الميثاق نت - أحمد الحبيشي

الخميس, 16-يوليو-2009
أحمد الحبيشي -
استغرقت الدولتان الشطريتان زمناً ليس هيناً في إعادة انتاج مكوناتها الموروثة عن العهود السابقة لتطور العملية الثورية المعاصرة التي جاءت لتقدم نفيا تاريخيا ومعرفيا لتلك العهود وثورة على مخلفاتها.. وبتأثير تراكم ذلك الاستغراق المنغلق على الذات الشطرية برزت هوة سحيقة بين الدولتين كأجهزة ومنظومات من جهة, وبين المجتمع بوصفه كياناً بشرياً ينمو ويتجدد في سياق عملية ثورية تاريخية من جهة أخرى, الأمر الذي أدى إلى عجز كل من الدولتين الشطريتين عن تلبية وتجديد احتياجات المجتمع اليمني.
ولئن كانت انجازات علم الاجتماع المعاصر ترى في أن قيام كيان معين لا بد وأن يخلق قوى تتلاءم معه, ويخلق تبعاً لذلك تأقلماً إيديولوجياً محدوداً بفعل قوة العادة التي تجعل الجيل الناشئ في ظل المناخ الخاص للإيديولوجيا متسماً بروح الانتساب إلى ذلك الكيان الذي نشأ فيه, ومنضبطاً في توجيه سلوكه اليومي للتعامل مع منظوماته وأجهزته, فإن تناقض الكيانين الشطريين قبل الوحدة مع اتجاه تطور العملية الثورية المعاصرة للشعب اليمني فرض عليهما السير في اتجاهين: موضعي ومطلق، الإيمان بضرورة الوحدة من جهة, وتكريس التشطير بصيغ آيديولوجية من جهة أخرى.. وهذا أن دل على شئ فإنما يدل على مأزق وتخلف الجهاز المفاهيمي للآيديولوجيا التي استمد منها كل كيان -على حدة- شرعية تبرير وجوده, وإفتعال العوائق لتأجيل الدمج الموضوعي للكيانين الشطريين في دولة وطنية واحدة.
لا ريب في أن كلاً من الكيانين الشطريين السابقين برر لنفسه التمسك بعملية الاستغراق في تكريس وتجديد الدولة الشطرية إنطلاقاً من الوهم بموضوعية الكيان النموذج الذي سيفرض نفسه بصورة امتداد أو إلحاق عن طريق افضلياته, ولذلك وصلت المحصلة النهائية لحالة الاستغراق في تنمية وتطبيع التشطير إلى مأزقها الموضوعي بحكم لا تاريخية ولا موضوعية تلك الحالة, لأن الدولة الشطرية استنفذت قدرتها على معالجة أوزار ومخلفات الماضي وإرثه الثقيل, وباتت عاجزة عن مواكبة الميول الجديدة لتطور العالم المعاصر.
استند الخطاب السياسي الوحدوي للدولتين الشطريتين قبل الوحدة إلى ميراث فكري وطني وقومي كان ينظر إلى التشطير من موقف رافض, ويقوم بتعريفه على أنه من صنع الإستعمار ومخلفات القرون الوسطى, لكن هذا الخطاب قام بتكريس التشطير وإنتاج جهاز ضخم من المفاهيم الآيديولوجية التي تبرر بقاءه.
وبصرف النظر عن ما كان يميز بنية ذلك الخطاب من رؤى متباينة لدولة الوحدة, إقترضت وجود وجهتي تطور متمايزتين, احداها تنادي بالتوجه الإسلامي والأخرى بالتوجه الاشتراكي, فإن ذلك التباين لم يكن يستند إلى الواقع, ولم يتجاوز نطاق صراع الإرادات والأوهام الآيديولوجية القابلة للإختبار والتغير في مجتمع يخوض معركة حضارية مفتوحة ضد التخلف والتشطير والبنى التقليدية الموروثة.
ثمة مصادر فكرية مشتركة لصراع تلك الإرادات والأوهام وهي أن الخطاب السياسي الوحدوي للدولتين الشطريتين كان ينتسب إلى الفكر القومي العربي الكلاسيكي الذي كان يربط تحقيق الوحدة العربية بعدد من الشروط, وبضمنها وحدة أداة الثورة العربية, وضرورة قيام قوة ثورية إقليمية تتكون من قطر عربي أو أكثر, وتضطلع بدور مركز الاشعاع والجذب, وتلعب دور «القاعدة» التي ينطلق منها التغيير الوحدوي الريادي.
