أحمد الحبيشي - ما كنت لأرغب في تناول الخطاب السلفي العام في اليمن بالنقد والتحليل ، لولا اقتحام رموز التيار السلفي بشقيه الدعوي والحركي ميدان العمل السياسي بشكل سافر ، من خلال الملتقى السلفي العام الذي انعقد يومي 27 – 28 مايو 2006، وما رافق ذلك الملتقى من تسويق شعارات ودعوات ذات طبيعة سياسية انقلابية تتسق مع اللعبة العمياء لقوى حزبية وسياسية أخرى، تسعى هي الأخرى إلى تسويق مشاريع انقلابية تلتقي في الاتجاه العام مع دعوات وأفكار التيار السلفي لجهة المراهنة على أوهام الإقامة الدائمة في الماضي وإعادة عجلة التاريخ وعقارب الزمن إلى الوراء.
الثابت إن الملتقى السلفي العام ضم أبرز رموز التيار السلفي في حزب التجمع اليمني للإصلاح الذي يقود ويوجه تكتل أحزاب "اللقاء المشترك" إلى جانب رموز سلفية بارزة تنخرط في عدد من الجماعات والجمعيات والواجهات التي تشتغل في تسويق الأفكار المتشددة عبر مراكز ومدارس للتعليم الديني لا تعترف بقانون التعليم، بالإضافة إلى الاشتغال بجمع وتسويق الأموال داخليا وخارجيا تحت مسمى (العمل الخيري) !!!
واللافت للنظر أن ثمة مخرجات سياسية خطيرة تصدرت أجندة هذا الملتقى السلفي وسأتناولها واحدة بعد الأخرى في هذه الحلقة والحلقات القادمة من هذا المقال، وفي مقدمتة هذه المخرجات تسويق شعار (طاعة ولي الأمر) الذي فرضه في النصف الأول من القرن الهجري فقهاء النظام الأموي بعد نجاح الخليفة معاوية بن أبي سفيان في دمج الدين بالمَلَكية على تربة رواسب الثقافة الدينية الرومانية والفارسية في التاريخ اليهودي والمسيحي والوثني قبل الإسلام. وهو الدمج الذي أسهم منذ ذلك الوقت في تأسيس نظم استبدادية كهنوتية، يزعم فقهاؤها بأن ملوكها يحكمون بأمر الله، حيث يتوجب على الناس طاعتهم مطلقا حتى وإن جلدوا ظهور رعاياهم وانتهكوا حقوقهم ، وصولا الى الافتراء على رسول الله عليه الصلاة والسلام بان من خرج عن السلطان شيرا ً فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية !! وهو ما لم يقله الفقهاء عندما خرج معاوية عن طاعة الخليفة الراشد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وعندما امتنع الصحابي الجليل سعد بن عبادة كبير الانصار عن بيعة الخليفة الراشد ابي بكر الصديق حتى مات على موقفه الممتنع مكرما معززا دون أن يتهمه أحد بأنه مات ميتة جاهلية بحسب مزاعم ( الشيخ ) عبدالعزيز الدبعي رئيس جمعية الحكمة السلفية في مقاله المنشور بصحيفة ( الأهالي ) بتاريخ 14 يوليو 2009م تحت عنوان ( بين ذيل بغلة الشيطان وذيل بغلة السلطان ).
