شائف الحسيني -
كانت اليمن ساحة لصراعات محتدمة على الحكم داخل العائلة الواحدة فضلاً عن صراعات مع العائلات الاخرى المنافسة، كامتداد للخلافة العباسية وما يحيط بها حيث كان يحتدم الصراع في مركز الخلافة في بغداد، فتسري آثاره الى أقطار الخلافة الاسلامية بين مناوئين طامحين وحاكمين متشبثين، الأهم لديهم في الساحة السياسية هو تقرير من يشغل عرش الخلافة وولاية الاقطار وهذه كانت ولاتزال أهم نقاط الضعف في تاريخ اليمن بل والعرب جميعاً ، الصراع على السلطة حيث تتحول القضية من خدمة المواطن وتطوير الحياة الى اشتغال الأمة فيما ليس لها فيه فائدة في دعم هذا أو الانقضاض على ذاك، فتنازعت الاسر والمذاهب والقبائل والمناطق فيما بينها على هذا النحو، فأوصلت الأمة الى التدهور الحضاري والقيمي فسلبت خياراتها من جراء ذلك فأصبحت تابعة غير متبوعة ومن ثم إفقارها معيشياً وثقافياً لتغدو في هذا العصر مضرب الأمثال في سائر أرجاء المعمورة في التخلف والانحطاط بين شعوب العالم.
وما يُفخر به من تطورات حصلت في بعض الفترات في الحكم العربي الاسلامي راجع الى منظومة الحكم المتبعة في وقته وقناعة الناس فيه والى شخصية الحاكم نفسه ومواهبه قبل كل شيء بإقامة العدل في دولته وتأمين مواطنيه وكسبهم الى صفه ثم في إشاعته قيم التسامح وحرية التفكير والانفتاح بين مساعديه وأركان دولته وفي أوساط المواطنين وما صحابها من النباء الحضاري والانساني الذي جعل المسلمين في فترة من الفترات منبع العلم والمعرفة والايمان وغير ذلك فحيد من حوله الطموحين للخلافة وجعلهم في صف الانتظار الى حين ، ثم ما يلبث أن يموت مقتولاً أو غير مقتول مريضاً أو مقعداً إلا ويظهر المطالبون بإرثه فيتناحرون وتتهاوى منجزاته واحدة بعد أخرى لتعود الأمور الى سيرتها الأولى، ولم تستطع الشورى أن تحل هذا الخلاف رغم وضوح النص القرآني »وأمرهم شورى بينهم« صدق الله العظيم الآية، فكل يدعي أحقيته بالحكم بغض النظر عن الشورى كمنهج إسلامي فكل الدول سواءً كانت سنية أو شيعية أو إمامية كلٌ يدعي لنفسه ولأسرته مرتكزاً على نصوص وفقهاء يفسرون ويحللون له هذه الأحقية ناهجين طريق السياسة لا طريق الدين، فالدولة السنية على سبيل المثال لم تهتم بمبدأ الشورى وتتخذه نهجاً لها اقتداءً بالخلفاء الراشدين لتطفي نار الفتنة بل ورثت الحكم للعائلة وأقصى الشورى الى آخر الدنيا ولم يعد لها أي اثر في ممارستهم للحكم فخضع الناس تحت مبدأ تم صياغته »من أشدت وطأته وجبت طاعته«.
الوراثيون القائلون بأحقيتهم في الحكم بالنص »الأثنا عشرية والاسماعيلية والإمامية« لم يتوارثوا الحكم فيما بينهم بطريقة تؤدي الى الاستقرار والأمن وإنما عاشوا في فتن وحروب في كل مكان فيما بينهم ومع غيرهم وصح فيهم قول الشهر ستاني »ما سل سيف في الاسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان«.
