون وباعوهم‮ ‬في‮ ‬الأسواق‮ ‬ومن‮ ‬الناس‮ ‬من‮ ‬زال‮ ‬عقله‮ ‬ومن‮ ‬النساء‮ ‬من‮ ‬قتلت‮ ‬نفسها‮«..»٤«‬

خرجوا‮ ‬مع‮ ‬جيش‮ ‬الإمام‮ ‬لنصرته‮ ‬فإذا‮ ‬هم‮ ‬من‮ ‬خذله
إنها‮ ‬صورة‮ ‬مريعة‮ ‬لم‮ ‬يسبق‮ ‬لها‮ ‬في‮ ‬التاريخ‮ ‬مثيل،‮ ‬أن‮ ‬تهدر‮ ‬البلاد‮ ‬أرضاً‮ ‬وإنساناً‮ ‬بهذه‮ ‬الطريقة‮ ‬وتتحول‮ ‬إلى‮ ‬ساحة‮ ‬حروب‮ ‬وقتال‮ ‬ونهب‮ ‬و‮ ‬فيد‮ ‬لأجل‮ ‬من‮ ‬يكون‮ ‬الإمام‮.‬
إن أفضل صورة لتقريب واقع الحال هو ما جاء في كتاب الحداد المشار إليه في صـ47 و48 المجلد الثالث (تاريخ اليمن العام) من وصف لجزء من الحالة السائدة آنذاك وهي كما يلي: »ولما استولى إزدمر باشا على صنعاء تقدم الأمير عز الدين من بلاد صعدة على رأس قوة فيها الكثير من أشراف الجوف بهدف مساندة أخيه المطهر ووصل إلى بلاد الظاهر من بلاد حاشد وكان النفوذ فيه للأشراف الحمزات المنافسين التقليديين لأبيه وإخوته.. الذين طلبوا العون من »إزدمر باشا« الذي أمدهم بقوة حولت الموقف لغير صالحه- أي الأمير عز الدين.. الخ«.
فقد خذل من قبل اشراف الجوف الذين ساندوا الأتراك وسعوا جاهدين للقضاء عليه فقد انسحب منهم من كان في جيش عزالدين وهو ما كان مؤمل منهم نصرته ليلتحقوا مع العثمانيين وكانت نهاية عزالدين باسره ونفيه إلى اسطنبول.. (5) د. سيد مصطفى صالم الفتح العثماني الأول لليمن 1538‮-‬1635‮ ‬صـ192،193‮ ‬طبعة‮ ‬خامسة‮ ‬1999م‮.‬
»ثم جرت مفاوضات انتهت بعقد صلح بين الجانبين المطهر والترك في عام 954هـ، عاد الأتراك بعدها إلى صنعاء وقد نقض الاتراك الصلح في عام 955هـ وتقدموا بقواتهم لحرب المطهر وعسكروا في بلاد البون من بلاد حاشد حيث انضم إليهم الأشراف الحمزات وتقدم المطهر بدوره على رأس جموعه وقامت حرب سجلت الانتصار الحاسم للمطهر وعاد الأتراك بعدها منهزمين إلى صنعاء.. لقد ساء الأمير شمس الدين ابن الإمام شرف الدين انتصارات أخيه المطهر في حرب البون على الأتراك ووصل إلى صنعاء يحث الأتراك على مواصلة حربهم للمطهر.. الخ«.
يا ترى ماذا جرى إنها مآسٍ لاتعد ولا تحصى سواءً في حروب الأتراك أو الحروب مع الدولة الطاهرية التي كانت نهايتها على يد المماليك بناءً على دعوة الإمام نفسه حين »طلب من قانصوه الغوري حاكم مصر مساعدته في القضاء على الدولة الطاهرية فأرسل له السلطان حملة من الشركس‮ ‬فافتتحوا‮ ‬اليمن‮ ‬وتعاونوا‮ ‬معه‮ ‬في‮ ‬إخضاع‮ ‬دولة‮ ‬آل‮ ‬عامر‮« »٥«..‬
فكانت الخلاصة استباحة الدماء على يد المطهر في حروبه مع الطاهريين وقتاله مع الأتراك وحروبه مع أبيه وأخيه التي أظهر فيها المطهر قدرة وجسارة في سفك الدماء إلى حد أن أباه تبرأ من أفعاله قائلاً »اللهم إني أبرأ إليك مما فعله المطهر«»٦«.
وجاءت براءة الأب من ابنه بعد أن قتل أسرى الطاهريين في صنعاء بحد السيف فوق ما يزيد على ألف وثلاثمائة أسير، منافياً بذلك الشرع والأعراف فكانت فعلة نكراء وعملاً فيه إرهاب كبير لم يسبق إليه أحد من الأئمة.
وكانت نهاية المطهر مسموماً على يد أقرب المقربين إليه وذلك عام 980هـ، 1572م.. (1) بعد عمر فيه عناء، لافرح فيه ولا راحة، ويصبح الحال أنه لم يحقق منجزاً ولا سطر كتاباً ولا انتفع منه بشيء إنما حروب وقتال وكان ذلك في النهاية هو المآل وتحولت بعده الحصون والسهول إلى‮ ‬مرتع‮ ‬لكل‮ ‬طامح‮ ‬صغيراً‮ ‬أم‮ ‬كبيراً،‮ ‬فاختلف‮ ‬أبناؤه‮ ‬بعده‮ ‬واختلف‮ ‬ابناء‮ ‬اخوته‮ ‬بعده‮ ‬وكل‮ ‬يدعو‮ ‬لنفسه‮ ‬في‮ ‬مكان‮ ‬وله‮ ‬أشياع‮ ‬وأتباع‮ ‬وأصبح‮ ‬الحال‮ ‬كقول‮ ‬الشاعر‮ ‬آنذاك‮:‬
وتفرقوا‮ ‬شُعَباً‮ ‬فكل‮ ‬قبيلة
‮ ‬فيها‮ ‬أمير‮ ‬المؤمنين‮ ‬ومنبر‮(‬1‮)‬
وكانت‮ ‬أكثر‮ ‬الدعوات‮ ‬للإمامة‮ ‬استجابةً‮ ‬في‮ ‬أوساط‮ ‬الناس‮ ‬بعد‮ ‬هذا‮ ‬العجاج‮ ‬من‮ ‬الحروب‮ ‬هي‮ ‬دعوة‮ ‬القاسم‮ ‬بن‮ ‬محمد‮ ‬بن‮ ‬علي‮ ‬عام‮ ‬1006هـ1029هـ‮ ‬والتي‮ ‬سيتم‮ ‬تناولها‮ ‬فيما‮ ‬بعد‮»٧«..‬
وفي كل الأحوال ليس هذا إلاَّ غيضاً من فيض لما حدث في تلك الفترة يعجز المرء عن تفسير ما حصل علام يتضارب الناس ويتقاتلون في هذه البلاد الفقيرة الجافة قليلة الموارد كثيرة الاضطرابات، أليس أحرى باليمنيين أن يتعظوا ويأخذوا العبر من تاريخهم حكاماً ومحكومين وأن ينحوا ببلادهم عن هذه الدروب الوعرة نحو طريق السلامة وأن يكون هناك طريق ذو مشروعية أهلية للوصول إلى الحكم بدلاً عن هذا الصراع الدامي عبر العصور الذي لم ولن يؤدي إلى نتيجة تسجَّل لصالح الشعب في توفير الاستقرار والأمن وسبل العيش الكريم وخلق في أنفس الناس الأمل‮ ‬في‮ ‬المستقبل،‮ ‬وإلاَّ‮ ‬فإننا‮ ‬سنظل‮ ‬في‮ ‬نفس‮ ‬الدائرة‮ ‬ونفس‮ ‬الهم‮ ‬الذي‮ ‬عاشه‮ ‬الأولون،‮ ‬ويصبح‮ ‬الحال‮ ‬كقول‮ ‬الشاعر‮:‬
ما‮ ‬بالنا‮ ‬نتمنى‮ ‬فسحة‮ ‬الأمد
‮ ‬وما‮ ‬لنا‮ ‬فيه‮ ‬غير‮ ‬الهم‮ ‬والكمد
في‮ ‬كل‮ ‬يوم‮ ‬ترى‮ ‬دمعاً‮ ‬يجول‮ ‬على
خد‮ ‬ونائحة‮ ‬تبكي‮ ‬لمفتقد‮ ‬1‮- »٨«‬




