أحمد الحبيشي - > لحظة حرية: لليمن.. لا لعلي عبدالله صالح «17»
دشنت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م سقوط الدولة الدينية الإمامية التي أقيمت منذ قرون عديدة على أسس مذهبية وكهنوتية كان رجال الدين فيها يلعبون دورا كهنوتياً محورياً في إطار ما كان يسمى نظام ( ولي الأمر) الامبراطوري ودول ملوك الطوائف وأدى سقوط تلك الدولة إلى تمهيد الطريق للانتقال من نظام (ولي الأمر) الامامي الكهنوتي المطلق، إلى النظام الجمهوري ، وانطلاق ثورة 14 اكتوبر 1963م التي أعادت الهوية اليمنية لجنوب الوطن المحتل بعد تحريره من الاستعمار والحكم الانجلو سلاطيني ، فيما جاء يوم الثاني والعشرين من مايو 1990م، ليحقق أهم الأهداف الإستراتيجية للثورة اليمنية، وهو إعادة توحيد الوطن اليمني أرضًا وشعبًا ودولة وبناء المجتمع الديمقراطي، حيث قامت الجمهورية اليمنية الموحدة على أسس ديمقراطية تعددية لتفتح آفاقًا واسعة وجديدة أمام التطور اللاحق لعملية بناء الدولة الوطنية الحديثة في اليمن بما هي عملية تاريخية بامتياز .
الثابت أن بلادنا شهدت خلال العقود الثلاثة الأخيرة تحولات جذرية في مسار بناء الدولة الحديثة، حيث لا يمكن فصل هذه الحقبة من تاريخ اليمن الحديث عن الدور القيادي للرئيس علي عبدالله صالح في تحقيق هذه التحولات والمتغيرات التي لا يمكن أن تحدث وتتحقق بالصدفة، وبدون وجود مشروع سياسي وطني كان ولا يزال أحد أهم عناصر القوة والقدرة على الانجاز والتجدد في التجربة السياسية للرئيس علي عبدالله صالح، وهو ما يتجاهله الخطاب السياسي السلفي الذي يراهن من خلاله رجال الدين السلفيون على امكانية تجريد الرئيس من مشروعه الوطني والعودة الى نظام ( ولي الأمر ) الكهنوتي من خلال التحالف التكتيكي معه ، تمهيدًا للانقلاب على المركز الدستوري لرئيس الجمهورية والنظام الديمقراطي التعددي الذي يكتسب الرئيس شرعيته منه، كما يفعل ذلك أيضًا الخطاب السياسي المعارض لتكتل أحزاب " اللقاء المشترك " الذي يقوده الإخوان المسلمون في حزب التجمع اليمني للإصلاح ، بعد انتقالهم من مواقع المشاركة في السلطة إلى مواقع المعارضة في إطار قواعد العملية الديمقراطية الجارية في البلاد منذ قيام الجمهورية اليمنية الموحدة في الثاني والعشرين من مايو 1990م، حيث كان الاخوان المسلمون ولا يزالون يراهنون على امكانية الوصول الى الحكم من خلال التحالف مع الحاكم و تطويقه لاحقاً ، أو التنافس معه والمطالبة بتجويف منصبه وتجريده من وظائفه ، تمهيدا للاستيلاء على الحكم والانفراد به .
ولعل ما جاء في كتاب (الحركة الإسلامية والنظام السياسي في اليمن – من التحالف إلى التنافس) للناشط السياسي ناصر محمد الطويل دليلاً على تهافت هذا الخطاب ، لجهة نزوعه إلى الفصل التعسفي بين الرئيس علي عبدالله صالح ومشروعه السياسي الوطني الديمقراطي، حيث كرس الكاتب قراءة الإخوان المسلمين في اليمن لهذه المسألة، من خلال الزعم بأن الرئيس علي عبدالله صالح (( قدم الى السلطة من المؤسسة العسكرية وليس له صلة وثيقة بالتيارات السياسية والفكرية، ولم يكن ملتزمًا بمشروع سياسي أو اجتماعي معين، وترتب على ذلك اعتماده على أسلوب بناء التوازنات بين القوى السياسية والبراغماتية في إدارة قضايا لدولة، والقابلية للتحالف مع القوى السياسية التي تحقق مصالحه ، والاعتماد الكلي على التكتيكات والسياسات قصيرة الأجل )).. بحسب ما جاء في الصفحة (107) من الكتاب المشار إليه آنفا!!!
