احمد الحبيشي - في نهاية الحلقة الماضية تناولنا إدمان أحزاب ((المشترك)) على الهروب من خيار الحوار إلى خيار المكايدة والمجابهة والمتاجرة بالشعارات والإفراط في تشويه الحقائق ، وصولا الى اللجوء إلى الشارع، وهو خيار يعكسُ منطقاً سياسياً شمولياً ومتطرفاً، ويفقد هذه الأحزاب القدرة على استيعاب المتغيرات والمشاركة في صناعتها ، بعد أن تصبح عاجزة عن التخلص من قيود اللعبة العمياء لمشاريع الشوارع .
و لانبالغ حين نقول أن الخطاب السياسي والإعلامي لهذه الأحزاب يتحمل مسؤولية كبيرة ليس فقط عن المخاطر التي قد تنجم عن نهج المجابهة الذي يشكل المحتوى الرئيسي لهذا الخطاب المدمر، بل أنّه يتحمِّل أيضاً المسؤولية عن المأزق الحاد الذي وجدت هذه الأحزاب نفسها فيه، منذ فشل ((اللقاء المشترك)) في الانتخابات البرلمانية لعام 2003م، والانتخابات الرئاسية والمحلية لعام 2006م، حيث عجزت هذه الأحزاب عن استيعاب معايير الديمقراطية التعددية والتكيف والتعايش مع نتائج الانتخابات واستخلاص الدروس منها، وهو ما يفسر عدم قبول هذه الأحزاب بحق رئيس الجمهورية في تنفيذ برنامجه الانتخابي الذي حصد أغلبية أصوات الناخبين ، ونزوعها نحو الانقلاب على الديمقراطية من خلال تحريض الشارع ضد نظام الحكم ، وتشويه الحقائق وإحياء النزعات المناطقية ورفع الشعارات الانفصالية ، والمراهنة على إعادة إنتاج الأزمات السياسية كوسيلةٍ لتعطيل المؤسسات الدستورية المنتخبة.
في هذاالسياق تساعد القراءة الدقيقة لأبعاد المشهد السياسي الراهن على إدراك حقيقة أن أهم ما يميز الحراك السياسي لأحزاب (( اللقاء المشترك )) هو الافراط في المراهنة على خيار الثورة الشعبية السلمية بواسطة تشغيل مفاعيل البدائل المتخلفة والمشاريع الميتة في الشارع، والخلط بين الحرية والفوضى بواسطة الماكنة الإعلامية المعارضة ، وهو ما يتجلى في مراهناتها على إثارة تداعيات حرب صعدة وآثار حرب 1994 ومخاطر تنظيم القاعدة في اليمن على نحو يدفع بتدويل هذه القضايا الثلاث ، وفي مقدمتها أحداث صعدة التي دخلت مؤخرا مرحلة خطيرة وحرجة ، وهو ما يستدعي القراءة الموضوعية لهذه القضية وتحليل مواقف أحزاب اللقاء المشترك منها .
الثابت ان حرب صعدة ارتبطت بالتمرد المسلح الذي قامت به جماعة دينية سياسية قادها شخص لقي مصرعه بعد أن تبنى أفكارا راديكالية بلبوس اسلامي مذهبي ، الأمرالذي دفع عدداً كبيراً من علماء الدين في بلادنا إلى دحض أفكاره الضالة وبيان تعارضها مع صحيح الإسلام وفي مقدمتهم علماء المذهب الزيدي . ومما له دلالة خطيرة أنّ هذه الجماعة لم تكن محصورة على بعض أبناء مديرية حيدان في محافظة صعدة التي اتخذ منها زعيم هذه الجماعة المتطرفة منطلقاً لتمرده ، بل شملت أتباعاً لها تم تجميعهم وجلبهم من مختلف المدارس الدينية المذهبية في بعض المحافظات حيث تقوم هذه المدارس بتعليم طلابها دروساً و أفكاراً خارج النظام التعليمي الرسمي للدولة، وبما يتناقض مع قانون التعليم الذي تمّ بموجبه إلغاء منظومة المدارس والمعاهد والمراكز الدينية التي كانت تدرس أفكاراً ومفاهيم دينية وفق نسق فكري أُحادي مغلق قبل دمجها بالنظام التعليمي الرسمي، شأنها في ذلك شأن العديد من المدارس والمراكز التعليمية الدينية السلفية التي لا تزال حــرة طليقـة بعيدا عن سلطة قانون التعليم ، وخارج النظام التعليمي الرسمي، حيث تمارس هذه المدارس والمراكز التعليمية الدينية تحريضاً مذهبيا مسعورا ًً ضد كل من يخالفها في معتقداتها التكفيرية والاقصائية من جهة ، وضد بعضها البعض من جهة أخرى، وما يترتب على ذلك من إثارة النعرات الطائفية والمذهبية في المجتمع، وفتح الباب واسعاً لإغراق البلاد في بحر فتن أهلية غير محمودة العواقب ، وهو ما سنأتي اليه لاحقا عند تحليل بنية الخطاب السلفي العام ومقاربته بالخطاب الانفصالي لجهة تقاطعهما في نقطة مستركة تتمثل في السعي لإعادة عقارب الزمن الى الوراء .