وما من شك في أن جزءا كبيرا من التراث الفقهي الموروث عن العصر الأموي والعصر العباسي وعصر المماليك ينطوي على روايات وأفكار ومفاهيم صاغها فقهاء الملوك والسلاطين بهدف تبرير وتسويغ الاستبداد ، على النقيض مما جاء في القرآن الكريم الذي عرض لنا استبداد وطغيان فرعون وغضب الله عليه ، حتى أصبح فرعون بسبب استبداده وطغيانه الوحيد من البشر محروما من عفو الله ومغفرته الواسعة في الدنيا والآخرة. كما تأتي تلك الفكار والمفاهيم والروايات الفقهية الاستبدادية ، بالضد من كتب السيرة النبوية وفي مقدمتها ما رواه ابن هشام عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما دخل ذات يوم على النبي محمد عليه الصلاة والسلام فوجده مضطجعا على حصير وقد أثر الحصير في جنبه فبكى عمر اشفاقا على رسول الله وقال : ( ألا تتخذ لك فراشا لينا يا رسول الله ؟ ) فأجابه النبي عليه الصلاة والسلام : (( ماذا يا عمر .. أتظنها كسروية .. انها نبوة .. لا ملك أو سلطان )) . بمعنى ان رسول الله كان مسكونا في حياته بالنبوة ومشغولا بابلاغ الرسالة التي لم يتوقف تنزيلها اليه من عند الله بواسطة الوحي الالهي إلا بعد وفاته . ولم يكن قبل رحيله عن الدنيا مهتما أو معنيا بالتحذير من ميتتة جاهلية جراء الامتناع عن مبايعة حاكم أو الخروج شبرا عن سلطان يأتي بعد موت النبي بحسب مزاعم ( الشيخ ) الدبعي !!!؟؟؟
وسوف نناقش في حلقة قادمة من هذا المقال هذه الأفكار والروايات التي لم يتردد فقهاء السلاطين في اختراعها عندما لم يجدوا في القرآن الكريم ما يوافق هوى السلطان وأهواءهم ، ثم ينسبونها الى الرسول على لسان بعض الرواة الموتى ، وبعد ذلك يعتبرونها من صحيح العقيدة وأصول الدين، وصولا الى رفع سيوف التكفير بتهمة انكار السنة في وجه كل من يعارض تلك الأهواء السلطانية ، على نحو ما فعله فقهاء النظام الأموي الذين تصدوا للخليفة عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه بسسب قيامه بايقاف لعن الخليفة علي بن ابي طالب في خطب الجمعة بعد سبعين عاما من قرار معاوية بن ابي سفيان بوجوب لعن علي في جميع مساجد الدولة الاسلامية حيث أصبح لعن علي بن ابي طالب ( سُنّة ) لا تكتمل صلاة الجمعة الا بها ، فهتفوا محتجين في وجه عمر بن عبدالعزيز : ( السنة .. السنة .. ياعمر ) !!
وقد دفع الامام محمد بن جرير الطبري حياته ثمنا لأمانته التاريخية حين أورد هذه الواقعة في كتابه القيم ( تاريخ الأمم والملوك ) .. فثار عليه غلاة الحنابلة الذين انتشر بطشهم ونفوذهم في الدولة العباسية منذ عهد الخليفة المتوكل ، واتهموه بالتشهير بأهل السنة والجماعة ، وحاصرو الطبري في منزله حتى الموت بعد ان رموه بالحجارة ، ثم منعوا خروج جثمانه للدفن، فأصبح بيته قبره الأبدي ومزارا خالدا في حي الأعظمية ( السنية ) بمدينة بغداد .
وكان مثيرًا للدهشة أن ينظر سدنة هذا الملتقى إلى الرئيس علي عبدالله صالح لا بوصفه رئيسا لنظام ديمقراطي تعددي أنتخبه الشعب عبر صناديق الاقتراع، في ظل دستوريضمن لمعارضيه الذين امتنعو عن التصويت له ومبايعته كافة الحقوق السياسية والمدنية التي تتيح لهم مواصلة الاعتراض على سياساته بالوسائل السلمية والقانونية، فيما يتيح هذا الدستور لغالبية أعضاء مجلس النواب المنتخب من الشعب عبر صناديق الاقتراع محاكمة رئيس الجمهورية، في حالات لا تستوجب الطاعة، (حتى ولو كان عاصيا أو ظالما) بحسب مزاعم (الشيخ) عبدالعزيز الدبعي رئيس جمعية الحكمة اليمانية على هامش الملتقى العام، حيث أفرط الخطاب السلفي للشيخ الدبعي في التماهي مع الخطاب الانفصالي من خلال الايحاء بأن الرئيس علي عبدالله صالح لا يزال يحكم ( الجمهورية العربية اليمنية ) ، ولا يحكم الجمهورية اليمنية الموحدة التي شارك في تأسيسها والاعلان عنها يوم الثاني والعشرين من مايو 1990م المجيد، وحصل على شرعيته كرئيس لها في دورات انتخابية متعاقبة بدأت بالاجتماع المشترك لرئاسة الهيئتين التشريعيتين المنتخبتين في شطرين اليمن سابقا ، وصولا إلى الانتخابات الرئاسية الأخيرة لعام 2006م، حيث حرص الدبعي على القول في مقابلة صحفية نشرها موقع (إسلام أون لاين) على هامش الملتقى العام بأن شرعية الرئيس علي عبدالله صالح جاءت مما أسماه (اختيار أهل الحل والعقد) في مجلس الشعب التأسيسي عام 1978، وهو ما سنناقشه بالتفصيل لاحقا عندما نتناول بالنقد والتحليل موقف التيار السلفي من الارهاب والديمقراطية والانتخابات والتداول السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع.
