الجمعة, 29-سبتمبر-2006
عبدالرحمن سيف -
يندر أن تجد من يكتب عن دور الكلمة في نضالات اليمنيين من أجل الحرية والاستقلال في عهود الظلامية والاستعمار بكثير من التقصي والبحث الدؤوب عن الدور الحقيقي للكلمة، وللكلمة المغناة على وجه التحديد..
عبدالرحمن‮ ‬سيف‮ ‬هو‮ ‬واحد‮ ‬من‮ ‬المهتمين‮ ‬بالأغنية‮ ‬اليمنية‮ ‬الشعبية‮ ‬والوطنية‮ ‬وهو‮ ‬ضليع‮ ‬في‮ ‬مجاله‮..‬
هذه الدراسة التي كتبها الباحث عبدالرحمن سيف تكتسب أهميتها ليس من أهمية الحدث والمناسبة، ولكن من كونها تقصّياً عميقاً لحقيقة دور الأغنية في النضال الوطني.. وبالمناسبة نجتزأ منها في هذه المساحة التالي:
الأغنية الوطنية في اليمن كانت المحرك الأقوى للثورة، وربما أنها أبلغ تأثيراً من البندقية، فكان المواطن العادي بثقافته المحدودة يستجيب لها ويتأثر بمضمونها، ولهذا لازمت الأغنية الثورية صوت المدافع التي كانت تنطلق في ربوع الوطن اليمني مدافعة عن الثورة ونظامها الوطني الوليد.. وهي هنا شكلت أحد أهم عوامل صمود الثورة وانتصارها، لاسيما أثناء حصار السبعين يوماً التي تعرضت له صنعاء عام 67،1968م وإلى جانب هذه الخصوصية، هناك خصوصيات أخرى للأغنية الثورية في اليمن، تتمثل في العاطفة الوطنية الجياشة التي امتزجت بالمد القومي‮ ‬الذي‮ ‬بلغ‮ ‬ذروته‮ ‬في‮ ‬مرحلة‮ ‬الخمسينيات‮ ‬والستينيات،‮ ‬وبداية‮ ‬السبعينيات،‮ ‬فالفنان‮ ‬اليمني‮ ‬كان‮ ‬دائماً‮ ‬ميالاً‮ ‬للثورة‮ ‬داعياً‮ ‬لها‮:‬
‮(‬يا‮ ‬شاكي‮ ‬السلاح،‮ ‬شوف‮ ‬الفجر‮ ‬لاح
حط‮ ‬يدك‮ ‬على‮ ‬المدفع،‮ ‬زمان‮ ‬الذل‮ ‬راح
هذا‮ ‬الغير‮ ‬سيد‮ ‬واحنا‮ ‬له‮ ‬عبيد
يامن‮ ‬مات‮ ‬والله‮ ‬أنه‮ ‬من‮ ‬القهر،‮ ‬
استراح‮)..‬
‮(‬أنا‮ ‬الشعب‮ ‬زلزلة‮ ‬عاتية‮ ‬ستخمد‮ ‬نيرانهم‮ ‬غضبتي
ستخرس‮ ‬أصواتهم‮ ‬صيحتي
أنا‮ ‬الشعب‮ ‬زلزلة‮ ‬عاتية‮).‬
والفنان اليمني أيضاً ارتبط بالأرض والتاريخ.. الوطن والإنسان، وكان الوطن والإنسان والتطور والثورة على الجمود والتقوقع والرتابة دافعه الأول نحو التغيير، ورفع مستواه الثقافي والسياسي، وكانت الجماهير القوة المحركة له نحو الإبداع.
