احمد الحبيشي -
تناولنا في الحلقة السابقة من هذا المقال بعضا من السمات الدستورية الجوهرية للنظام السياسي الديمقراطي التعددي في الجمهورية اليمنية لتفنيد مزاعم ما تسمى وثيقة (الإنقاذ الوطني) التي أصدرتها أحزاب المعارضة المنضوية في إطار (اللقاء المشترك) بقيادة حزب التجمع اليمني للإصلاح، و زعمت فيها أن هذا النظام أصبح مشخصنا ومختزلا في شخص الرئيس علي عبدالله صالح وأفراد عائلته، ومن أبرز هذه السمات الدستورية التي تناولناها تحقيق مبدأ التوازن ، والفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، كأساس لبناء الدولة الوطنية الموحدة الحديثة التي ينتخب فيها المواطنون والمواطنات حكامهم وممثليهم في هيئات الدولة الدستورية، على قاعدة التداول السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع، الأمر الذي يؤسس لبناء بيئة سياسية ديمقراطية تعددية، تزول فيها مخاطر الاستبداد والإنفراد بالسلطة والثروة، وما ينجم عن ذك من مظالم وصراعات دموية على السلطة بواسطة القوة والغلبة والشوكة على نحو ما كان يحدث في الماضي بواسطة الانقلابات العسكرية والحروب الأهلية.
في هذا السياق أوضحنا حدود السلطات الدستورية للرئيس المنتخب والحكومة التي تمثل الحزب أو الائتلاف الفائز بثقة أصوات الناخبين والناخبات، إلى جانب السلطات التي تتمتع بها الهيئة التشريعية المنتخبة من قبل المواطنين رجالاً ونساء عبر صناديق الاقتراع، ومن بينها سلطة اقتراح القوانين التي لا يتمتع بها رئيس الجمهورية، لأن الدستور يمنحها فقط للحكومة أو أعضاء مجلس النواب ، بينما يمنح رئيس الجمهورية حق الاعتراض النسبي ـــ فقط ـــ على القوانين التي يقرها مجلس النواب وإحالتها مرة أخرى الى البرلمان مع إيضاح أسباب الاعتراض ، فإذا قبلها مجلس النواب يجوز تعديل القانون، فيما يجوز لنواب الشعب التمسك بصيغة القانون التي تحفظ عليها رئيس الجمهورية وإعادتها إليه، حيث يتعين إصدار القانون بقرار جمهوري أو سريان تنفيذه بعد ثلاثين يوما من إقراره مرة أخرى في البرلمان ان لم يصدر به قرار جمهوري .
بمعنى أن النظام السياسي للدولة ليس مشخصنا ومختزلا في شخص حاكم يتمتع بسلطات مطلقة وغير مقيدة ، كما أن الدستور يعطي الحق للسلطة التشريعية المنتخبة بمحاكمة رئيس الدولة في حالات معينة لا تستوجب الطاعة المطلقة أو النسبية لسلطة الحاكم على نحو ما كان سائدًا في نظام (ولي الأمر) الذي يقوم على الخضوع وتنتفي فيه الشورى، وهو ما يدعو إليه الخطاب السلفي الذي يسعى إلى الانقلاب على المركز الدستوري لرئيس الدولة بقصد فرعنة الحاكم وإجبار الناس على طاعته والصبر عليه، حتى وإن كان ظالمًا يجلد ظهورهم ويأخذ أموالهم، بحسب هذا الخطاب الذي يتكامل مع المشروع الانقلابي لأحزاب (( اللقاء المشترك )) لجهة توفير الذرائع التي تبرر لهذه الأحزاب الانقلاب على النظام السياسي بدعوى أنه تحول من نظام (( أولي الأمر)) الذين (( أمرهم شورى بينهم)) بحسب أوامر الله في القرآن الكريم، إلى نظام (ولي الأمر) الذي يبيح له الخطاب السلفي الكهنوتي ظلم الناس وأخذ أموالهم، فيما يفرض سدنة وكهنة هذا الخطاب على الناس ، وجوب طاعة ولي الأمر والصبر عليه طالما إنه يؤدي الشعائر الدينية ولا يظهر كفرا بواحا.