ما من شك في أن المخرجات التي تصدرت الخطاب السياسي للملتقى السلفي العام تشكل محصلة للأجندة المشتركة لمختلف مكونات التيار السلفي بشقيه الحركي والدعوي، خصوصا في ظل الحضور اللافت والمتميز لرموز الجناح السلفي لحزب التجمع اليمني للإصلاح الذي يقود ويوجه أحزاب المعارضة المنضوية في تكتل " اللقاء المشترك"، حيث يمكن ملاحظة بصمة رموز هذا الجناح على الخطاب السياسي السلفي الذي تمخض عن ذك الملتقى، خصوصا لجهة المراهنة على خطف منصب رئيس الجمهورية وتجويفه كوسيلة لتحقيق الغاية الكبرى للمشتغلين في حركة الإسلام السياسي، وهي الوصول إلى السلطة والأنفرادا بها واقامة الحكم الالهي بذريعة وجوب تطبيق حاكمية الله من خلال الحاكم بأمره !!.
من نافل القول إن الوصول للسلطة بأي وسيلة هو الهدف الرئيس للمشتغلين في مجال (الإسلام السياسي) الذي يتاجر به دعاة الدولة الدينية من خلال حزب التجمع اليمني للإصلاح بما هو القائد الميداني لأحزاب المعارضة المنضوية في إطار ما يسمى (اللقاء المشترك). وزاد من تهافت حزب "الإصلاح" على سلوك مختلف الطرق المؤدية إلى السلطة ، تعاقب هزائمه في مختلف المباريات الانتخابية السابقة ، حيث أضطر دعاة الدولة الدينية في هذا الحزب الى الانخراط فيها بعد تراجعهم الشكلي عن معاداة الديمقراطية وتظاهرهم بالقبول بها . فقد كان حزب "الإصلاح" من خلال تكتل أحزاب " اللقاء المشترك " حريصا قبل هزائمه الانتخابية وخصوصا الانتخابات البرلمانية لعام 2003 والرئاسية لعام 2006م على تحييد رئيس الجمهورية والتفاخر في اعتباره مرشحا رئاسيا عن حزب (الاصلاح) في الانتخابات الرئاسية قبل الآخيرة ، والتعامل معه كراع للجميع ، ودعوته إلى الاستقالة من منصب رئيس المؤتمر الشعبي العام والتفرغ لرعاية العملية الديمقراطية .. بينما تحول الموقف (180 درجة) بعد الفشل المخزي لآحزاب (اللقاء المشترك) التاي يقودها ويوجهها حزب ( الاصلاح ) في الانتخابات الرئاسية والمحلية لعام 2006م ، حيث درج حزب (الاصلاح ) وحلفاؤه على اتهام النظام السياسي الديمقراطي بأنه أصبح مشخصنا في الرئيس علي عبدالله صالح وأفراد عائلته لا غير، بحسب ما جاء في ما يسمى "وثيقة الإنقاذ الوطني" التي أعلنها "اللقاء المشترك" في سبتمبر الماضي.
ومما له دلالة أن يتماهى الخطاب السلفي العام في الملتقى الذي عقده السلفيون في صنعاء أواخر مايو 2009، مع الهدف الجوهري الذي يسعى إليه حزب التجمع اليمني للإصلاح من خلال (اللقاء المشترك) .. فالسلفيون زعموا في ملتقاهم أن طاعة الرئيس علي عبدالله صالح واجبة حتى (ولو كان عاصيا وظالما ، طالما أن الله ولاه علينا ) ، بمعنى الدعوة الى شخصنة النظام السياسي في ذات الحاكم بأمر الله وحده، الأمر الذي يمهد الطريق لخطف منصب الرئيس من قبل التيار السلفي ومن خلاله خطف السلطة وإعادة إنتاج الدور الكهنوتي الذي كان يمارسه فقهاء الاستبداد في الدولة الدينية، وما يترتب عن ذلك من توفير الذرائع للمشروع الانقلابي الذي يسعى إليه حزب التجمع اليمني للإصلاح من خلال تكتل "اللقاء المشترك" الذي يسعى بدوره إلى تسويق ما يسمى يسمى مشروع " الإنقاذ الوطني" بعيدا عن المؤسسات الدستورية والآليات الديمقراطية ، بزعم أن النظام أصبح مشخصنا في ذات حاكم مستبد، في حال نجاح السلفيين باختطاف منصب الرئيس المنتخب وتجويفه وتحويله إلى سلطان غشوم يحكم بأمر الله الذي ولاه على الناس ، بحسب قول (الشيخ) عبدالعزيز الدبعي وأضرابه من الحالمين بعودة الدولة الدينية الكهنوتية.