القبائل التي طمح زعماؤها في الوصول الى الحكم لم يعيروا اهتماماً بهذه الجوانب الدينية لا للسنية منها ولا للإمامية بل سعوا اليه وتوارثوه أباً عن جد دون أن يونوا عابهين بما قيل ويقال حول الشورى أو غير الشورى وبذلك لم يكونوا أحسن من غيرهم فيما سعوا اليه إنما أسوأ بكثير لجهلهم بأسس الحكم ومبادئ الشريعة وما يتبع ذلك من الالتزام الشرعي وغيره فحولوا الحكم الى حكم الطاغوت الذي جعل البلدان مناطق نفوذ شخصي واقطاعيات مغلقة وقبائل متحاربة.
لقد أدى ذلك الى انهيار الدول دولة تلو اخرى فعمت الفوضى والاضطرابات في أنحاء البلاد وعاد الناس في علاقاتهم الى ما هو دون الدولة وأحياناً الى ما هو دون القبيلة، فيصبح العيش داخل هذه الأقطار اشبه بحياة الحيوانات في الغابة القوي فيها يأكل الضعيف وقد توفرت غالباً الأسباب الموضوعية لهذا التداعي والانهيار عندما تكون الهيئة الحاكمة مصابة بالعجز في إدارة الحكم ورعاية المجتمع وعدم فهمها لمكونات الواقع الذي يتم حكمه واحتياجات الناس فيه وإما أحياناً لانغماسها في شؤونها الخاصة وملذاتها الدنيوية دون إعارة أدنى اهتمام لشؤون العامة وترك ما هو عليها الى غيرها من الحاشية والمتمصليحن الذين غالباً ما يكونوا أسوأ بكثير من الحاكم نفسه وهو ما يسمى بالبطانة، لذلك رأينا في التاريخ كم من الدول سقطت وتلاشت لأسباب ضعف الحاكم وركونه على غيره حتى وصل الحال لدى بعض الحاكمين الى القول »أنا أوقع وأنت اعملوا ما فيه المصلحة«..(1)
الى أن يصبح حراس الحاكمين في بعض الفترات هم الحاكمين الفعليين بعد أن يقوموا إما بتصفية الحكام جسدياً أو وضعهم رهن الاعتقال وتجريدهم من صلاحياتهم والحكم باسمهم ، المماليك في مصر وبعض خلفاء العباسيين في بغداد والرسوليين في اليمن مع الطاهريين واليعفريين وبنو زريع والصليحيين .. الخ ، فعلى سبيل المثال كان الواثق ابن المعتصم العباس (٧٢٢هـ - ٢٣٢هـ) (٢٤٨م - ٧٤٨م) رغم قصر فترة حكمه كان يتميز بحبه للمجون وجزل العطاء وتولية العسكر من الترك إدارة الأقاليم حتى قلدهم الأمر في الاخير وفوض اليهم شؤون الخلافة كما يقول المسعودي.(2)
وعندما توفى لم يترك بعده خليفة فأوصلوا المتوكل على الله جعفر بن المعتصم الذي كان طموحاً للخلافة بعد أبيه وترصد الفرصة السانحة للوصول اليها بنسج العلاقات القوية مع الترك ثم اختلف معهم كما اختلف الأب مع ابنه فأخذه الترك وقتلوه ويرى بعض المؤرخين بأن الهادي أبو هارون الرشيد اغتيل من قِبل زوجته عندما علمت انه يريد جعل الخلافة لابنه جعفر بدلاً عن ابنها هارون الرشيد، وكذلك ماجرى من صراع مرير فيما بعد بين أبناء هارون الرشيد »الأمين والمأمون« وهكذا، فبني العباس لهم قصص في الحكم وصراعات متضخمة وكبيرة امتلأت بها كتب التاريخ مثلما امتلأت كتب التاريخ من قبلهم بخلافة الاسرة الحاكمة الاموية فكانت سبباً من الأسباب التي أدت الى سقوط الدولة العربية في دمشق ثم لاحقاً سقوط الدولة العباسية في بغداد على يد المغمول عام ٨٥٢١م.