الهوامش‮:‬

‮١- ‬صـ11‮ ‬عيسى‮ ‬بن‮ ‬لطف‮ ‬الله‮ ‬شرف‮ ‬الدين‮ »‬روح‮ ‬الروح‮« - ‬تحقيق‮ ‬ابراهيم‮ ‬المقحفي‮.‬
2‮- (‬1‮) ‬عيسى‮ ‬بن‮ ‬لطف‮ ‬الله‮ ‬شرف‮ ‬الدين،‮ ‬روح‮ ‬الروح،‮ ‬ص117
‮٣- ‬الحداد‮ ‬صـ44،‮ ‬تاريخ‮ ‬اليمن‮ ‬العام،‮ ‬المجلد‮ ٣‬
‮٤- ‬صـ128‮ ‬عيسى‮ ‬بن‮ ‬لطف‮ ‬الله‮ ‬شرف‮ ‬الدين،‮ ‬روح‮ ‬الروح
‮٥- ‬صـ133،‮ ‬كتابات‮ ‬من‮ ‬سجون‮ ‬حجة‮ ‬1948م،‮ ‬محمد‮ ‬عبدالله‮ ‬الفسيل‮ ‬وأحمد‮ ‬محمد‮ ‬الشامي
‮٦- ‬الحداد،‮ ‬صـ23،24‮ ‬المجلد‮ ‬الثالث،‮ ‬تاريخ‮ ‬اليمن‮ ‬العام‮.‬
‮٧- ‬1‮- ‬عيسى‮ ‬بن‮ ‬لطف‮ ‬الله،‮ ‬صـ196‮ ‬روح‮ ‬الروح
‮٨- ‬صـ197‮ ‬عيسى‮ ‬بن‮ ‬لطف‮ ‬الله،‮ ‬نفس‮ ‬المرجع‮ ‬السابق
9‮- ‬صـ192‮ ‬عيسى‮ ‬بن‮ ‬لطف‮ ‬الله،‮ ‬نفس‮ ‬المرجع‮ ‬السابق‮.‬
تمت طباعة الخبر في: الأحد, 24-نوفمبر-2024 الساعة: 04:33 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-10762.htm