و لاريب في ان هذ الخطاب يتعارض مع قول الله في القرآن الكريم (إن الظلم لشرك عظيم) "سورة لقمان الآية 13".. كما يتجاهل في الوقت نفسه حقيقة أن الشرك أسوأ أنواع الكفر البواح، فلا شرعية في الإسلام للهدف الذي يسعى إليه هذا الخطاب من خلال تسويق الدعوة لنظام الحاكم المستبد الذي يعبد الله وينهب ويظلم ـــ في الوقت نفسه ـــ عباد الله ، ناهيك عن أنه لا مجال للعودة إلى العصور الوسطى التي أفرزت دولا إمبراطورية قامت على أساس الاستبداد، وتوسعت على قاعدة اقتصاد الخراج الذي كان مزيجا من الإقطاع والعبودية قبل ظهور الثورة الصناعية.
الثابت أن مسار بناء وتطوير الدولة الوطنية الحديثة بما هو هدف إستراتيجي من أ هداف الثورة اليمنية والحركة الوطنية اليمنية المعاصرة شهد تحولا تاريخيًا في عهد الرئيس علي عبدالله صالح الذي ارتبط دوره القيادي قبل وبعد توحيد الوطن اليمني أرضا وشعبا ودولة، بتخليص البلاد من رواسب العصور الماضية التي أثقلت شعبنا بالظلم والفقر والتخلف والعزلة والجهل والحروب الداخلية لفترة طويلة من الزمن، وما ترتب على كل ذلك من ضعف وهشاشة حضور اليمن في حركة التحولات التاريخية للعصر الحديث، والانعزال عن الحضارة المعاصرة ، والعجز عن المشاركة الفاعلة في النظام العالمي الجامع للدول القومية ، على أساس توازن المصالح وتبادل المنافع والمساواة في السيادة، وإعلاء القيم الإنسانية المشتركة للبشرية، وتدعيم التعايش السلمي بين الدول والأمم والثقافات ، واحترام حقوق الانسان ، والتعاون من أجل حماية الأمن والسلم الدوليين.
في هذا الاتجاه سوف نسلط بعض الضوء اعتبارا من العدد القادم على دور الرئيس علي عبدالله صالح في بناء وتطوير الدولة الوطنية الحديثة، بما هي دولة مؤسسات تتوزع سلطة الحكم فيها بين (أولي الأمر) الذين أمرهم شورى بينهم ، وهي دولة تختلف عن نظام ( ولي الأمر) الذي لا مكان فيه للشورى، حيث تكون السلطة مطلقة ومشخصنة ومختزلة في شخص الحاكم وعائلته، فيما يكون واجب المواطنين هو مبايعته جبرًا وطاعته مطلقـا وعدم معارضته علنا والصبر على ظلمه كرها ، حتى وإن جلد ظهورهم وأخذ أموالهم.
ومن أجل إدراك القيمة التاريخية لدور الرئيس علي عبدالله صالح في بناء وتطوير الدولة الوطنية الموحدة الحديثة ، يتعين علينا التعرف على مفهوم الدولة الوطنية الحديثة والسياق التاريخي الذي افرز ضرورتها وشروطها. وبوسعنا القول إن السلفيين الذين يدعون إلى إعادة إنتاج الشكل الاستبدادي الامبراطوري للدولة القديمة العابرة للحدود والقوميات والأثنيات في العصور الوسطى، يتجاهلون الحقيقة التي اكتشفها المؤرخ العربي ابن خلدون في مقدمته الشهيرة عن نشوء وتطور وانهيار الدول التي تقوم على العصبية والغلبة وقوة الشوكة.. كما أنهم يتجاهلون أيضًا ما يجب أن نتعلمه لدى قراءة وتحليل تاريخ البشرية، حيث كانت توجد مجتمعات بدون دولة وتخضع لسلطة زعماء القبائل والعشائر، ومجتمعات بدون لغة مكتوبة تدون ثقافتها وأسلوب حياتها، ناهيك عن أن ثمة مجتمعات أخرى كانت ترفض الانضواء تحت سلطة دولة مركزية واحدة، بسبب النزاعات القبلية والعشائرية في داخلها، ومع ذلك انقرضت كل هذه المجتمعات التي سادت في عصور ما قبل الإقطاع في آسيا وأوروبا وأفريقيا وغرب الكرة الارضية .