ما من شكٍ في هشاشة التصور الذي يعتقد بأن الرئيس علي عبدالله صالح كان ولا يزال يقود الدولة بدون مشروع سياسي ورؤية واضحة، ويديرها من أجل تحقيق مصالحه الشخصية والعائلية بواسطة (الاعتماد الكلي على التكتيكات والتحالفات والسياسات قصيرة الأجل وهو ما يفسر أيضًا هشاشة المراهنات الخاطئة التي كانت ولازالت تتوهم بإمكانية التحالف التكتيكي مع الرئيس علي عبدالله صالح بكل سهولة ، وتوظيف هذا ( التحالف او التنافس ) لخدمة مشروع سياسي حزبي أو مذهبي أو قبلي ضيق ، طالما انه لا يمتلك مشروعاً سياسياً ، على نحو ما يتم تسويقه عبر الخطاب السياسي السلفي والخطاب السياسي المعارض لأحزاب "اللقاء المشترك". وعليه فإن نقد هذا التصور الخاطئ يستلزم مقاربة المشروع الوطني للرئيس علي عبدالله صالح من خلال قراءة تجربته السياسية في سياقها الموضوعي التاريخي على نحو ما فعلناه في الحلقات السابقة وما سنفعله في الحلقات القادمة ، مع إشكاليات الخطاب السياسي السلفي والخطاب السياسي المعارض لأحزاب "اللقاء المشترك".
والحال ان مقاربة المشروع السياسي للرئيس علي عبدالله صالح ، بما هو مشروع وطني ديمقراطي وحدوي لا يمكن فصله عن يوم الثاني والعشرين من مايو 1990م الذي شكل بداية عهد تاريخي جديد في مسار الحركة الوطنية اليمنية المعاصرة للشعب اليمني، إذ جاء الإعلان عن قيام الجمهورية اليمنية لينهي عقوداً من التجزئة والتشطير والتوترات الداخلية التي تركت ظلالاً ثقيلة على شكل ومضمون الحراك السياسي والاقتصادي والفكري والثقافي للمجتمع اليمني . وزاد من أهمية توحيد الوطن سلمياً ارتباطه بولادة أول نظام سياسي ديمقراطي تعددي يتيح ظروفاً أفضل لتشكيل الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، وإطلاق الحريات المدنية وإقرار مبدأ سيادة الأمة وحقها في انتخاب هيئات السلطة بواسطة الاقتراع الحر والمباشر على طريق تطبيق مبدأ التداول السلمي للسلطة.
بوسعنا القول أن إعلان قيام الوحدة وتدشين التحول نحو الديمقراطية تحققا بإرادة سياسية وطنية مشتركة من قبل قيادتي المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي اليمني اللذين كانا يحكمان شطري البلاد قبل الثاني والعشرين من مايو 1990م، ولا يقلل ذلك من أهمية الدعم الواسع الذي قدمه الشعب اليمني بمختلف فئاته وشرائحه الاجتماعية وقواه السياسية ومنظماته الجماهيرية لهذا المشروع الوطني التاريخي .. بمعنى أن القوى المحركة لهذا المشروع سواء على مستوى النخب الحزبية الحاكمة في شطري البلاد قبل الوحدة، أو على مستوى الأحزاب والتنظيمات السياسية، كانت ومازالت تنتمي إلى منظومات فكرية وسياسية متعددة ومتباينة، لكل منها جهازه المفاهيمي الذي يشكل وعيه ورؤيته ومواقفه واستعداداته في مختلف القضايا المتعلقة بإدارة شؤون الدولة والاقتصاد والثقافة والمجتمع، بما في ذلك طريقة فهمه للعالم الواقعي والمجتمع الدولي.
ثمة من يقول إن توافق الإرادة السياسية لقيادتي الشطرين سابقاً في تبني مشروع الوحدة والديمقراطية لم يكن بعيداً عن العوامل المؤثرة في البيئة الإقليمية والعربية المحيطة باليمن، حيث وصلت الدولة الشمولية المنكفئة على نفسها ، إلى ذروة أزماتها المتمثلة بالعجز عن مواصلة التنمية التي اصطدمت بعدة عوائق أهمها فشل نماذج الاقتصاد الموجه والاقتصاد الاشتراكي في بعض البلدان العربية، وغياب التنوع والحريات السياسية والمدنية في بلدان عربية أخرى أخذت بنظام اقتصاد السوق، بالإضافة إلى مأزق الانكفاء داخل حدود الدولة القطرية. ويربط أصحاب وجهة النظر هذه بين تزامن أزمات التنمية والديمقراطية في العالم العربي من جهة، وبلوغ الأزمة الاقتصادية في البلدان الاشتراكية بسقوط الاتحاد السوفيتي وإنهيار المنظومة الاشتراكية الدولية من جهة أخرى، إلى جانب التحول التدريجي للصين من نظام الاقتصاد الاشتراكي إلى نظام الاقتصاد الحر والإقتصاد المزدوج .