وعليه فإن المشكلة التي أوصلت المجتمعات العربية الى هذا المستوى من الانحطاط في العصر الراهن يعود الى البيئة السياسية والاجتماعية والثقافية التي صنعتها الأحداث الماضية وكونت ركاماً هائلاً من التراث الذي شكل بيئة اجتماعية جاهزة لقبول مثل هذه الدعوات أياً كان شكلها أو نوعها مناسبة لهذا العصر أو غير مناسبة فانعكست على الحياة العامة صراعات وفقر ومستقبل غامض وظلت مشكلة الحكم قائمة كما هي منذ ما يزيد على ألفي عام ولم يتم حسمها بعد في أية مرحلة من المراحل السابقة واللاحقة وبقيت مسألة مفتوحة على كل الابواب ولكل مجتهدٍ فيها نصيب.
لذلك فإن اليمن مثلت في خضم هذه المعارك المتتابعة أنموذجاً سيئاً بل هو أكثر حدة من غيره في سائر الاقطار، ربما بسبب الخصوصيات الجغرافية والاجتماعية التي جعلت اليمن لفترةٍ طويلة في أقاليم ومناطق معزولة عن بعضها البعض وكثرة الداعين فيها للحكم، فكانت الدعوات تظهر هنا وهناك فيتحصن فيها الطموحين ثم يديرون حروبهم منها إما باسم العباسيين أو الفاطميين أو أولئك الداعون الهاربون من بطش العباسيين »الدولة الزيدية والصليحية والدويلات السنية والدعوات القبلية والزعامات المحلية« لمئات السنين مما ترك أثره على البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الذي يدفع ثمنها المجتمع اليمني حتى يومنا هذا تخلفاً واضطراباً وفقراً وهجرة.
فكيف يا ترى كان يحدث هذا النزاع والصراع على السلطة والحكم داخل العائلة الواحدة..؟ ولأن المشهد معقد وغير مقدور الإحاطة في هذا المقام فسوف يقتصر الحديث عنه في ومضات محدودة جداً تبين ما تذهب اليه، فالمشهد ضخم ورقعته واسعة واللاعبين فيه كثر والزمن طويل؟!
أولاً الزيدية (الهدوية):
لقد وضع هذا الترتيب باعتبار ان الزيدية (الهدوية) دخلت اليمن في فترة متقدمة عن غيرها من الدعوات الاخرى المذهبية التي تنافست معها فيما بعد، فعمر الزيدية يقترب من الف عام وهي من أكثر المذاهب حراكاً سياسياً واجتماعياً وثقافياً في اليمن لم تسبقه اليه أية دعوة أخرى، ثم أنها أي الزيدية من أكثر المذاهب ا لتي ظلت متواصلة طوال تلك الفترة الى يومنا هذا.