ويعلمنا التاريخ أيضا أن ثمة مجتمعات بشرية خضعت لدول إمبراطورية بالقوة، في سياق التوسع الامبراطوري عن طريق الغزو العسكري، وكانت السلطة التي تحكم تلك المجتمعات والدول هي سلطة القوة والغلبة التي تفرض نفسها بفعل النصر العسكري لعصبية معينة بغطاء ديني أو مذهبي ، وترسخ بالتالي هيمنة ملوك الطوائف والعصبيات الغازية بحسب مقدمة ابن خلدون . وكان يتعين على هذه المجتمعات التي كانت تحكمها دول إمبراطورية قوية أن تدفع للدولة الغازية خراجا ثقيلا، يتم اقتطاعه من منتوج زراعي أو حرفي ضعيف عموما، وأن يفقد بعض سكانها حريتهم بسبب حروب التوسع التي تحيل الرجال المهزومين إلى عبيد للانتفاع بعملهم، كما تحيل نساءهم إلى سبايا للمتاجرة بهن في أسواق النخاسة بهدف الاستمتاع الجنسي.
والحال أن الخطاب السلفي العام يتجاهل المسافة التاريخية الواسعة بين الدولة الوطنية الحديثة في عصرنا ، وبين الدولة الإمبراطورية التي كانت توطد سلطتها بالقوة العسكرية داخليا وخارجيا، ثم تفرض على الذين يخضعون لسلطتها المطلقة دفع الخراج والضرائب بهدف توفير الموارد المالية لضمان تسيير جهاز الدولة الذي كان ينحصر في الأسر الملكية الحاكمة وأمراء الجيش والجواسيس ورجال الدين والقضاة، وجباة الخراج والضرائب والزكوات والجزيات ، بعيدا عن أي التزام بالتنمية ومكافحة مخرجات الفقر والمرض والجهل والأمية و الكوارث الطبيعية والحروب.
وبوسعنا القول إن ما يميز الدول الإمبراطورية في عصر الإقطاع واقتصاد الخراج عن الدولة الحديثة في عصر الثورة الصناعية واقتصاد السوق ، هو أن الدولة الحديثة تنزع إلى الانتشار العالمي بواسطة مفاعيل الحضارة الحديثة والعلاقات الدولية والمصالح الاقتصادية المشتركة للعالم المعاصر،وثورة تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات ، وليس عن طريق الغزو كما كان في العصور القديمة ، أو الاستعمار على نحو مافعلته في العصر الحديث بضعة أوليغارشيات مالية وعسكرية ملكية اغتصبت الحكم في بعض الدول القومية الأوروبية ، ثم حاولت ــ بشكل استثنائي ــ إعادة إنتاج بعض سمات ماضيها الامبراطوري الذي ثارت عليه وتحررت منه . وهو ما سنأتي إليه في حلقة قادمة سنتناول فيها نشوء الفكر القومي العربي الذي يعاديه الخطاب السلفي الماضوي ويعتبره جزءا من مخطط علماني صليبي ، ويدعو الأحزاب التي حملت لواء الكفاح الوطني والقومي ضد الاستعمار ومن أجل الحرية والاستقلال والوحدة العربية إلى التوبة والدخول في الإسلام من جديد، ، بحسب تصريحات وقحة وردت على لسان أحد ( شيوخ ) الملتقى السلفي العام.