وقد تم تحوير المفاهيم المكتسبة من الخطاب القومي العربي الكلاسيكي بعد إكسابها صياغات آيديولوجية جديدة, وبعد تنميطها في نطاق محلي قطري بل وشطري, الأمر الذي أدى إلى حدوث تعديل في مضمون الخطاب السياسي الوحدوي بعد ظهور الدولتين الشطريتين في اليمن أواخر الستينات، وكانت نتيجة ذلك التحوير وصول عملية الإستقطابات الآيديولوجية الصارمة إلى مأزقها, وتفاقم تناقضات الخطاب السياسي الوحدوي للدولتين الشطريتين, وتكريس التشطير على المستوى الوطني, وهو المأزق نفسه الذي وصل إليه الخطاب القومي الكلاسيكي.
وهنا يتطلب الأمر نقد الوعي الآيديولوجي الذي كان سائداً في حقبة التشطير, وكرّس طائفة من المفاهيم التي خلطت بين عملية التوحيد الوطني كضرورة في سياق مشروع التغيير الذي دشنته الثورة اليمنية (26سبتمبر- 14 أكتوبر), وبين فرضيات الإنتقال بهذه العملية إلى الوجهة الإشتراكية أو الوجهة الرأسمالية او تحويلها إلى «قاعدة» لإستعادة دولة الخلافة الاسلامية وفق تصورات نظرية مبسطة أنتجها الجهاز المفاهيمي لحركة الاسلام السياسي التي لا تمتلك مرجعاً معرفياً لها في الواقع اليمني والسياق التاريخي العالمي.
تميزت السنوات الأولى للوضع الناشئ والقائم على أساس دولتين شطريتين في اليمن أواخر الستينيات, بحرص كل منهما على تجميع آليات الأمن الذاتي, وما رافق ذلك ميول لتكوين وعي سياسي تبريري يكرس التشطير من جهة, ويرفع خطاباً وحدوياً ضده من جهة أخرى, ولم تخل تلك الفترة من الصدامات المباشرة وغير المباشرة على مستوى الشطرين, بالإضافة إلى الصدامات الداخلية داخل كل شطر في مجرى الصراع الداخلي على السلطة.
عندما استقرت الأوضاع للدولتين الشطريتين, اتجه كل منهما لإنجاز مهمات التنمية الاقتصادية والإجتماعية محكوماً بدور وظيفي للدولة ذي تقاليد ضاربة الجذور في أعماق التاريخ, على النحو الذي أكسب الدولة الشطرية سمات رعوية شرقية.
بوسع التحليل الموضوعي لمسار التنمية في كل من الشطرين تسليط الضوء على تناقضات التنمية الشطرية وبالتالي تناقضات الخطاب السياسي الوحدوي في حقبة التشطير يعود مرجعها إلى ذلك الكم من الأعمال النظرية المشوّهة التي تظاهرت بتصوير تلك التناقضات وكأنها انعكاس لاتجاهين متوازيين على صعيد مفاهيم التطور الاقتصادي والاجتماعي.
وكان طبيعياً أن يترتب على كل ذلك بروز ظاهرة التخندق خلف متاريس تلك المفاهيم عند بحث إشكاليات ومصاعب تحقيق الوحدة اليمنية في تلك الفترة, وذلك من خلال تبرير التشطير آيديولوجياً, دون أن يكون الوعي الآيديولوجي السائد في الشطرين قد أستقر على مفاهيم معرفية ناضجة, ناهيك عن كون المرجعية الخارجية لذلك الوعي -بصرف النظر عن تناقض مفاهيمه بين شطر وآخر- لم تكن قد وصلت الى إستنتاجات وتعميمات حاسمة, على نحو ما حدث في النصف الثاني من الثمانينات حين بدأ الجهاز المفاهيمي لكل من علم الاجتماع وعلم الاقتصاد السياسي يتأزم ويتحلل بسبب تصادمه مع الميول الموضوعية لتطور التاريخ العالمي سواء على مستوى الفكر الاشتراكي أو الفكر الليبرالي المعاصرين.
والثابت أن الدولتين الشطريتين اتجهتا نحو التنمية لتخفيف ضغط التجزئة على أمنهما الذاتي, ساعدتهما في ذلك حاجة موضوعية هي جزء من وظائفها في إطار مفاعيل مشروع التغيير الذي دشنته الثورة اليمنية, بصرف النظر عن نوع الإرادة السياسية والتصورات الآيديولوجية التي حاول كل من الدولتين الشطريتين توجيه التنمية على ضوئها.