فعندما جاء الهادي يحيى بن الحسين الى اليمن عام ٤٨٢هـ، ٧٩٨م كان يحمل معه مشروعاً للحكم جاء به من وسط معاناة شديدة تعرض لها آل البيت على يد الأمويين ثم العباسيين، فقد نكل بهم أشد تنكيل من قتل منهم ومن حبس ومن فر هارباً في الأرجاء، وكانت غاية الهادي وهدفه عند قدومه الى اليمن هو إقامة خلافة لآل البيت تشمل أرجاء العالم الاسلامي ويكون اليمن نواتها الأولى كما تشير بعض المصادر.(3)
وفي هذا السياق بدأ الهادي باتخاذ الخطوات العملية في مسار حكمه بدعوة القبائل اليمنية مساندته لإقامة دولته وقد رأى الهادي من واقع الممارسة العملية أنه من غير الممكن إقامة دولة في ظل دعوة للإمامة مفتوحة لقرشي وغير قرشي لهاشمي وغير هاشمي لذلك خرج عن قواعد الزيدية التي جاء بها زيد بن علي رضي الله عنه من جانب خاصة في إمامة المفضول على الأفضل فنص على حصر الإمامة في البطنين من أولاد الحسن والحسين من فاطمة الزهراء وجعلها من الأصول الخمسة التي تقوم عليها الزيدية »الهادوية« بل هي واجب شرعي وديني في هذا الحال، وحدد الشروط الواجب توافرها في من يدعو لنفسه بالإمامة وهي أربعة عشر شرطاً: »أن يكون، مكلفاً ذكراً، حراً، مجتهداً، علوياً، فاطمياً، عدلاً شجاعاً سخياً ورعاً سليم العقل سليم الحواس سليم الاطراف صاحب رأي وتدبير مقداماً فارساً«الخ.. ثم يخرج شاهراً سيفه منابذاً للظلمة وهو بذلك قد خرج عملياً عن نظرية ومبادئ الزيدية ليس فقط الذي جاء بها زيد بن علي والتي لا تنص على الوراثة ابتداءً ولكن التي وضع أسسها جده القاسم بن ابراهيم المؤسس الأول للزيدية في اليمن والذي لم يجعلها من الأصول الخمسة بل أنه رفض الوراثة فيها كطريق للإمامة، ثم لم يبّين مسألة الخروج.(4) نفس المرجع
فالإمام القاسم قد فلسف الفكر الزيدي في ضوء ما جاء به القرآن والسنة والفكر المعتزلي وهو كما قال علي محمد زيد في كتابه »معتزلة اليمن« هو من أوجد التلاقح بينهما، فالزيدية منذ نشأتها قامت على الفكر المعتزلي في أصوله الخمسة »التوحيد، العدل، الوعد، والوعيد، المنزلة بين المنزلتين، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر«، وقد نشأ الفكر المعتزلي على تقديم العقل قبل النقل، فالعقل لديهم هو الطريق الى المعرفة »فاعتبروا يا أولي الألباب« صدق الله العظيم، الآية ٢ سورة الحشر، فالأصل فيه هو عمل فقهي فكري قبل أن يكون سياسياً حيث، كان يجري جدلاً آنذاك في القرن الثاني الهجري بين مختلف الاتجاهات والتيارات الدينية والفكرية والسياسية حول أفعال الانسان وعلاقتها بالثواب والعقاب والخلافة في من تكون فظهر الجبر والاختيار والخوارج والمرجئة وغيرها ، وترافق ذلك مع جدل آخر سياسي حول الخلافة بين مختلف الفرق كان يقول معاوية أمام معارضي تولية ابنه يزيد ولياً للعهد: »وإن أمر يزيد قد كان قضاءً من الله وليس للعباد خيرة في أمرهم«.(5)
بينما أهل السنة وأكثرية المعتزلة والخوارج والمرجئة (يجمعهم القول بأن الأمامة واجبة من جهة وأنها تكون بالاختيار لا بالنص من جهة أخرى«.(6)
وقالت الشيعة بوجوب التعيين والتنصيص وثبوت عصمة الانبياء والأئمة الاثني عشر، فجاء زيد بن علي رضي الله عنه ليطرح طريقاً جديداً معتدلاً وسط خلافات حادة أدت اليه استشهاد الحسين بن علي رحمه الله ورضي الله عنه، في كربلاء عام ١٦هـ مفاده إمامة المفضول على الأفضل، كان علي بن أبي طالب كرم الله وجهه الأفضل ولمصلحة عامة رؤية اختير أبي بكر للخلافة ثم عمر رضي الله عنهما فوجب طاعتهما واعتبر أن بني أمية ظلمة وأن واجب الإمام الخروج عن الظالم شاهراً سيفه منابذاً للظلمة وهذا لم يرق للأمويين لأنهم كانوا على قناعة أن أي رأي أو اجتهاد يتناقض مع حكمهم الوراثي المطلق لن يقبلوه بأي حال جاء من زيد أو من عمرو فأعلن زيد بن علي الثورة ضد الأمويين فقام جيش هشام بالقضاء على الثورة واستشهد زيد عام ٢٢١هـ.
