الميثاق نت / عن سبأ - تتعدد الأسباب التي بات المرء على أثرها في معظم إنحاء العالم وليس اليمن فحسب يلجا مضطرا للنزوح بعيدا عن دياره ومسكنه، لكن وبين الفرار تحت وطأة احتدام الحروب، وبين الهرب من تأثيرات الكوارث الطبيعية، تبقى الحقيقة التي لا يمكن لأحد إنكارها، هي أن حياة الأسر النازحة وسط الخيام لا يمكن أن تعوضها عن المنزل مهما بلغ حجم ما يمكن أن تحاط به من خدمات ورعاية واهتمام.
ذ
لك ما يؤكده واقع الحال، ويردده لسان حال الكثيرين في مخيم المزرق القريب من منطقة الملاحيظ محافظة صعدة (30 كيلو متر) شرقي حرض، حيث زارته وكالة الأنباء اليمنية (سبأ)، والتقت بالقائمين عليه وناقشت معهم أوضاع النازحين جراء حرب فتنة الأجرام والتمرد التي أشعل فتيلها عناصر التخريب والإرهاب الحوثيون.
فرغم أن الحكومة والسلطة المحلية بمحافظة حجة ومدينة حرض ومنظمة المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، بادرت باتخاذ الإجراءات اللازمة لاستقبال وإيواء النازحين وعملت على تقديم المساعدات الغذائية والطبية للنازحين، إلا أن الإقرار بغياب وجود الإدارة ذات الخبرات المتخصصة واعتبار الإدارة الحالية لنفسها مجرد "إدارة مؤقتة"، واتهامها المنظمات الدولية المشاركة في عملية الإشراف على المخيم بعدم الوفاء بالتزاماتها ووعودها التي التزمت بها تجاه النازحين جعل من قضية النازحين مثار جدل واهتمام واسع في الآونة الأخيرة.
علاوة على ذلك فأن تزايد أعداد النازحين بمعدل يومي ثابت يتراوح ما بين (25-30 أسرة)، بقدر ما ألقى بظلاله باتجاه الضغط على قدرات المخيم مقارنة مع تواضع الإمكانيات والقدرات وحجم المساعدات التي يتم تلقيها، بقدر ما أفضى إلى خلق حالة من التذمر في أوساط النازحين ممن شكوا من القصور في الكثير من الخدمات المقدمة.
وبين من سلط الضوء من النازحين على ما يعانيه الغالبية نتيجة غياب الكهرباء، وبين من ركز على مشكلة نقص المياه وعدم توفر الحمامات، وغياب العدالة في توزيع الفرش والبطانيات والأغذية، بدا وكأن المعاناة من كل ذلك بالنسبة للنازحين ممن تحدثوا لنا في سياق هذا التحقيق لا تعادل في وقعها على النفس ما حملته رحلات المجيء إلى المخيم من مشقة وعناء ومعاناة بلغت حد وصفها من قبل البعض "برحلات الموت".
يقول الوالد علي أحمد قاسم (نازح من مديرية الظاهر) الذي لا يعلم أي مصير آل إليه منزله ويمثل نموذجا يلخص معاناة الكثير من النازحين: بدأت الخروج من المنزل مع أسرتي ليلا سيرا على الإقدام.. لم نأخذ معنا من أحفادنا سوى الاثنين (رجاء وعلي) بالملابس التي عليهم.. أغلقنا باب المنزل ومضينا ليلا وخوفا من أن يكتشف عناصر الحوثيين خروجنا فنحن لا نبحث سوى عن لقمة العيش.
ويشير الوالد علي (الذي يشكو ضعف نظره)إلى أن رحلته للمخيم مع زوجته وأحفاده الاثنين استمرت أكثر من ثلاثة أيام بلياليها ويقول:" بقينا ثلاثة أيام بدون أكل ولا شرب وكل زادنا هو الخوف والقلق من حصول أي حادث لنا".
وكان تملك شعور الخوف لدى حفيدي الوالد علي هو ما يحز في نفسه، يتابع:" أمام أسئلتهم عن سبب هروبنا وتركنا لمنزلنا وهل سنعيش أم لا لم أكن اعرف بما أرد عليهم، وكان كل ما يدور في رأسي أن أصل بهم آمنا إلى أي مكان مع أن ذلك كان أمر شبه مستحيل بالنسبة لنا أمام ما واجهناه وما رأيناه من مخاطر".