ظلت هذه المدارس والمراكز التعليمية الدينية المذهبية رغم اختلاف مسمياتها قائمة خارج النظام التعليمي الرسمي على الرغم من تطبيق قانون التعليم، ولعبت بسبب وجودها غير القانوني دوراً خطيراً في صناعة بيئة ثقافية متشددة تتغذى منها هذه الجماعة الضالة وغيرها من الجماعات المتطرفة التي اتخذت من صعدة وبعض مساجدها ومدارسها المذهبية معقلاً للأفكار التي تدعو إلى القضاء على النظام الجمهوري وإحياء نظام الإمامة الشيعي أو نظام الخلافة السني، وصولاً إلى إعلان التمرد على الدولة والدعوة إلى إعادة النظام الإمامي الكهنوتي الذي انتهى وإلى غير رجعة بعد قيام ثورة 26 سبتمبر الخالدة .
وما من شكٍ في أنّ التأمل الموضوعي لحركة التمرد المسلح في صعدة الذي تقوم به منذ خمس سنوات ونيف جماعة متمردة وضالة ـــ بأبعادها الفكرية الطائفية وتداعياتها السياسية الدموية ـــ يقدم دليلاً إضافياً على أنّ التعصب الطائفي المذهبي أرهق ماضينا ولا يزال يرهق حاضرنا بأفكاره ومعتقداته المنقولة عبر الرُواة الأسلاف ، وصولاً إلى الإعتقاد بها كمطلقات مقدسة لا تقبل المغايرة والنقاش عبر قنوات التعليم الديني المذهبي غير الرسمية ، حيث لا فرق بين التعصب الطائفي الشيعي وبين التعصب الطائفي السني . مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الأفكار والمعتقدات التي يؤمن بها المتمردون في صعدة يجري تعليبها في لا وعي ضحاياها عبر قنوات التعليم الديني غير الرسمي.
لجأت جماعة المتمرد حسين الحوثي وأتباعه وورثة أفكاره في بادئ الأمر إلى نشر أفكارها الضالة عبر توزيع الملازم والكاسيتات ، والخطابة في المساجد وتشكيل المليشيات المسلحة ، وعدم الاعتراف بالدستور بحجة أنّه وضعي ويتعارض مع الشريعة الإسلامية التي تحصر الولاية العامة في حي واحدٍ من قريش ، بحسب أحد التأويلات المتعددة والمتناقضة للشريعة الإسلامية، الأمر الذي يؤكد خطورة المدارس الدينية السلفية على اختلاف مذاهبها الشيعية والسنية التي تنتشر كالفطر في معظم أنحاء الجمهورية اليمنية خارج النظام التعليمي الرسمي، حيث يدرس الطلاب في مدارس أخرى أفكاراً لا تقل خطورةً عن تلك التي تعلّمها وآمن بها أنصار الجماعة المتمردة في صعدة. فإذا كان المتمردون ـــ ومعظمهم من الشباب الضال ـــ قد درسوا فكرة حصر وتوريث الحكم في حي واحد من قريش، وهو الحي الهاشمي أو حي آل البيت أو سلالة البطنين في إطار آل البيت، فإنّ طلاباً آخرين يتعلمون في مدارس دينية أخرى داخل صعدة وفي غيرها من المحافظات أفكارا رجعية تدعو بشكل مموه إلى القضاء على النظام الجمهوري، والانقلاب على الديمقراطية التعددية وإعادة نظام الخلافة وحصر وتوريث الحكم في قريش فقط بجميع بطونها وأفخاذها وأحيائها، بدلاً من حصرها في الحي الهاشمي من قريش، وما يترتب على ذلك من إهدار للحقوق السياسية لبقية المسلمين ومصادرة حقوقهم كمواطنين متساويين أمام الدستور والقوانين في الحقوق والواجبات ، وتمهيد الطريق للانقلاب على الوحدة التي ارتبطت بالديمقراطية ولايمكن أن تبقى بدونها !!