لقد كانت اجتهادات الإمام الهادي في حصر الإمامة وفي مسألة خروج إمامين في قطرين وفي الشروط الواجب توافرها فيمن يدعو لنفسه بالإمامة هي من قصم ظهر البعير في مسيرة الزيدية وهي التي حالت من تكوين دولة مستقرة لأن ذلك التفسير لما جاءت به الزيدية لم يراعى مساحة البلاد التي يخرج فيها إمامان لأن زيد بن علي رضي الله عنه كان يتحدث عن خلافة اسلامية مترامية الاطراف.
فمبدأ الحصر والخروج قد حول المحصورين الى محاصرين من أنفسهم ومن غيرهم فتحول التنافس حول من هو الإمام الى مشكلة بدلاً من أن يحلوا مشاكل وقد بدأ هذا الخلاف منذ الوهلة الاولى بين الهادي والإمامة القائمة في طبر ستان، الجيل والديلم بينه وبين الإمام الناصر الأطروشي الذي يدعي كلٌ منهما بتبعية الآخر له، فحصل الخلاف في المهد هذا حسني وذاك حسيني، فالإمامة لدى زيد بن علي »ليست وراثة مطلقة وقد تكون في بيت معين من ناحية الأقضلية لا من ناحية الاصل فاشراط بيت معين إنما هو شرط أفضلية لايمنع أن تكون الخلافة في غيره«.(7)
وهذا ما اجتهدت به فرق زيدية أخرى كالمطرفية التي تم الإشارة اليها والى فكرها في مواضيع شاقة.
إن فكرة الحصر والخروج قد أدى الى دخول ثلاث عائلات من أولاد وأحفاد القاسم بن ابراهيم الرسي المعترك السياسي والتي سيكون لها فيما بعد تأثير في مجريات الاحداث في اليمن لما يزيد عن ألف عام وهذه العائلات هي : »الإمام الهادي يحيى بن الحسين الذي قدم الى صعدة لتأسيس دولة زيدية عام ٤٨٢هـ ، ٧٩٨م، ثم القاسم بن علي العياني عام ٩٨٣هـ، ثم أبو هشام بن عبدالرحمن عبدالله بن الحسين عام ٨١٤هـ والذي سيأتي من سلالته الإمام عبدالله بن حمزة الذي شاع صيته في التاريخ اليمني بسبب أعماله الحربية، فقد كانت هذه الأسر الثلاث منطلقة جميعها من فكر القاسم بن إبراهيم الرسي المؤسس الأول للزيدية في اليمن.. والذي كان عالماً مجتهداً مطلعاً بعلوم عصره ذكياً شجاعاً قاوم إرهاب بعض خلفاء بني العباس وأنتج فكراً فيه استنارة في الفقه الاسلامي وفي السياسة العامة دونه في كتب ورسائل وهو أول من عمل على إيجاد تلاقح بين الفكر المعتزلي والزيدي كما أشير سابقاً وهو القائل بحجة العقل قبل النقل.