وبعد أن أنهكهم التعب واشتد بهم الجوع والعطش، يقول الوالد علي:" وجدنا وحدة من الوحدات العسكرية، وكأن الأمر بمثابة الحلم عندما أخذتنا فوق طقم إلى هذا المكان، حيث قدموا لنا الأكل والشراب والخيمة والفراش.. الحمد لله نحن هنا مرتاحين ولسنا قلقين سوى على منزلنا هل ما يزال قائم أم لا؟" .
ومثلما شكا الوالد علي من غياب الكهرباء، فأن الشاب عبد الكريم أحمد علي (نازح من منطقة الملاحيظ) والكثير من نازحي منطقة الملاحيظ والظاهر بمحافظة صعدة لخصوا معاناة الكثير من النازحين بالمخيم في نقص المياه وخدمات الغذاء والخدمات الطبية.
وبينما كانت الوالدة نورية عبد الرزاق مهدي (من نازحي مدينة صعدة) تتفقد خيمتها بعد نزول الأمطار من خلال العمل على حفر مخرج لمياه الإمطار بحيث لا تتسرب إلى خيمتها، أشارت إلى أن عدم وجود الحمامات الكافية يجعل من عملية بقاء النساء بوجه خاص داخل المخيم صعب نوعا ما، كما تشير إلى مشكلة عدم وجود الملابس والثياب الكافية لدى الكثير من النازحين ممن فروا من منازلهم ولم يأخذوا معهم سوى رؤوسهم.
ورغم معاناة النازحين من النقص في الكثير من الخدمات والمؤن، إلا أن مشكلة تغيرات الطقس والمناخ، ومراوحتها بين تساقط الإمطار الموسمية بشكل كثيف ومصحوب بالرياح والأعاصير الشديدة أحيانا، فضلا عن اشتداد موجة الحر، تبرز كواحدة من أهم التحديات التي يواجهها النازحون في الخيام، وقد صادف خلال زيارتنا للمخيم أن اقتلعت الأمطار الشديدة المصحوبة بالرياح أكثر من خيمة داخل المخيم، فيما غمرت المياه البعض الآخر.
وفي معرض رده على الانتقادات التي تتهم الجهات الحكومية بالتقصير وسوء الإدارة، وبتردي الأوضاع الإنسانية للنازحين بالمخيم يقول الدكتور ايمن أحمد مذكور مدير المخيم مدير مستشفى حرض: بصراحة حياة المخيم لا يمكن أن تعوض النازحين عن حياة المنزل، ونحن وجدنا أنفسنا أمام وضع أنساني طارئ، ولسنا متخصصين بهذا الجانب، لكننا نبذل قصار جهدنا من آجل تقديم كافة جهود الإيواء والإغاثة والدعم للنازحين وكل ما من شأنه المساهمة في التخفيف من معاناتهم.
ويضيف: ليس لدينا الخبرات الكافية التي من شأنها أن تعمل بشكل منظم، كما أننا مجرد إدارة مؤقتة لوضع طارئ، ونعمل ما بوسعنا إلى حين تسليم المخيم لإدارة متخصصة في غضون الفترة القادمة".
لكن تسليم المخيم لإدارة متخصصة - حسب مذكور- لن يخفف من معاناة النازحين بالمخيم، ويشير إلى حقيقة أن حياة المخيم لا يمكن أن تغني النازح عن حياة المنزل، وحيث الحقل والمزرعة والأشياء الخاصة به،"فمعروف أن الخصوصية داخل المخيم تذوب في ظل تجاور الخيام وتقاربها، الكهرباء أيضا غير متوفر حتى الآن، وحتى وأن توفرت سيفتقدها النازحين في الشوارع والممرات بين الخيام".
ومثل هذه المشكلات التي تتعلق بالتكيف مع حياة الخيام ليس للإدارة علاقة بها، يقول مذكور.. لكن هناك صعوبة في انتقال ووصول المساعدات يتم العمل على معالجتها، وأن كان الوضع بالمخيم أفضل من البقاء في الأماكن التي نزحوا منها".