وحين تنزع الدولة الوطنية الحديثة للانتشار العالمي بواسطة انخراطها في منظومة دولية، وليس بواسطة التوسع الإمبراطوري لدولة دينية واحدة، فإنها تنزع بالضرورة إلى التمسك بالاستقلال والسيادة على أراضيها وحماية أمن مواطنيها، مقابل تسيير المجتمع وتنمية موارده وتطوير معيشته، وتوسيع مشاركته في إدارة شؤونه وتقرير مصائره . أما الشكل السياسي لنظام الحكم في الدولة الوطنية الحديثة فإنه يترسخ ويتطور بمقدار قيام الدولة بمهمة تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية لشعبها، وتجنيب مواطنيها مخاطر السياسات العدوانية والانعزالية التي تنتهجها على مستوى علاقاتها بالدول الأخرى.. ولا تستطيع الدولة الوطنيةالحديثة إنجاز هذه المهام بدون تخصيص جزء من موارد المجتمع لتسيير أموره وتدبير احتياجاته العامة، وتوظيف جزء آخر من موارده لتنمية قدراته وتلبية تطلعات واحتياجات الاجيال الجديدة والقادمة، الأمر الذي يتطلب توزيع السلطة والثروة بين جميع مكونات الدولة والنظام السياسي والمجتمع المدني، وهو ما لم يكن موجودًا في الدول الإمبراطورية التي يحاول الخطاب السياسي السلفي إحياءها ، و إعادة عقارب التاريخ إلى عصر الإقطاع واقتصاد الخراج الذي انتهت بنهايته تلك الدول الامبراطورية ، بعد بزوغ شمس عصر الثورة الصناعية واقتصاد السوق، وانتقال الحضارة البشرية إلى طور جديد بفعل تعاظم منجزات العلوم التطبيقية ، وتزايد الاكتشافات العلمية والجغرافية ، وانتشار أفكار الحرية والعدالة والمساواة التي كان من أبرز نتائجها ظهور المجتمع الدولي الحديث ، والتزام كافة دول العالم الذي تنخرط فيه بالمواثيق الدولية التي أسهمت في تصفية الاستعمار واحترام استقلال وسيادة الدول على أراضيها وحدودها البرية والبحرية والجوية، وتحريم العبودية وإعادة الاعتبار لحقوق المرأة والطفل ، وإدانة جرائم الحرب ضد المدنيين والأسرى وملاحقة ومحاكمة مرتكبيها ، وبلورة معايير دولية لحقوق الإنسان ، والتزام كافة الدول الحديثة بمبادئ القانون الدولي الجنائي والإنساني.
ولئن كان أبرز ما يميز عصر الإقطاع هو اعتماد نظام الإنتاج والتبادل والتوزيع على منظومة من العمليات الاقتصادية التي لا تتدخل فيها آليات السوق، حيث الأسعار ثابتة، وفائض الإنتاج محدود، فيما يتم التبادل الخارجي أما بالمقايضة أو بالذهب والفضة على أساس أسعار ثابتة أيضا، فإن أهم ما كان يميز الدولة في عصر الإقطاع هو شكلها الإمبراطوري الاستبدادي التوسعي، حيث كانت النظم الإمبراطورية في العصور الوسطى تشكل إطارا جامعا لعدد من الدويلات والأقاليم والكيانات المحلية التي يحكمها في الغالب ملوك الطوائف وشيوخ العشائر وملاك الأراضي وتجار النخاسة وأمراء الجيوش ورجال الدين .
وكان االخضوع ودفع الخراج هما شكل العلاقة رأسيا وأفقيا بين كل المحكومين وحكام الدويلات والأقاليم والكيانات الإقطاعية المحلية من جهة، وبين حكام هذه الدويلات والأقاليم والكيانات والحاكم الأعلى للدولة الإمبراطورية الجامعة لها من جهة أخرى، مع الأخذ بعين الاعتبار أن حكام الدول الإمبراطورية في التاريخ الإسلامي والمسيحي كانوا في الغالب ملوكا أو سلاطين أو أباطرة ينحدرون من أسر وسلالات معينة ، فيما تولى رجال الدين صياغة الأسس الفقهية واللاهوتية لإضفاء الشرعية الدينية عليها.
كانت الدولة الإمبراطورية في عصر الإقطاع واقتصاد الخراج تمثل نظاماً تراتبياً للسلطة، ولم يكن هذا النظام يعرف المفهوم الحديث للسيادة الوطنية على الأراضي التي تتكوّن منها الدولة، لأنّ العَــلاقة بين السيــد الإقطاعي ورعايــاه كانت تقــوم على الولاء والخدمــة والحــمايــة. وبسبب هذا الوضع التراتبي لم تكن هناك حدود للدولة ، بل إقطاعيات منقسمة ومنكفئة على نفسها ، فيما كان التنافس والصراع الداخلي على الثروة والقوة والأمن يستدعي فرض الاستحكامات ا لقديمة والحواجز والأسوار والأبراج المحصنة حول المدن والأقاليم. وعندما يشتد خطر التنافس الداخلي كان الأمر يستدعي الاحتكام إلى ملوك وأباطرة الدولة الإمبراطورية الجامعة.