كانت الزيدية بالمقارنة مع ما ساد من الجدل في عاصمة الخلافة الاسلامية بغداد تتميز برقي التفكير وفي فتح باب الاجتهاد وهو ما اعتبر فقهاً متقدماً على غيره من فقه المذاهب الاخرى ولكن اللاحقين من أبناء المذهب تجاوزوه وساروا بالدعوة للإمامة »حصراً ثم شرعاً وإيماناً« دون عقل كلٌ يعتقد بنفسه أن اعرف الناس في زمانه وكفى، كما قال أحد الدعاة هو يحيى بن محفوظ من سلالة الهادي ٤١٦هـ
أنا كنز الله في الأرض وما ❊❊ قلت في دعواي هذا كذبا(8)
فأضاعوا الجمل بما حمل، وقد كان قدوم هذه العائلات الى اليمن في فترات مختلفة جعل كل عائلة تسير بطموحاتها نحو تأسيس دولة تكون تابعة لها وخاصةً بها، لذلك وجدنا عمق الاختلافات والحروب التي دارت بين أطراف هذه العملية ومع منافسيهم الآخرين من مذاهب وقبائل فكانت الساحة اليمنية مفتوحة لصراع من هذا القبيل لم يبقَ ولم يذر، فبعد وفاة الهادي يحيى بن الحسين عام ٨٩٢هـ ، ١١٩م بدأت الحروب تدب بين أحفاده وأبناء أعمامه وقرابته حتى وصلت الى الحروب الدامية بينهم أن يقاتل الأخ أخاه، وكما سبقت الإشارة أنه من غير الممكن تتبع صيرورة الاحداث والتنازع حول أحقية الحكم نظراً لتعدد الاطراف المتنازعة وإمتداد التاريخ فإن الأمر هنا سيقتصر على بعض الأمثلة في فترات تاريخية مختلفة لتقريب صورة ما جرى لأن الغرض هو استنطاق التاريخ وفق ما حصل بل وتأكد حصوله ليعرف اليمنيون أن الصراع على السلطة داخل العائلة لم يفضَ الى شيء يحسن من حياتهم ويبني دولة لهم ترفع من شأنهم وتطور من حياتهم وتجعلهم رقماً مهماً بين الأمم وإنما جرهم هذا النوع من الصراع الى هذا المآل وإلى هذا المصير الذي جعلهم وقوداً لحروب شخصية وليست في كل الأوقات وطنية وهو ما جعل الحاضر في بعض الأوجه أقرب ما يكون الى الماضي في المضمون وربما في بعض الاوجه في الشكل أيضاً.
بعد وفاة الهادي وتولي ابنه المرتضى محمد الذي وجد نفسه أنه غير قادر على تحمل أعباء المرحلة تنازل لأخيه أحمد الذي لقب بالناصر ثم مبايعة ابنه يحىى الذي لقب بالمنصور فيما بعد وحدث الانقسام والحروب بين الأخوين »فقد تفجر صراع دموي بين القاسم بن الناصر الذي تلقب بالإمام المختار لدين الله وأخيه يحيى بن الناصر الذي تلقب بالمنصور بالله، وانقسام القبائل بين مؤيد لهذا أو ذاك من طرفي الصراع على الإمامة الذي انتهى بدمار صعدة وإتفاق القبائل على خلع إمامتهما معاً واختفت الإمامة الزيدية عملياً من اليمن ولم يعد لها نفوذ يذكر«.
لقد كانت المرحلة الأخرى من مراحل صراع الأئمة هو مع مجيء الإمام المتوكل أحمد بن سليمان ويعود نسبه الى الهادي فقد أعلن إمامته معتمداً على إرث جده الهادي ومتعتبراً نفسه وحيد عصره قائلاً: »فإني لا أعلم أحد من أهل هذا البيت في زماننا هذا أحق بهذا المقام مني ولا أحمل لأثقاله ولا أجر على أهواله الجسام مني«.(10)