ومن واقع المشاهدة فأن الكثير من الجهات المشرفة على المخيم حكومية ومنظمات دولية على حد سواء تتبادل الأدوار والمسئوليات فيما بينها تجاه النازحين، وبينما تتكفل المفوضية السامية لشئون اللاجئين توفير الخيام، قامت منظمة "اليونيسيف" بتوفير المياه وعشرين حمام، في حين عملت منظمة رعاية الطفولة على تبني عملية توزيع بعض الهدايا والملابس على أبناء النازحين، لتبقى مسألة توفير الغذاء واستكمال النقص في جهود الإيواء من توفير للفرش والخيام، من مسئوليات الجانب الحكومي، غير أن عدم تواجد ممثلي المنظمات الدولية في ارض المخيم واتخاذهم من فندق الفخامة بحرض مقرا لهم وإدارة أعمالهم حال دون الالتقاء بهم وإيراد آراءهم في سياق هذا التحقيق.
يقول مذكور:" عملية توفير الغذاء للأسر النازحة وسد النقص في عملية الإيواء كتوفير البطانيات والفرش والخيام للكثير من الأسر النازحة تمثل في تصوري العبء الأكبر الذي تحملته الحكومة منذ اللحظات الأولى من عملية النزوح، وذلك سواء عبر ما يصلنا من المؤسسة الاقتصادية، أو عبر جهود الدعم الشعبي.
وإلى قبل فترة وجيزة كانت الأغذية المقدمة للنازحين تشمل تقديم الأغذية الجاهزة (وجبات أكل جاهزة). لكن الآن يتم تقديم دقيق وفول وسكر وزيت لكل أسرة بينما يعمل النازحون على طهي الأكل بطريقة بدائية باستخدام الحطب، وهي الطريقة التي يعتبرها المشرفون على المخيم اضمن من غيرها لتجنب أي حرائق قد تحدث بسبب استخدام وسائل أخرى.
وتشمل الخدمات المقدمة الخدمات الصحية سواء عبر ما يقدم داخل الخيام من قبل الفرق الصحية المتواجدة في نفس المخيم والتي تعمل على تقديم الخدمات الصحية والعلاجية والجراحية والاسعافية المتنوعة للنازحين بصورة مباشرة، في حين يتم تحويل الحالات الحرجة إلى مستشفى حرض الذي يقوم باستقبالهم بشكل يومي".
ولا تتوقف المشكلات التي يواجهها القائمون على المخيم عند حدود غياب خدمات الكهرباء ونقص خدمات المياه، بل تتجاوز ذلك وفق المدير مذكور لتصل إلى نقص الحمامات وعدم وجود مقر لطاقم الإدارة التي تعمل في خيمة.
كما أن عدم توفر مساحة الأرض الكافية لمخيم النازحين الحالي، وعدم القدرة على التوسع فيها، قد جعل من أمكانية استقبال أعداد أخرى من النازحين محدودة جدا ولا تتجاوز رغم استمرار النزوح يوميا بمعدل ثابت(25-30 حالة) باليوم من استيعاب أكثر من سوى 500 حالة كحد أقصى. وفق مذكور.
ويقبع بمخيم المزرق الرئيسي 5283 نازح ونازحة، تشمل 900 أسرة غالبيتهم من النساء والأطفال بنسبة60? نساء و20? أطفال، لكن هذا الرقم وأن كان يمثل عدد الأسر النازحة بالمخيم نفسه، فأنه لا يشمل عدد النازحين إلى نفس المنطقة حيث يلاحظ من واقع المشاهدة وجود تجمعات سكانية صغيرة متناثرة هنا وهناك خارج حدود المخيم وعلى جانبي الطريق المؤدية إليه والضواحي والشعاب المحيطة والمجاورة به، قبل أن يتبين أن تلك التجمعات تضم عشرات الأسر النازحة.
ويقدر مدير المخيم الدكتور أيمن أحمد مذكور عدد ما تضمه هذه التجمعات من نازحين بنحو 9300 نازح ونازحة موزعين على 1400أسرة ".
