أ.د. طارق أحمد المنصوب -
< الأمر أبعد من رفع شعار أجوف هنا أو هناك، أو طرح مبادرة أو رؤية أو مشروع «إنقاذ وطني» ركيك الصياغة وغير قابل للتطبيق واقعياً، وهو لا يحتاج الى لجنة تحضيرية، ولا الى تشاور وطني يضم جميع نخب وفعاليات الوطن، وقواه الحية، ولا الى تحميل طرف مسؤولية ما يحدث من فساد وأزمات تنموية وسياسية واجتماعية في بلادنا؛ إذ أننا جميعاً مسؤلون ولو بنسب متفاوتة عن كثير منها، فكل واحد منا مهما صغرت مرتبته أو قلَّ شأنه راعٍ ومسؤول عن رعيته.
نعم، الأمر أبعد من هذا بكثير، فالحق بيّن والباطل بيّن، وبينهما كثير من الأمور والقضايا التي ينسى المتخاصمون في القضاء السياسي انها سبب كل البلاء ورأس كل المصائب، ومكمن كثير من السخط الشعبي المتصاعد في مجتمعنا اليمني.. ويبدو أن أحداً لا يرغب في وضع اليد على موضع الألم، ربما هروباً من المسؤولية، وربما جهلاً بالواقع أو تجاهلاً لما يدور فيه، وأتذكر قولاً لأحد رجال السلطة المحلية في بلادنا على هامش لقاء جمعني مع آخرين في منزله، تمنيت لو أنه صار واقعاً ملموساً، حيث قال: «.. إن كل مسؤول يجب أن يتدرج في مراتب السلطة، وأن يتنقل في سلم المسؤولية من الأدنى الى الأعلى، حتى يعرف حجم مسؤولياته، ويستشعر مشاكل الناس وآلامهم، ويدرك مطالبهم وأمانيهم» انتهى الاقتباس.
لست في معرض التعليق على الكلام السابق، ولا أعتقد أن المسؤولين في مجتمعنا بعيدون عما يعتمل في مجتمعنا من أحداث، ولا أظنهم غريبين عن البيئة المحلية ومشاكلها وخصوصياتها، لكنني أعتقد أن الأمر له علاقة بمدى معرفة كل مسؤول في مؤسسة من مؤسساتنا لمشاكل الآخرين بشكل مباشر، من منطلق الإحساس بواجبه الوظيفي والأخلاقي والديني والوطني، بل والإنساني نحوهم، لأنه مسؤول مسؤولية مباشرة عن حل مشاكلهم بوصفه راعياً مسؤولاً عن رعيته.
ولذا فإنني أحسب مسؤولينا في حاجة الى قراءة ما يرد الى صندوق الشكاوى - إن كانت موجودة - في كل وزارة وإدارة ومكتب، والاطلاع بصفة شخصية، على كل ما يرد في تلك الشكاوى، وعدم إيكال المهمة الى مديري المكاتب أو المختصين، وتكليف من يتولى التحقيق في صحة ما ورد فيها، ومتابعتها بصورة شخصية وعدم الإبطاء أو التأخير في حلها، حتى لا يكون ذلك مدعاة لفساد أو ابتزاز أو تأخير لرفع مظلمة، أو التلاعب بقضايا الناس، لأن هذا من شأنه رفع الظلم وتعزيز ثقة المواطن بالقانون وإزالة كل شعور سلبي قد يستغل للإضرار بوطننا ودولتنا.
ودعونا نتساءل، كم ساعة - ولو أسبوعياً - يخصصها مسؤولونا لمقابلة المواطنين والاطلاع على شكاواهم دون الحاجة الى وسيط أو وجاهة اجتماعية؟ وكم واحداً منهم يملك سجلاً خاصاً للبريد اليومي لتنظيمه، والرد على شكاوى المواطنين؟ وكم واحداً منهم لديه سجل لمتابعة القضايا والمشاكل التي تُعرض عليه؟ وهل يعلم مصير المراسلات والأوامر والقرارات التي يصدرها لحل تلك المشاكل؟ هل يعلم كثير منهم أوضاع الإدارات والفروع في المحافظات؟ أتمنى لو يقوم كل وزير منهم بزيارات مفاجئة الى المحافظات والمديريات، للاطلاع على قضايا الناس وسماع شكاواهم بدلاً من الاعتماد على التقارير التي تُرفع بصورة دورية، والتي تظهر الامور على عكس حقيقتها.