ولاريب في أن تزامن إعلان قيام الوحدة مع التحول الديمقراطي شكل إسهاماً يمنياً متميزاً في إثراء الجدل الذي ساد في أوساط النخب السياسية والفكرية العربية خلال الثمانينات، حول اشكاليات تحقيق الوحدة العربية وحاجة المجتمع العربي للديمقراطية ، بعد أن وصلت مسيرة الكفاح التحرري الوطني ضد الاستعمار الأجنبي إلى إقامة دول مستقلة ومنكفئة ضمن أطر قطرية ضيقة، وغياب الحريات الديمقراطية والحقوق المدنية فيها، وما ترتب على ذلك من أزمات سياسية وإقتصادية وإجتماعية حالت دون تطور المجتمع العربي الذي أصبح عاجزاً عن الاستجابة لتحديات الإندماج في الاقتصاد العالمي والانتقال إلى الديمقراطية والتفاعل مع متغيرات وتحولات الحضارة البشرية الحديثة في الحقبة الجديدة من عصرنا.
تكمن الأهمية التاريخية لإنجاز الوحدة والتحول نحو الديمقراطية في اليمن، في الدروس المستخلصة من هذين الحدثين اللذين شكلا المعنى الحقيقي ليوم 22 مايو 1990م في التاريخ العربي الحديث، حيث تحقق في هذا اليوم انتقال سلمي للسلطة من التجزئة إلى الوحدة، ومن الإنفراد إلى المشاركة، ومن الشمولية إلى التعددية.. ولم يكن لكل ذلك أن يتأسس لولا تحقيق الوحدة عن طريق الديمقراطية، وهو ما يفسر فشل كافة المشاريع القومية الوحدوية التي لا تستوعب الديمقراطية ضمن منظومة منطلقاتها النظرية وأدواتها ومناهجها العملية.
من نافل القول أن التحول نحو الديمقراطية لم يكن رديفاً للوحدة فحسب، بل كان شرطاً لحمايتها ولضمان تطورها اللاحق، بيد أن هذا التحول كان يحمل معه أيضاً إشكالياته التي جسدت خللاً عميقاً في منظومة الأفكار وخبرة الممارسة لدى مختلف القوى المشاركة في هذا التحول، الأمر الذي انعكس على اضطراب الجهاز المفاهيمي للخطاب السياسي العام في بدايات التحول، وما رافقه من تناقضات وتباينات حادة في المواقف والتصورات والتحالفات خلال المرحلة الانتقالية التي مهدت لأول انتخابات تعددية عامة.
ربما يكون هناك قدر كبير من الحقيقة في وجهة النظر التي لا تفصل ما حدث في اليمن يوم 22 مايو 1990م، عن تأثيرات المتغيرات الاقليمية والعالمية على اليمن باعتباره جزءًا من العالم.. لكن أهم ما يمكن ملاحظته في هذا الجانب هو علاقة النموذجين السوفييتي والصيني في ذروة تأزُمّهما وتحولّهما أواخر الثمانينات بإشكاليات الفكر السياسي العربي التي لا يمكن فهم التباينات بين طريقتي تفكير كل من المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي اليمني في أول تجربة إئتلافية لهما بمعزل عنها. حيث كان العالم العربي ينقسم إلى مرجعيتين رئيسيتين في المسائل التي تتعلق بالدولة والسلطة والمجتمع المدني، بصرف النظر عن بعض التنويعات التي كانت تتم على هامش كل من هاتين المرجعيتين دون أن تشكل إضافة حقيقية لها أو تميزاً عنها.
أخذت المرجعية الأولى بنموذج رأسمالية الدولة من خلال اقتصاد متعدد الأنماط يسعى إلى تحقيق (تنمية وطنية مستقلة) تحقق العدالة الاجتماعية في الانتاج والتوزيع ، ضمن أفق طوباوي يتطلّع إلى التحرر الاقتصادي من التبعية للاقتصاد الرأسمالي العالمي.. وهذا النموذج لا يختلف في جوهره عن النموذج الاشتراكي الذي أخذ به الاتحاد السوفيتي والصين وبلدان أخرى، حيث يرى نقاد هذا النموذج أمثال د. سمير أمين في كتابه الشهير ( ما بعد الرأسمالية ) أنه لا يعدو أن يكون سوى رأسمالية دولة أنحرفت عن قوانينها الموضوعية، وعندما عجزت عن مواصلة الانحراف عن مسارها الموضوعي التاريخي ، عادت إلى تشغيل آليات السوق باعتبارها قوانين أساسية لأي تطور رأسمالي .