كان البحث عن رؤى وأنماط متباينة للتنمية بهدف تبرير التشطير وتأسيسه على وجهتين متمايزتين لكل من الدولتين الشطريتين, يبدو في بادئ الأمر وكأنه امراً سهلاً, بيد أنه كان ينطوي على تعسف لمبادئ علم الاقتصاد السياسي للتنمية في البلدان المتخلفة, وقد تم ذلك التعسف بوضوح عن طريق الإستعانة بنظريات جاهزة -لم تكتمل بعد- عن التنمية والتطور الإنتقالي.
بالنسبة للشطر الشمالي أنحصر التوجه نحو التنمية في أوائل السبعينات -وبدوافع سياسية بحتة- في أُطر آليات السوق وتسخير جزء من وظائف الدولة لإعادة إنتاج البنى التقليدية لما قبل الدولة, الى جانب تنمية القطاع الخاص وتقديم مختلف أشكال الدعم والحماية له، وفيما بعد تبلورت الحاجة إلى تنويع أشكال الملكية وأنماط الاقتصاد, وتوجيه التدخل الحكومي لضبط أسعار المواد الأولية ودعم أسعار المواد الغذائية وإطلاق ميكانزمات التعاون الأهلي.
كان كل ذلك يتم إنطلاقاً من فرضيات ترى بأن التنمية ممكنة إذا توافر لها قدر معين من الطاقة الاستثمارية والعمالة والإدارة والمشاركة في شئون الحكم, مع تجاهل تام لأهمية تقويم حجم السوق الداخلية, ومعايير الفواعل الاقتصادية الخارجية في منطقة تشكو من تبعية طرفية مطلقة, بالإضافة إلى إغفال معايير توافر الموارد الطبيعية للاقتصاد الوطني والموارد الذاتية لتكوينه الرأسمالي.. وجميع هذه العوامل قادت التنمية في الدولة الشطرية بشمال الوطن إلى مأزق حاد, ووصلت ذروتها بعد تراجع تحويلات المغتربين على اثر انخفاض اسعار النفط في منتصف الثمانينات.
أما على صعيد الشطر الجنوبي فقد سارت التنمية انطلاقاً من منظور ساذج للصراع الطبقي, جرى بموجبه استبعاد قوى سياسية واجتماعية انطلاقاً من الأوهام التي تؤكد على ضرورة ((التقليص التدريجي للعوامل المولدة للعلاقات الرأسمالية على طريق تصفيتها نهائياً)) بحسب ما جاء في برنامج الحزب الاشتراكي اليمني الذي كان يحكم جنوب الوطن قبل الوحدة.
ولا يحتاج المرء إلى جهد كي يكتشف إن مرجعية ذلك المنظور الساذج تعود إلى الأوهام الآيديولوجية القائلة بحتمية إنتقال المجتمعات المتخلفة إلى الاشتراكية مباشرة بواسطة الدعم الخارجي للبروليتاريا الظافرة, ودون الحاجة للمرور بمرحلة الرأسمالية.
يمكن القول أن المصدر الأبرز للمأزق الذي أصاب الدولة الشطرية في الجنوب أواخر الثمانينات, كان يتمثل في تعريف التخلف بصورة غير واقعية انطلاقاً من ذلك المنظور، وكان ذلك التعريف يقدم نفسه من خلال برنامج الحزب الاشتراكي كمشروع وطني للتغيير شمالاً وجنوباًَ, متجاهلاً بعض السمات الجوهرية للتخلف في بلادنا، فالصناعة لم تكن موجودة تقريباً، فيما كانت بنيتها متشابهة في الشطرين بإستثناء صناعة تكرير النفظ في الجنوب وصناعة الأسمنت في الشمال، أما الطبقة العاملة في الشطرين فقد توزعت بين صناعات الملح وكبس القطن والورش ومحطات الكهرباء والمياه والطواحين ومدابغ الجلود والحرف اليدوية وخدمات النقل والبناء بالإضافة إلى صناعة إحلال الوارد, فيما كانت معايير العلاقة بين العمل ورأس المال تعكس الحجم البسيط والمتخلف للعمليات التي تديرها هذه العلاقة.
وكما هو معروف فقد رُفعت بعد استقلال الشطر الجنوبي شعارات غير واقعية طالبت بحسم العلاقة بين العمل ورأس المال من خلال التأميمات والمصادرات والإنتفاضات الفلاحية, بالإضافة إلى إتخاذ سياسات متطرفة استهدفت استبعاد أصحاب رؤوس الأموال وملاك الأراضي والفئات الاجتماعية الوسطى من النشاط الاقتصادي، كما أتخذت أيضاً إجراءات راديكالية أستهدفت تصفية الشرائح التجارية التي نشطت في مجال الاستيراد.