ولمايزيد عن ثلاثين عام وهو في حروب طاحنة مع منافسيه الأمراء من أولاد الإمام القاسم بن علي العياني ومع قبائل متمردة عليه فشهد عصره اضطرابات لم يسبق لها مثيل كما تقول الروايات التاريخية فقد كانت سلطاته تمتد لتصل الى صنعاء ثم ما تلبث ان تتراجع الى الجوف فتعود الى صعدة وهكذا حتى أقعد بعد أسره من قبل منافسيه أولادالقاسم العياني وأصيب بالعمى وتوفي في عام ٦٦٥ هـ، وقد قال الحجوري عنه وهو أحد مؤرخي الزيدية: »لم يبن شيئاً ولا جبى خراجاً ولا دون ديواناً وإنما كان يصدم القبائل بالقبائل والسلاطين بالسلاطين«.(11)
وفي مرحلة لاحقة لا تتجاوز سبعة عشر عاماً بعد وفاة أحمد بن سليمان كان بنو القاسم العياني يعلنون دعواتهم في شهارة وما حولها وكان عبدالله بن حمزة من سُلالة بنو هاشم بن عبدالرحمن بن الحسين يعلن دعوته للإمامة في ٣٨٥هـ، ٧٨١١م في صعدة ثم الجوف مستنداً على تراث الزيدية الهدوية وعلى ما قال له والده أن الخلافة تكون في البطنين »أخبرني أبي تلقيناً وحكاية بجمل العدل والتوحيد وصدق الوعد والوعيد والنبوءة والإمامة لعلي بن أبي طالب بعد رسول الله بلا فضل ولولديه الحسن والحسين بالنص وأن الإمامة بعدهما في من قام ودعا من أولادهما وسار بسيرتهما واحتذى حذوهما كزيد بن علي ومن حذا حذوه من العترة(12) وقد شن عبدالله بن حمزة حروباً دامية ضد خصومه ومن ينكر عليه الإمامة أو يدعي بدعوته في قطره، فقد انطلق من المنطقة الشرقية فاتحاً البلدان واحدة بعد أخرى وظل في أعمال حربية طوال فترة حياته وكان مثل سابقه الإمام أحمد بن سليمان في كل حروبه غير أنه فاقه في قتل المطرفية واستئصال شأفتهم وهو ما يعتقد لدى الفرق الإمامية اللاحقة بأنها من أهم منجزاته، لكن في واقع الأمر أنه قد شغل نفسه ومن حوله بحروب لا طائل من و رائها سوى تأكيد أحقيته بالإمامة والحكم لا أقل ولا أكثر، بينما يعيش المجتمع حالة من الفقر والخوف الذي لم يسبق له مثيل دون أن يتدخل أحد لانقاذه.
تقول سيرة الإمام عبدالله بن حمزة نفسه في وصف هذه الحالة في عام ٨٨٥هـ »حين كان يهبط الإمام في كل جمعة من بيت مساك الى ريدة للصلاة في جامعها وقد صارت خربة لاستمرار دول الظلم فيها فيلقاه ناس ضعاف مساكين من أهلها ما على أكثرهم ما يغطي عورته من شدة الفقر، وأما سائر البلاد التي ظهرت عليها يد الظلم مثل البون والخشب ومخلاف الحد والشرف المتصلة هذه البلاد بجبل حضور فإن قراها قد خلت من أهلها وتعطلت من سكانها وما بقي في الأكثر منها زرع ولا ضرع إلا التافه اليسير«(13).
وللحديث بقية
الهوامش:
١- هذا قول المقتدر بالله العباس بن الحسن في أواخر الدولة العباسية صـ٠٧ محمد اسعد طلس، تاريخ العرب، دار الأندلس، بيروت ٣٨٩١م
٢- شاكر مصطفى، دولة بني العباس ج٢ صفحة ٨١٤
٣- علي محمد زيد، معتزلة اليمن، دولة الهادي وفكره صـ٧٣
4- نفس المرجع
5-محمد عابد الجابري، صـ٣٨ الدين والدولة وتطبيق الشريعة ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ٤٠٠٢م
6- صـ٨٢ نفس المصدر
7- محمد أبو زهرة ، الإمام زيد صـ٨٨١، المكتبة الاسلامية بيروت
8- محمد يحيى الحداد، التاريخ العام لليمن، المجلد الثاني صـ٦٤٤
9-صـ٧١ علي محمد زيد، تيارات معتزلة اليمن في القرن السادس الهجري
10- صـ٦٤ المصدر السابق
1١- نفس المرجع صـ٢٦
2١- صـ٩٥١ نفس المصدر
3١- علي محمد زيد، تيارات معتزلة اليمن في القرن السادس الهجري صـ٠٥١