وإمعاناً في التضليل والتعبئة الخاطئة حرصت الجماعة المتمردة في صعدة قبل تفجير تمردها الأول عام 2004م، على رفع شعارات معادية للولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، وتحريض المصلين في بعض مساجد صعدة وأمانة العاصمة ومحافظات أخرى لترديد هتافات معادية لهاتين الدولتين، وإنزال العلم الوطني للجمهورية اليمنية من بعض المؤسسات الحكومية والمنازل في محافظة صعدة بقوة السلاح عند بدء التمرد ورفع علم الثورة الاسلامية في ايران ، وعلم حزب الله الشيعي في لبنان، بدلاً من علم الجمهورية اليمنية، بالاضافة الى تسليح بعض الصبية من الشباب الذين ربطوا على رؤوسهم عصاباً من القمــاش الأخضر كتبوا عليه (( يا حسين.. الموت لأمريكا وإسرائيـل ومن والاهما ))، ثمّ توّجوا هذه الأعمال في جولتين لاحقتين من التمرد في عامي 2007 ـــ 2008م ، بتنفيذ هجمات على مراكز القوات المسلحة والأمن وتوجيه إنذار يستهدف طرد المواطنين اليهود وترحيلهم من منازلهم والمنطقة التي يعيشون فيها، الأمر الذي يقدّم خدمةً مجانية ومباشرة للمشروع الصهيوني العالمي الذي يسعى إلى تبرير وجود إسرائيل ونقل اليهود إليها بذريعة اضطهاد اليهود ومعاداة السامية.
من نافل القول أنّ الدولة تعاملت مع هذه القضية منذ بدايتها قبل خمس سنوات بروح وطنية من خلال عرض مبادرات سلمية لحل المشكلة وتشكيل العديد من لجان الوساطة التي فشلت في مهمتها بسبب تعنت هذه الجماعة ولجوئها إلى أساليب الدس و الخداع والمناورات التي تجيزها السياسة ويتضرر منها الدين عند خلطه بالسياسة.وكما هو معروف كانت لجان الوساطة قد تقدّمت بعروض ومقترحات بل التزامات من قبل الدولة لضمان أن تؤدي تلك الجماعة دورها السياسي وفق القواعد الدستورية والقانونية، والاستفادة من قرار العفو العام الذي أصدره الرئيس علي عبدالله صالح رئيس الجمهورية، بالاضافة الى ضمان حقوقها المدنية والدستورية التي يكفلها النهج الديمقراطي والتعددية السياسية وحرية الصحافة للتعبير عن نفسها من خلال صحف خاصة بها وتنظيم سياسي يمثلها أسوةً ببقية القوى السياسية الناشطة في الساحة الوطنية. وبوسعنا القول ان الموقف الوطني المسؤول للدولة ومؤسساتها العسكرية والأمنية من أحداث صعدة وتداعياتها، يجسد قلق القيادة السياسية والحكومة والنخب الوطنية الفاعلة في اليمن إزاء المشاريع التي تستهدف تحويل الدول العربية إلى كانتونات طائفية متناحرة، وصولاً إلى إخضاع المنطقة العربية للأطماع الخارجية التي تتربص بثرواتها ومواقعها الإستراتيجية.