من حق السلفيين في حزب "الإصلاح" وخارجه أن يفرطوا في أوهامهم التي يريدون من خلالها إعادة إنتاج دولة الحاكم بأمر الله حتى ولو كان عاصيا أو ظالما، ومن حقهم أيضا أن يحكموا على أنفسهم – وليس غيرهم – بالإقامة الدائمة في كهوف التاريخ، طالما وأنهم يتعاملون مع الديمقراطية على مضض، لأنهم يرون فيها خروجا على "عقيدة السلف" التي تحض على (محاربة المبتدعين من أهل الرأي والضلال)، وتنهي عن قبول (أي بدعة مستحدثة لا تتفق مع ما أجمع عليه السلف الصالح)، ثم يذهبون إلى تأويل انتقائي وخاطئ للآية الكريمة (ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين) " القصص الآية 36"، بالإضافة إلى التدليس والتلييس حين يحرصون في سلوكهم على التجسيد اللفظي للآية الكريمة "حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا " بحسب ما يدرسه تلاميذ المدارس الدينية السلفية، ويردده دائما قادة التيار السلفي في حزب "الإصلاح" عبر خطبهم وشرائطهم الصوتية. لكن السلفيين لا يقولون لضحاياهم الذين يدرسون تأويلهم لهذه الآيات أنها نزلت لتوضح ما عاناه الرسول عليه الصلاة والسلام من قومه الذين كانوا يتصدون له كلما دعاهم إلى شيء جديد عليهم فيقولون له : "أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا " (يونس الآية 78)، ثم تأباهم العزة بالإثم فيقولون مثل ما يقوله لنا السلفيون : " إنا وجدنا آباءنا على أمة وأن على آثارهم مقتدون" (الزخرف الآية 23) .. وهذه هي مناهج سلفية مذمومة بامتياز.. وقد حذرنا القرآن منها بدون أي لبس.
بيد أنه ليس من حق أحزاب المعارضة في تكتل " اللقاء المشترك" تسويغ مشروعها الانقلابي تحت مسمى "الإنقاذ الوطني" بذريعة أن النظام أصبح مشخصنا في رئيس الجمهورية وحده، بينما كانوا حتى وقت قريب يشيدون برئيس الجمهورية ويطلقون عليه أحسن الأوصاف ويطالبونه سواء من خلال بيانات مشتركة أو أحاديث صحفية بأن يقف محايدا في الخلافات السياسية بين الأحزاب، وحكما بينها ، وراعيا للعمل السياسي والحزبي لا مشاركا فيه، بمعنى أنهم كانوا يدعون إلى تحييد وظيفة رئيس الجمهورية في ساحة الممارسة السياسية، وما يترتب على ذلك من إشكاليات نظرية ودستورية تتعلق بالسلطة السياسية للدولة في حالة استجابته لهذه الدعوة، أو نجاح التيار السلفي باختطافه وتجويفه وتحويله إلى حاكم بأمر الله تتوجب طاعته حتى ولو كان عاصيا أو ظالما بحسب أوهام (الشيخ) عبدالعزيز الدبعي.