والأغنية اليمنية أيضاً كانت تحمل مشروعاً حضارياً وإنسانياً حقيقياً، نحو الديمقراطية والحرية والإبداع، ولهذا كان الفنان جزءاً من التغير والتطور والتقدم.. جزءاً من حركة ديالكتيكية تدعو للتحرر والانعتاق من مخلفات الماضي، لهذا كان الفنان حزباً بمفرده، لارتباطه‮ ‬بنضالات‮ ‬وتضحيات‮ ‬الناس‮.. ‬بالشغّيلة‮ ‬وسائر‮ ‬الكادحين،‮ ‬فارتبط‮ ‬الفن‮ ‬بالجماهير،‮ ‬وهو‮ ‬ارتباط‮ ‬ديناميكي‮ ‬موضوعي،‮ ‬وهذا‮ ‬من‮ ‬ميزات‮ ‬الفن‮ ‬الثوري‮ ‬الجديد‮.‬
وربما أن الأغنية اليمنية كانت أكثر ألوان النشاط الاجتماعي وقعاً على الجماهير، لأنها كانت قريبة منه، تلامس أوجاعهم وأحاسيسهم ومشاعرهم في التعبير والتطوير المستمر، وأصبحت مجالات اهتمام الأغنية الوطنية واسعة (وأصبحت هناك أغانٍ للأحداث الاجتماعية وأغانٍ للأديان وأغانٍ للرقص والحرب والسلم وأغانٍ للأفراح والأتراح) وهناك الغناء القومي الوطني، لأن الأغنية الوطنية حظيت باهتمام واسع من الجمهور فالأغنية الوطنية والقومية هي الأغنية التي تعبر عن الحنين إلى الوطن والتغني بأمجاده، ويطلق عليها الأغنية الوطنية أو النشيد الوطني مثل »رددي أيتها الدنيا نشيدي« لأيوب طارش.. فالغناء الذي يدعو إلى الثورة ويحارب الفساد والظلم ويحض على مقاومة الاستعمار ويدعو إلى الحرية والوحدة، وذلك ما ندعوه بالغناء القومي، ومثال ذلك »أنا الشعب زلزلة عاتية« للفنان محمد مرشد ناجي، وبما أن بلادنا عاشت قرناً ونيفاً تحت الاستعمار البريطاني في عدن والذي ساعد على توطيد الحكم الإمامي في شمال اليمن، نرى أن الأغنية الوطنية ظلت في عدن تقارع الاستعمار وأدواته، وتلهب حماس الجماهير وتحرضهم على الاستعمار في الجنوب والاستبداد في الشمال، حتى أيقظت الشعور الوطني، حتى أن الأغنية الوطنية كان لها دور فاعل في مشاركة الجماهير النضالية، حيث كانت الأغنية بمثابة الوقود الثوري للثورة في مرحلة الكفاح المسلح والتحولات الثورية، وكان من روادها آنذاك في الجنوب »محمد مرشد ناجي، وعبدالله هادي سبيت«.. ومع بزوغ ثورة السادس والعشرين من أيلول/ سبتمبر الخالدة عام 1962م وقفت الأغنية إلى جانب الثورة والثوار وفتحت نيرانها على الأعداء داخل اليمن وخارجه، وبهذا واصلت الأغنية الوطنية تحريضها وشحذ همم الشباب للانخراط في الثورة والجمهورية، وساهمت الأغنية التي واكبت ثورة سبتمبر الخالدة في ازدياد الهدير والغليان، وتأجيج الروح الثورية ضد العفونة وتطهير الوطن من الرذائل وازدياد الغضب ضد التمادي في السلب والنهب وامتصاص الدماء.. فالشعب هو الذي يصنع الزلازل تحت أقدام الطغاة، وخير دليل على ذلك أغنية »أنا الشعب صوتاً لفخار الدهور« التي رددها الفنان »أحمد السنيدار‮« ‬ونظمها‮ »‬محمد‮ ‬الخيار‮«..‬
ولانشك في أن العوامل الموضوعية لعبت دوراً مساعداً في هذه العملية وقتها كالشعور بالرغبة الجامحة للتحرر من مختلف أشكال الرتابة والجمود والظلم الإمامي والسلاطيني، والفنــــــان هو الصوت الذي كان مسموعاً ومرغوباً على الدوام..
لأن‮ ‬الناس‮ ‬كانوا‮ ‬باستمرار‮ ‬يجدون‮ ‬أنفسهم‮ ‬في‮ ‬هذا‮ ‬الفنان‮ ‬الكبير‮ ‬أو‮ ‬ذاك‮ ‬أو‮ ‬في‮ ‬كليهما‮.. ‬فقد‮ ‬بلغ‮ ‬الشعور‮ ‬الوطني‮ ‬بقوة‮ ‬الثورة‮ ‬وحبها‮ ‬مداه‮ ‬الكبير‮.‬