وتأسيسا ً على ذلك يجب التعامل مع فتنة صعدة بوعيٍ وطنيٍ يأخذ بعين الاعتبار خطورة الخطاب السياسي الطائفي الموبوء بأمراض موروثة من الماضي ، وعدم الانجرار وراء مخططات إحياء الصراعات القديمة والدامية على تربة الصراعات الطائفية التي أصابت دولة الخلافة الإسلامية ودول ملوك الطوائف في أطرافها، بالعجز عن اللحاق بركب الثورة الصناعية الأولى والثانية في القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر الميلادي، ثم تسببت بعد ذلك في سقوط العالم العربي والإسلامي تحت نير السيطرة الاستعمارية الأوروبية ، وتفوُّق الحضارة الغربية في القرن التاسع عشر الميلادي ، وصولاً إلى تشرذم نظام الخلافة وانهياره على تخوم الثورة الصناعية الثالثة في القرن العشرين الميلادي، بعد هزيمة دولة الخلافة العثمانية في الحرب العالمية الأولى.
بهذا المعنى يتوجب على كافة القوى الحية في اليمن والعالم العربي والإسلامي التنبه لخطورة خطاب الفتنة المتبادل هذه الأيام في الساحة العربية بين مختلف أقطاب المشاريع الطائفية المتناحرة، حيث يتجسد هذا الخطاب بكل وضوح في محاولات استدعاء صراعات الماضي من بطون الكتب الفقهية القديمة التي خلقها لنا الفقهاء المتناحرون الأسلاف تحت مسمى (الروافض والنواصب) وغيرها من الألقاب التي تنابزوا بها في العصور الغابرة على نحوٍ ما نطالعه هذه الأيام في المآتم الاستعراضية ومهرجانات الندب والنواح، وصراخ الفضائيات والصحف المذهبية ومخرجات الجامعات والمدارس السلفية وإفرازات جماعات الإسلام السياسي الشيعية والسُّنَّية، وغيرها من الوسائل والمنابر والأدوات التي تستهدف شحن وتعبئة اللاوعي الطائفي بشقيه السني والشيعي، وتلحق الضرر البليغ بوحدة البلدان والمجتمعات العربية والإسلامية، حيث من شأن التعاطي مع الخطاب الطائفي التناحري تحويل العالم الإسلامي الى ساحة مفتوحة ودامية للحروب الطائفية والفتن المذهبية والأطماع والتدخلات الخارجية لبعض القوى التي تحاول إدارة أزمات حقبة ما بعد الحرب الباردة، بما يمكنها من تمرير مخططات التفتيت والتمزيق والإضعاف، كمدخل لفرض سياسات الهيمنة والاحتواء والإخضاع.
وكانت أعمال العنف التي تنفذها جماعة ما يسمى "الشباب المؤمن" ضد سلطة الدولة والقوات المسلحة قد تجددت خلال عامي 2007 ـــ 2008 م، امتداداً لفتنة أشعلها المتمرد حسين بدر الدين الحوثي وأنصاره الذين جاهروا منذ انطلاق شرارة هذه الفتنة في صيف عام 2004م بأفكار ضالة تمثل تمرداً على الدستور، وتعدياً على نظامنا السياسي الديمقراطي الذي يقوم – منذ إعلان الجمهورية اليمنية في الثاني والعشرين من مايو 1990 ـــ على قواعد التعددية والاختيار الحر للسلطة عبر انتخابات رئاسية وتشريعية ومحلية حرة ومباشرة، يتساوى فيها المواطنون والأحزاب والتنظيمات السياسية في الترشح لشغل الوظائف القيادية في الدولة ومؤسساتها الدستورية، وانتخاب من يراهم المواطنون أكثر كفاءة وأهلية لإدارة شؤون الدولة والمجتمع بعيداً عن أي شكلٍ من أشكال التمييز أو التسلط الطائفي أو الفئوي أو السلالي.
ولما كانت الديمقراطية تشكل المحتوى الرئيسي لحياتنا السياسية الجديدة فقد أصبحت حرية التعبير السلمي عن الرأي والفكر في إطار الثوابت الدستورية والوطنية سبيل كل المواطنين للمشاركة الحرة في الحياة السياسية. بيد أنّ الديمقراطية تتعارض مع محاولة استخدام حرية التعبير بهدف الدعوة إلى أفكار ومشاريع سياسية تهدد أسس النظام الديمقراطي التعددي، وتبرر استخدام العنف المسلح من أجل تجسيد هذه الأفكار في الأرض، الأمر الذي يضع حملة هذه الأفكار وأفعالهم المتطرفة في سياق الإرهاب فكراً وممارسة.