والثابت ان الاسلاف الذين يعتقد (شيوخ) الجماعات السلفية في اليمن أمثال الدبعي والمهدي والريمي والحجوري والذارحي وصعتر بأنهم وجدوا أنفسهم على ( سُنّتهم ) ، هم الحكام والسلاطين وفقهاؤهم ممن وجدهم هؤلاء السلفيون على أمة ثم أصبحوا على اثارهم مقتدون. وبصرف النظر عن ايجابيات وسلبيات أولئك الحكام والفقهاء فقد كانوا أبناء عصرهم ، واجتهدوا في الاجابة على الأسئلة الني واجهتهم في ذلك العصر. ولا يجوز أن نقدس سيرتهم ونستحضر صراعاتهم بصورة مطلقة ..لأن أسئلة عصرهم ليست أسئلة عصرنا وكل العصور، وإجاباتهم على تلك الآسئلة ليست إجابات مطلقة على أسئلة كل عصر لاياتيها الباطل والنقص والخطأ.. اما سُنّتهم في عصرهم فلا تصلح أبدا أن تكون سُنّة لكل العصور .
وعليه لا يجوز حصر الاسلام والمعرفة والحقيقة في عصور معينة من ماضي التاريخ ، وما ينجم عن عن ذلك من تصور خاطئ بأن الاسلام هو تاريخ تلك الحقبة فقط ، وان المعرفة بالحياة في ضوء الاسلام توقفت عند عقل الاسلاف في عصور مضت. فالاسلام هو دين الحق والعقل حتى قيام الساعة. أما الماضي فهو ليس من صنعنا ، وأمجاده لا فضل لنا فيها ، وأخطاء وخطايا وصراعات الاسلاف في الماضي لا نتحمل وزرها .. ناهيك عن أن ماضي الأسلاف يشتمل على الحق والباطل ، والهدى والضلال ، والعدل والظلم . فيما يؤدي الاستغراق في الماضي والاقامة الدائمة فيه الى انشغالنا عن الاهتمام بقضايانا ومصائرنا حاضرا ومستقبلا في عالم يشهد متغيرات هائلة ، ومنجزات علمية واسعة ، وانفجارا معرفيا بايقاعات متسارعة وضخمة!!
يمكن القول بأن إصرار رموز التيار السلفي على اختطاف منصب رئيس الجمهورية وتحويله إلى سلطان غشوم وحاكم بأمر الله، وإصرار قيادات أحزاب "اللقاء المشترك" على المطالبة بتحييد منصب رئيس الجمهورية سابقا أو تجويفه والانقضاض عليه حاليا، يعكسان شعورا لدى هذه القوى التقليدية بأهمية وضرورة اختطاف السلطة السياسية للدولة أو تحييدها وتجويفها في مجرى خلافها مع الحزب الحاكم، وعجزها عن الوصول إلى السلطة عبر الآليات الديمقراطية وصناديق الاقتراع. بيد أن هذا الشعور يعاني من أزمة بنيوية – في تقديرنا – بسبب عجز هذه القوى عن فهم وظائف السلطة السياسية للدولة، وافتقارها لمنهج معرفي يساعدها في تحليل وظائف الدولة ونظم التغيير في هذه الوظائف والبيئة التاريخية التي تؤثر في صيرورة نظم المتغيرات.
ولا ريب في أن هذا المأزق يعد أحد أبرز تجليات الأزمة العامة التي تعيشها أحزاب المعارضة المحسوبة على اليسار القومي واليسار الاشتراكي والتيار الإسلامي بشقيه السلفي والبراغماتي، بسبب عجز هذه القوى عن إ عادة بناء فكرها السياسي وتجديد هويتها المعاصرة، في ضوء المتغيرات الجذرية التي شهدتها البيئة العالمية، والاختلالات العميقة التي عصفت بالبنى الأيديولوجية لهذه الأحزاب، الأمر الذي يفسر اضطراب أطرها الفكرية الحالية بوصفها واحدة من المحددات التي يتوقف عليها نجاح هذه الأحزاب في امتلاك أدوات التحليل المعرفية، وبالتالي صياغة مواقف سياسية واعية، أي مبنية على عنصر (الوعي) لا عنصر (الشعور)، كما هو حاصل الآني بدعوى حراسة الدين أو حماية الديمقراطية، إذ يؤدي الوهم بإمكانية خطف منصب رئيس الجمهورية وتفريغه، أو تهميشه والانقضاض عليه ، إلى الخلط بين مبدأ الفصل بين السلطات لمنع الاستبداد، بحسب ما تسمى وثيقة "الإنقاذ الوطني"، وبين الحكم الإلهي المطلق للحاكم الذي ولاه الله على الناس بحسب مخرجات ما يسمى "الملتقى السلفي العام". وهو ما سناتي اليه في الحلقة القادمة من هذا المقال باذن الله . |