فكان المرشدي ومحمد سعد عبدالله وأحمد قاسم وعطروش واسكندر ثابت والآنسي والحارثي والسنيدار وغيرهم، الصوت الذي زلزل الأرض تحت أقدام الطغـــاة.. الصوت الذي حرك المشاعر الوطنية، وقادها نحو الثــــــورة والتغيير، الصوت الذي كــــــان أقدر على تحريك الغضب الجماهيري‮ ‬وتوجيـــــهه‮.. ‬وهـذا‮ ‬هـــو‮ ‬الفن‮ ‬الثوري‮ ‬الجديد‮ ‬الذي‮ ‬استطاع‮ ‬أن‮ ‬يصرخ‮ ‬في‮ ‬وجه‮ ‬المستعمر‮ ‬ويقول‮:‬
برع‮ ‬يا‮ ‬استعمار‮ ‬من‮ ‬أرض‮ ‬الأحرار
برع‮ ‬ولى‮ ‬الليل‮ ‬يكويك‮ ‬التيار
تيار‮ ‬الحرية‮ ‬تيار‮ ‬القومية
برع‮ ‬برع‮ ‬برع‮ ‬يا‮ ‬استعمار
تياري‮ ‬الجبار‮ ‬خلَّى‮ ‬شعبي‮ ‬ثار
خلَّى‮ ‬ذا‮ ‬الجنوب‮ ‬يشعل‮ ‬كالجمرة
تياري‮ ‬الجبار‮ ‬هو‮ ‬نفس‮ ‬التيار
حطم‮ ‬الاستعمار‮ ‬في‮ ‬مصر‮ ‬الحرة
تياري‮ ‬بركان‮ ‬من‮ ‬أجل‮ ‬الإنسان
أشعل‮ ‬في‮ ‬ردفان‮ ‬نيران‮ ‬الثورة‮..‬
والفن لن يكون فناً إذا لم يصل إلى مشاعر الجماهير، والفن الجديد هو الفن الثوري ذو النظرة الثاقبة الكاملة، القائمة على إدراك الواقع وفهم حقيقة الصراع الاجتماعي، لأنه يدعو الناس إلى التحرر، وإلى إلغاء الفوارق الاجتماعية، والتي تمثل العدل والمساواة والحراك الاجتماعي الذي يقر بإنسانية الإنسان، ويدعو إلى إلغاء الفوارق بين البشر والفوارق بين المدينة والريف.. وبين الجهد الذهني والجهد العضلي، والفن هنا هو جزء من التنمية التي ترقى بقدرات الشعب، وتطوير إمكاناته المادية والبشرية والفكرية والثقافية، ولكي يحقق الفن قدراً من الانسجام والوئام ويحقق خلوداً حقيقياً (لابد وأن لايخطئ اللحظة التاريخية التي يعيشها المجتمع، ولايتجاوز الحدود الموضوعية لعادات وتقاليد المجتمع، لأن الفنان هو صدى وصوت لمرحلة تاريخية، وهو بالضرورة ينقل هذه المرحلة كماهي في الواقع، بسلبياتها وإيجابياتها،‮ ‬ولهذا‮ ‬يقسم‮ ‬بالتراب،‮ ‬والجبال‮ ‬والصحارى‮ ‬ويعد‮ ‬بالثورة‮ ‬من‮ ‬مخلفات‮ ‬الماضي‮) ‬فهو‮ ‬يقول‮:‬
‮(‬بسم‮ ‬هذا‮ ‬التراب
والفيافي‮ ‬الرحاب
والجبال‮ ‬الصعاب
سوف‮ ‬نثأر‮ ‬يا‮ ‬أخي
يا‮ ‬بني‮ ‬هذا‮ ‬الجنوب
اليوم‮ ‬هذا‮ ‬يومكم‮ ‬يوم‮ ‬الشعوب
بالدماء‮ ‬والنار
هيا‮ ‬يا‮ ‬أحرار
نلحق‮ ‬الركب‮ ‬الأبي‮)‬
إذاً‮ ‬الفن‮ ‬يحدد‮ ‬عصره،‮ ‬في‮ ‬أي‮ ‬زمان‮ ‬ومكان،‮ ‬وهو‮ ‬صوت‮ ‬المجتمع‮ ‬وثقافته،‮ ‬وأفكاره،‮ ‬ولهذا‮ ‬يظل‮ ‬جزءاً‮ ‬من‮ ‬تاريخ‮ ‬الشعوب‮ ‬الإنسانية،‮ ‬أي‮ ‬أن‮ ‬الفن‮ ‬الخالد‮ ‬هو‮ ‬الفن‮ ‬الذي‮ »‬يخلق‮ ‬روح‮ ‬الإنسانية‮ ‬في‮ ‬التاريخ‮«.‬
ومن هذا المنطلق وبدافع الخوف من تأثير الفن، عملت الإمامة والاستعمار على إضعاف دور الفن واحتقاره واضطهـــــاد الفئات والشرائح الاجتماعية التي تمارسه، بما فيها الرقصة الشعبية.. ومن هنا جاء دور الفن في الثورة، حيث أصبح أحد وسائل التعبير الجماهيري، وصوت الرفض،‮ ‬ولسان‮ ‬التغيير‮ ‬المعبرة‮ ‬عن‮ ‬السواد‮ ‬الأعظم‮ ‬من‮ ‬الشعب‮ ‬الذين‮ ‬تفاءلوا‮ ‬بالثورة‮ ‬واعتبروها‮ ‬طريقاً‮ ‬للنصر‮..‬
تمت طباعة الخبر في: الأربعاء, 13-نوفمبر-2024 الساعة: 10:37 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-1118.htm