اللافت للنظر أن أحداث فتنة صعدة أحيطت بتناولات سياسية وإعلامية مغرضة داخلياً وخارجيا ًعلى نحوٍ لا يخلو من التضليل والانتهازية السياسية والمراهنات الخاسرة للأزمات والمواجهات التي شهدتها بلادنا في سنوات سابقة بين أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية من جهة، وبين بعض الجماعات المتطرفة التي ارتكبت جرائم إرهابية طالت بواخر أجنبية ومنشآت حكومية وسفارات أجنبية، وألحقت بأعمالها الإجرامية أضراراً خطيرة باقتصاد بلادنا ومكانة موانئنا وسمعة مواطنينا في الخارج.
والحال أن جانباً من الخطاب الإعلامي المعارض يحرص على تناول أحداث صعدة منذ اندلاعها في عام 2004م وتجددها بعد ذلك وحتى الآن ، بشكل لا يخلو من الالتباس والتدليس من خلال اعتبارها قضية رأي تارةً وقضية اضطهاد طائفي أو خلاف سياسي تارة أخرى . وقد سعت أحزاب المعارضة الى الاستفادة من فتنة صعدة من خلال التعامل مع فتنة الحوثي بصعدة عندما توّهمت بأنّ الأحداث المسلحة الناجمة عن هذه الفتنة يمكن أن توفر لها فرصة ذهبية لتصفية حساباتها مع الحزب الحاكم، وإظهار القضية وكأنّها صراع بين حكومة المؤتمر الشعبي العام من جهة، وجماعة مدنية تمتلك الحق في التعبير عن آرائها وأفكارها . كما حرصت أحزاب ( اللقاء الشمترك ) تفسير الوساطة القطرية لحقن الدماء وانهاء التمرد سلما ، على انها مؤشرلإمكانية تدويل تداعيات حرب صعدة في حال فشل المبادرة القطرية .
وبهذا الصدد تقتضي الموضوعية ملاحظة إصرار هذا الخطاب الملتبس على تجاهل الأهداف والمنطلقات والأبعاد الخطيرة لجرائم الإرهاب وأعمال العنف التي تستهدف تقويض أسس النظام السياسي القائم على الديمقراطية التعددية وحرية التعبير وحق تداول السلطة سلمياً عبر صناديق الاقتراع، فقد حرص هذا الخطاب على تشويه تلك المواجهات التي كانت ومازالت أجهزة الأمن تقوم من خلالها بواجبها الوطني الدستوري إزاء تلك الأخطار التي تهدد أسس النظام السياسي والسلم الأهلي والمصالح العليا للبلاد، حيث تمحور ذلك التشويه في محاولات إظهار تلك الجماعات الإرهابية في صورة الضحية التي تتعرض للقمع والملاحقة وانتهاك حقوق الإنسان وحرية التعبير على نحوٍ ما فعلته ومازالت تفعله بأشكال متفاوتة بعض أحزاب اللقاء المشترك وصحافتها وكتابها.
ولا نبالغ حين نقول إنّ تناقضات الخطاب الإعلامي المُعارض لأحزاب اللقاء المشترك منذ اندلاع فتنة صعدة عام 2004م حتى الآن، كشفت الإفلاس القيمي لذلك الخطاب وسقوطه في مستنقع الانتهازية السياسية، وإدمانه على البحث عن فرص ضائعة لتصفية حسابات سياسية وحزبية مع السلطة وحزبها الحاكم، وتسويق ذرائع واهية لتبرير الإرهاب وتبرئة مرتكبيه والتقليل من مخاطره على مستقبل الديمقراطية وحياتنا الجديدة بشكل خاص، ومصالح الوطن والمجتمع والشعب بشكل عام.