أتضح فيما بعد أن تلك الإجراءات لم تمس سوى شكل النشاط الاستيرادي, أما محتواه «الكمبرادوري» فقد بقي ثابتاً, بل أنه توسع على يد قطاع الدولة الذي أحتكر لمؤسساته التجارية والتسويقية ذلك النشاط بعد ان أزدادت رقعته وعملياته, بالتزامن الوثيق مع تدهور العديد من الفعاليات الاقتصادية المحلية, نتيجة لتعطيل واستبعاد قوى اجتماعية واسعة كانت تسهم بقسط هام في التداول السلعي من خلال مساهمتها في الإنتاج المحلي.
وبالنسبة للأرياف فقد أدت المصادرات والاجراءات التي عطلت قوانين السوق, ومنعت المزارعين من تملك الأراضي الزراعية, إلى إعادة إنتاج البنى المتخلفة للزراعة التقليدية ذات الكلفة العالية في العمل والعائد المحدود للأجر, مما زاد في إفقار واستغلال الفلاحين, وأدى في نهاية المطاف إلى إفلاس الشعارات الاشتراكية, التي كانت تنسب التخلف والفقر إلى «الاستغلال الطبقي» الذي يمارسه ملاك الأراضي ضد الفلاحين!!!؟؟
ربما كان ما تقدم جزءاً بسيطاًَ من الخطوط والظلال المتداخلة في البقاع الرمادية لصورة التشطير، وربما كانت تلك البقاع الرمادية تدل بوضوح على أن ثمة محركاً مشتركاً للاتجاهين اليميني واليساري في ايديولوجيا التشطير, وهو الجهل بالواقع اليمني والعجر عن معرفة المحددات الداخلية والخارجية التي تحرك مفاعيله, فيما كان كل من الاتجاهين يتحرك -ايضاً- نحو هدف واحد هو المجهول، بمعنى أن الاتجاه اليميني في ايديولوجيا التشطير كان يشترك مع الاتجاه اليساري في الجهل بالواقع ويهرب معه إلى المجهول!!
في هذا السياق شهدت السبعينات إستقطابات داخلية حادة وصلت ذروتها باندلاع حرب مباشرة عام 1972م, و حدوث مواجهات مسلحة غير مباشرة عن طريق المعارضات المسلحة، وقد زاد من حدة تلك الاستقطابات الداخلية تقاطعها مع خط الاستقطابات الدولية والأقليمية خلال الحرب الباردة, حيث تحول اليمن بشطريه إلى ممر للتطرف ومركز لإستقطاب الجماعات المتطرفة التي استخدمتها القوى الدولية في مرحلة الحرب الباردة لخوض مواجهات بالوكالة, بدءاً بجماعات الجيش الأحمر الياباني، وبادر أند ما ينهوف الألمانية, وجماعات أبي نضال، ووديع حداد، وكارلوس, وغيرها من الجماعات المتطرفة التي كانت تنفذ مهمات مسلحة عابرة الحدود بالوكالة عن الاتحاد السوفيتي وتحت رعاية جهاز المخابرات السوفيتيه K. G. B, وانتهاء بجماعات التكفير والهجرة والجهاد الاسلامي والجماعة الاسلامية, والجماعة السلفية للدعوة والقتال و جماعة أنصار السنة, بالإضافة إلى قوافل الجهاد الافغاني الضخمة التي أدارتها المخابرات المركزية الأمريكية CIA, ومولها صندوق دولي دوّار أنفق على تشغيل تلك الماكنة حوالي 45 مليار دولار كان جزء كبير منه عربي المنشأ والهوية.
صحيح أن ذاكرتنا الجماعية لا تخلو من بقاع سوداء لفصول دامية, ومأساوية شوهت العمل الوطني الثوري, وأثقلت مسيرته بالآلام والأوجاع والأخطاء، لكن ذلك كان يحدث فقط عندما ينفصل المجال السياسي للعمل الوطني عن مجاله الثقافي وينقاد لسطوة الأيديولوجيا واوهامها, فتكون النتيجة مزيداً من الفصل بين السياسة والأخلاق, ومزيداً من الاغتراب عن الواقع والسقوط في منطقة اللاوعي، ومزيداَ من الابتعاد عن نظام القيم الأخلاقي، والسلطة المعرفية لثقافة الحرية.
والله من وراء القصد
تمت طباعة الخبر في: الخميس, 21-نوفمبر-2024 الساعة: 08:52 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-10954.htm