لهذه الأسباب لم تعرف الدولة الإمبراطورية في عصر الإقطاع ما يُعرف اليوم بالسلطة السيادية لرؤساء الدول في عصرنا الحديث، ونظام الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية ، إذ كانت وحدة السلطة هي الشكل الرئيسي للحكم المطلق، وكانت وحدة السلطة متسمة بشكل عمودي كسلطة واحدة في عصور ما قبل الرأسمالية بين مركز الدولة الإمبراطورية وبين الدويلات والكيانات الإقطاعية المتشرذمة في داخلها.
ومع ظهور الرأسمالية واقتصاد السوق واكتشاف البخار والكهرباء وتوسع الكشوفات الجغرافية وانطلاق الثورة الصناعية والتكنولوجية، واتساع النطاق الكوني للتجارة واختراع وصناعة الأسلحة الحديثة المتطورة، برزت حاجة الدول لأشكال متطورة من الاقتصاد والأمن والمزيد من الموارد بهدف زيادة تراكم الثروة وتنمية قدراتها الاقتصادية والمالية والتجارية والعسكرية، وتأمين حدودها من خطر التحديات الخارجية والحروب الحديثة، الأمر الذي ارتبط بالتحول نحو بناء الدولة ذات السيادة المطلقة على كل أراضيها ومياهها وأجوائها، والسعي لتأمين هذه السيادة من خطر التوسع الاقتصادي الخارجي الذي كان يؤدي إلى قيام دولةٍ ما، بغزو وابتلاع أراضي دولة أخرى. وقد ترتب على ذلك ظهور الحاجة إلى منظومة سياسية داخلية تلبي هذه الاحتياجات الجديدة، إلى جانب منظومة جديدة للعَلاقات الاقليمية والدولية ونظام عالمي جامع للدول.
كانت الفتوحات الدينية والتوسعات الإمبراطورية في العصور الوسطى لا تعرف مبدأ السيادة، حيث لا تعني تلك الفتوحات والتوسعات خرقاً واعتداءً على سيادة معترف بها دولياً كما هو متعارف عليه في عصرنا الراهن، ولذلك أدى ظهور الدولة الوطنية والسوق الرأسمالية العالمية في العصر الحديث إلى نشوء الحاجة لتنظيم العَلاقات بين الدول وصياغة أسس القانون الدولي الحديث، حيث لم تعد سيادة الدولة على حدود أراضيها أو أقاليمها مجرد قرار يستند إلى شرعية دينية أو تاريخية أو تراتبية أو عرقية أو أثنية، بل أضحت نظاماً قائماً على الاعتراف المتبادل بين الدول ضمن أطر وأنماط منظومة جديدة للعَلاقات الدولية، كما نشأت الحاجة للدبلوماسية المعاصرة، بعد ان أصبحت الدول تتبادل فيما بينها ممثلين وبعثات عنها بهدف تنظيم عَلاقاتها السياسية والاقتصادية والتجارية والأمنية.
وبعد تأسيس الأمم المتحدة أصبح انضمام الدول إلى هذه المنظمة الدولية معياراً للاعتراف بالسيادة والاستقلال ، فيما أدى تطور الثورة العلمية والتكنولوجية إلى توسيع دائرة المصالح الاقتصادية المشتركة والمنافع المتبادلة، حيث لم يعد بمقدور أي دولة من دول العالم أن تتطور بمعزلٍ عن الاقتصاد العالمي وشبكة المعاملات المصرفية الدولية ، وبعيداً عن حاجة كافة الأمم والشعوب لقيم سياسية وإنسانية عالمية مشتركة يُصاغ على أساسها النظام الاقتصادي العالمي ، الأمر الذي أسهم في تعميق العَلاقة البنيوية بين السياسة والاقتصاد والأمن، وإكساب وظائف الدولة أبعاداً سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وأمنية على الصعيدين الداخلي والخارجي. وبوسعنا التعرف على مسار تطور الدولة الوطنية الحديثة في اليمن ، والمصاعب والتحديات التي واجهت هذا المسار ، وذلك من خلال مقاربة المشروع الوطني الديمقراطي الوحدوي للرئيس علي عبدالله صالح ، وهو ماسنتناوله في الحلقة القادمة من هذا المقال باذن الله .
|