لا ريب في أنّ المنطلقات الفكرية لجرائم الإرهاب والجماعات المتطرفة التي ارتكبتها وواجهتها أجهزة الأمن والمؤسسات الإعلامية والثقافية والتربوية في بلادنا كانت غائبة تماماً عن الخطاب الإعلامي المعارض الذي أسرف خلال السنوات السابقة في إخراج المواجهة مع الإرهاب من سياقها الموضوعي إلى سياق آخر يتسم بالكيدية تحت غطاء الدفاع عن حقوق الإنسان، فيما كان هذا الخطاب يتجاهل تماماً أنّ هذه الحقوق موجودة في البنى الدستورية والسياسية والإعلامية والثقافية لنظامنا الديمقراطي التعددي، مقابل غيابها المطلق عن منظومة الأفكار المتطرفة والمتشددة التي تغذي الإرهاب وتوجه نشاط الجماعات المتطرفة، بشقيها السني والشيعي، بدعاوى دينية زائفة وملفقة، ناهيك عن أنّ الفكر السياسي الأحادي للجماعات الإرهابية التي واجهتها الدولة في أوقات سابقة في صعدة وأبين ومأرب ومناطق أخرى من اليمن ـــ ومازالت تواجه ذيولها وتوابعها حالياً في صعدة ــــ لايعترف بالديمقراطية وبحقوق الإنسان، ويسعى إلى بناء دولة دينية استبدادية شمولية على غرار نموذج نظام ولاية الفقيه ونموذج نظام طالبان، وكلاهما وجهان مذهبيان للدولة الدينية التي تجاهد حركات الإسلام السياسي السنية والشيعية من أجل بنائها . وهي دولة لا مكان فيها للتعددية السياسية والفكرية وانتخاب الحكام والهيئات التمثيلية المنتخبة عبر صناديق الاقتراع ، ولا تعترف بضمان حقوق الإنسان، وحقوق المرأة ، و لا مجال فيها للمساواة بين المواطنين ومعتقداتهم ومذاهبهم الدينية المتنوعة.
تأسيساً على ذلك يصبح من حق بل ومن واجب الدولة إنهاء هذا التمرد بالوسائل القانونية والدستورية وبضمنها استخدام القوة ، باعتبار ما يجري في صعدة عملاً خارجاً عن الدستور والقانون، الأمر الذي يستوجب التحذير من أية مراهنة على استخدام المشاريع الطائفية لمواجهة التمرد الحاصل في صنعاء حتى وإن ارتدى ثوباً طائفياً .. فالطائفية لا تصلح لمواجهة الطائفية، والخطاب السلفي الطائفي المضاد ، ليس مؤهلاً لمواجهة الأبعاد الطائفية لفتنة صعدة على نحوٍ ما نقرأه في بعض الصحف وبعض التصريحات التي تصدر عن شخصيات حزبية وسياسية ودينية غارقة في سلفيتها المنغلقة ، حيث نلاحظ الإفراط في تحقير المذهب الجعفري الإثني عشري ، وسب أتباع الحسين بن علي من « الروافض» الذين رفضوا مبايعة الخليفة الأموي يزيد بن معاوية ، على غرار ما كان يفعله الفقهاء والقضاة الأمويون في أزمنة الفتنة الطائفية قبل الخليفة عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه . لأنّ ذلك يسهم في استفزاز وإثارة عشرات الملايين من أتباع المذهب الجعفري الإثني عشرية في العالم العربي وهم شريحة كبيرة في الخليج ولبنان وسوريا والعراق وفلسطين والاردن والمغرب ، وسوف يؤدي الى إخراجهم ـــ كمواطنين عرب ـــ من النسيج الوطني للمجتمع العربي ، وصولا ً الى دفعهم للبحث عن ملاذ خارجي وولاء إقليمي على حساب هويتهم الوطنية وولائهم الوطني. مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار أنّ إثارة وإحياء النعرات والثقافة الطائفية يندرج ضمن مخططات ومشاريع التفتيت والتقسيم الجاري تنفيذها في الشرق الأوسط باتجاه إحياء دول ملوك الطوائف .
ويبقى القول أنّ الإفراط في مواجهة المشاريع الطائفية الحديثة بخطاب طائفي سلفي قديم ، ينذر بمخاطر دفع أتباع المذاهب الشيعية ـــ الذين يشكلون شريحة كبيرة في المجتمع العربي وأغلبية في بعض البلدان ا لعربية الصغيرة ـــ إلى البحث عن هوية وملاذ خارجي على حساب انتمائهم الوطني ، الأمر الذي من شأنه إضعاف وحدة المجتمع العربي وتهديد سيادته الوطنية وأمنه واستقراره وضرب قواعد العيش المشترك بين الطوائف المختلفة على قاعدة المساواة في حقوق وواجبات المواطنة التي لا يعترف بها السلفيون المتشددون .
|