بيد أن عدم سكن هذه الأسر ضمن المخيم الرئيسي، يعود "إلى رفض الأسر نفسها الانضمام للمخيم لاعتبارات عدة خاصة بالأسر نفسها، سواء كانت في عدم رغبتها البقاء في أماكن مزدحمة أو اعتبارات اجتماعية خصوصا في ظل ما تمتلكه مثل هذه الأسر من قطعان مواشي من الأغنام والأبقار والحمير وكذا ما تتمتع به بعضها من وجاهه اجتماعية". وفق مذكور.
ورغم شكوى المعنيين بالمخيم من حجم الضغط على قدرات المخيم وما يقدمه من مساعدات للنازحين، إلا أن عدم ضم تلك الأسر خارج المخيم، لا يعنى أنها لا تستفيد مما يقدمه المخيم من خدمات للنازحين سواء غذائية أو طبية حسب مذكور الذي رأى أن الحياة بالمخيم تمثل وضعا مؤقتا إلى حين انتهاء الحرب وعودة النازحين إلى منازلهم وقراءهم.
مذكور الذي أشار إلى أن الإدارة تعمل حاليا على دراسة إنشاء مخيم آخر في الجهة المقابلة للمخيم الحالي في محاولة لاستيعاب اكبر عدد من النازحين الوافدين للمخيم، أبدى في الوقت نفسه استغرابه من أسلوب تعاطي المنظمات الدولية المشاركة في جهود الإيواء مع أوضاع النازحين.
يقول مذكور: أستغرب من تعاطي المنظمات الدولية مع قضية النازحين، فبدلا من أن تمد يد العون والمساعدة جعلت من النازحين شماعة لأهداف أخرى لا نعلمها.. بدلا من أن يقدموا ويمدوا يد العون ويساعدونا في معالجة الأوضاع والتخفيف من معاناة النازحين من واقع خبراتهم وتخصصهم في هذا المجال وبحكم ما يمليه عليه واجبهم.. راح بعضهم للضجيج عبر القنوات الفضائية وكأن الهدف ليس أكثر من التسابق في تسجيل الحضور".
مثل هذا الموقف لبعض ممثلي المنظمات الدولية، بقدر ما يبعث على الأسف في نظر مذكور، بقدر ما جعلنا نتمنى لو أننا لم نوافق على إشراك هذه المنظمات في جهود الإيواء والإغاثة إلى جانب الجهات الحكومية.. ويشير هنا إلى أن الجهات الحكومية التي تحملت العبء الأكبر في جهود الإيواء وتقديم المساعدات من واقع ما يفرضه ويحتمه عليها واجبها من تحمل لمسئولياتها تجاه المواطنين كانت قادرة على العمل بمفردها لو لم تركن لوعود بعض المنظمات التي لم تفي حتى الآن بتعهداتها.
ويستشهد مذكور بالقول :مثلا اليونيسيف قدمت 12 خزان للمياه حتى الآن، بينما وفرت السلطة المحلية 30 خزان والمحافظة قامت بتوفير مولدين سعة 51 ميجاوات وتعهدت إحدى المنظمات بتشغيلها ولم يتم ذلك حتى الآن.. كما تعهدت المفوضية السامية تقديم 20 حمام إضافي وتحمل النفقات ولم توقع العقد حتى الآن.
وفيما كانت المنظمات الدولية حذرت في تصريحات صحفية سابقة من تردي أوضاع النازحين جراء فتنة التمرد لعناصر الإرهاب والتخريب بصعدة، طالب مدير مخيم المزرق الدكتور أمين مذكور تلك المنظمات سرعة الإيفاء بتعهداتها التي التزمت بها تجاه النازحين بما يسهم في التخفيف من معاناتهم.. مشيرا إلى أن ما يتم تلقيه من بعض المنظمات "التي لا تقدم مساعداتها بسخاء" لا يمثل سوى" الفتات"، مطالبا إياها بزيادة مساعداتها "الشحيحة" على حد وصفه.
وبين حقيقة ما يجري بمخيم المزرق، وبين ما درج على تسميته مجازا (بالضجيج)، يبقى من المهم الإشارة إلى أن الحنين الذي يتملك الكثير من الأسر النازحة إلى لحظة العودة إلى بيوتها وديارها في القرى والمناطق البعيدة وحيث يمكن لها إدارة أمور معيشتها، هو الكفيل بإنهاء تفاصيل مثل هذه المعاناة.
|