حوادث المرور.. حرب أخرى علينا خوضها
الحوادث المرورية أو حرب الطرقات - كما يحلو لبعض الكُتَّاب تسميتها - تقتل سنوياً أكثر من 60 ألفاً من أبناء شعبنا، بحسب بعض الإحصاءات الرسمية وهذه الأعداد أكبر بكثير من قتلى الحروب العسكرية، والصراعات القبلية، وجرائم الثأر، وحوادث العنف التي شهدها مجتمعنا مجتمعة، ومع ذلك لم نسمع بمبادرة وطنية أو مؤتمر تشاوري لمناقشة آثارها، والتوعية بمخاطرها، وتوضيح سبل الحد منها، وإيقاف نزيف الدم على طرقاتنا، وتحديد المسؤوليات تجاهها، طبعاً باستثناء الاحتفاء المناسباتي السنوي بأسبوع المرور، وتنظيم بعض الندوات المعدة على عجل هنا أو هناك.. ليعود الوضع الى ما كان عليه قبل انعقاد تلك الندوات، ولم يجرؤ أحد على الاقتراب من هذه الظاهرة لتحديد سبيل لوقف نزيف الدماء على الطرقات، ولست أدَّعي هنا شرف الإحاطة بكل الاسباب، ولا بعضها، وجزء منها محدد في التقارير الرسمية لإدارات المرور، التي تعد بطريقة مستعجلة، ترصد السبب الظاهري للحوادث، دون أن تكلف نفسها البحث في الأسباب الحقيقية لحدوثها، مثل: حالة المركبات الميكانيكية، والسرعة الزائدة، والأحمال المسموح بها داخل المدن، وحالة السائق الذهنية أو انشغاله بأمور أخرى أثناء القيادة، وظروف حدوث الواقعة المرورية ومكان وزاوية حدوثها، وعلاقتها بحالة الطرق والحفريات التي تمتلئ بها، والتعامل مع جميع الحوادث بعقليات نمطية تقليدية بعيدة عن فهم قوانين المرور وقواعده المنظمة لحق الأسبقية، وحقوق المرور الآمن، والاعتماد على الاستنتاجات الشخصية التي تعوزها الدقة والمهنية وربما الأمانة أيضاً.
أكاد أجزم - من واقع تجربة شخصية مررت بها الاسبوع قبل الماضي- أن بعض الممارسات الفردية والأعراف المطبقة في بلادنا تعد سبباً رئيسياً من أسباب كثرة حوادث المرور وعدم نجاح الجهود الوطنية لتقليصها، وأضعها أمامكم براءة للذمة، ودفعاً للظلم الذي يتعرض له كثيرون جراءعدم الدقة في تقدير الوقائع، وغياب الإحساس بالمسؤولية عن حياة المواطنين، أو التسرع في إعداد التقارير من ضابط مناوب في قسم الحوادث يخشى فوات «الفرصة» عليه؟
وأتساءل مع كثيرين غيري من مستخدمي شبكة الطرق الوطنية، كيف يعقل أن يُسمح لسائقي المركبات التي تحمل أوزاناً زائدة أن يسافروا عبر الطرق السريعة، أو يتنقلوا بين مدن ومديريات الجمهورية، وهم لا يمتلكون أو يحملون معهم رخصة سواقة، ولا التأمين على المركبات، أو أوراق ملكية للمركبة التي يقودونها؟ وهل يُعقل أن يتنقلوا بمركبات الموت عبر عشرات النقاط المرورية، ويتجاوزوا عشرات الافراد من رجال المرور دون أن يوقفهم أحد بتهمة مخالفة قوانين المرور، والقيادة المتهورة وتعريض حياة الآخرين للخطر؟ والى متى سنبقى ضحايا لسائقين متهورين لم يجدوا من يردعهم لإيقاف مسلسل الموت اليومي على طرقاتنا؟ وهل يصدق عقل أن يتم الاحتكام الى قسمة ضيزى صارت عرفاً لا يقدر أحد على الفكاك منه (تقسيم الخسائر ثلثين بثلث)؟ أو اللجوء الى التحكيم والصلح القبلي - تجنباً للتطويل في حال اللجوء الى المحاكم - طالما أنه لم ينجم عن الحادثة ضحايا في الأرواح (وعلى قاعدة.. سلامات، أو المهم سلامة الأرواح)، وأن يتساوى الضحية والجلاد بغض النظر عن المخطئ.. وغيرها من الممارسات التي نجزم أنها تشجع على تكرار الجرائم المرورية بدلاً من أن تمنعها، ولذا لا عجب أن تتزايد حوادث المرور، طالما أن المقصر، والجاني لا ينال العقاب الذي يستحقه.
وأضعف الإيمان أن ُيمنع السائق المتهور من قيادة السيارة لمدة زمنية طويلة، يراعى فيها حالات التكرار أو العودة، أو تُسحب منه رخصة السواقة بصورة نهائية، أو يوضع في الحبس لمدة زمنية تتناسب مع الجريمة التي اقترفها أسوة بدول المعمورة، وأن يُشْرَع في منع قيادة السيارات على الأطفال والمراهقين، وعلى كل من لا يحمل رخصة القيادة داخل وخارج اليمن وبما يخفف الضغط على شوارعنا وطرقاتنا، وفرض غرامات مالية كبيرة على المخالفين تُدفع الى خزينة الدولة يستفاد منها في مشاريع إصلاح الطرقات دورياً.. فهل يجد هذا النداء من يستجيب له من جهات الاختصاص، ورجال القانون، والقضاء، ومجلس النواب لفتح ملف حوادث المرور في بلادنا؟