في الاتجاه الآخر أخذت المرجعية الثانية بنموذج الاقتصاد المفتوح مع مصادرة تامة أو تضييق واسع أو نسبي للحريات السياسية والمدنية، الأمر الذي أوصل العملية الاقتصادية إلى مستوى لم يعد معه الاقتصاد قادراً على مواصلة النمو الطبيعي بدون مشاركة فاعلة من المجتمع المدني الذي أصبح ملحقاً بالدولة. ولما كان اقتصاد السوق المفتوح لا ينمو خارج إطار قوانينه الأساسية، فإن الحرية السياسية هي أحد تجليات هذه القوانين.. ولذلك يربط الاقتصاد السياسي للرأسمالية بين الحرية السياسية والحرية الاقتصادية.. وعلى العكس من ذلك يضع الاقتصاد السياسي للاشتراكية أو ما تسمى بنظرية التنمية المستقلة ، قيوداً على الحرية الاقتصادية والحرية السياسية بشكل عضوي، الأمر الذي يفسر اختلاف وظائف الدولة والنخب الحاكمة في العمليتين السياسية والاقتصادية.
في هذا الإطار أنقسم العالم العربي سياسياً واقتصادياً إلى نموذجين مختلفين في أسلوب تدخل الدولة، ومقدار الحرية المتاحة في العملية الاقتصادية، ولكنهما متقاطعان عند نقطة مشتركة في أسلوب التعاطي مع الحرية السياسية. ولئن كانت الدول العربية التي أخذت بنموذج الاقتصاد الاشتراكي الموجه إعتمدت نظام الحزب الواحد والفكر الواحد على صعيد الممارسة السياسية، فإن الدول العربية التي أخذت بنموذج الاقتصاد الحر ، توزّعت بين نظم تُحرّم التعددية الحزبية والفكرية، ونظم تنطوي على أشكال متنوعة من الحريات المقيدة أو النسبية مثل لبنان، الكويت، السودان قبل إنقلاب الجبهة الإسلامية، المغرب، تونس والشطر الشمالي من اليمن بعد تأسيس المؤتمر الشعبي العام عام 1982م.
لا أستبعد أن يختلف معي البعض ممن يرون أن تجربة المؤتمر الشعبي العام لا تُعطي كاتب هذا المقال الحق في وضع الشطر الشمالي من اليمن قبل الوحدة ضمن منظومة الدول العربية التي أخذت بالاقتصاد الحر، وأتاحت قدراً من الحريات السياسية النسبية.. لكن هؤلاء لن يستطيعوا إقناعنا بأن الشطر الشمالي من اليمن كان ينتمي إلى مجموعة الدول التي أخذت بنظام الاقتصاد الحر و صادرت في الوقت نفسه كل أشكال الحريات السياسية والنقابية.. بل أننا نزعم بأن النظام السياسي والاقتصادي في الشطر الشمالي من اليمن، كان تنويعاً على هامش النموذجين الرئيسيين اللذين سادا العالم العربي قبل الوحدة، بمعنى أنه كان نظاماً اقتصادياً موجهاً ومخططاً ومتعدد الأنماط التي تتساوق بين رأسمالية الدولة والقطاع المختلط والقطاع الخاص، فيما كان على الصعيد السياسي يتيح قدراً نسبياً ومقيداً من الحريات السياسية والحقوق المدنية.
صحيح أن النظام السياسي في الشطر الشمالي من الوطن قبل الوحدة كان لا يسمح بحرية العمل الحزبي بنص دستور عام 1970م الذي ورثه الرئيس علي عبدالله صالح عن أسلافه من الرؤساء السابقين، لكنه كان يتعامل مع التعددية الحزبية بوسائل أخرى، بدءاً بتشكيل لجنة الحوار الوطني التي ضمت خمسين من قادة ورموز الأحزاب السياسية والتيارات الفكرية المختلفة، مروراً بوجود هامش انتخابي لمنظمات المجتمع المدني ، وإنتهاءاً بتأسيس المؤتمر الشعبي العام عام 1982م الذي كان بمثابة التنظيم السياسي الوحيد المسموح له بالعمل السياسي، لكنه لم يكن يشبه أياً من نظم الحزب الواحد التي هيمنت عليها نخب عقائدية صارمة كانت وظيفتها الأساسية حراسة أيديولوجيا شمولية ( قومية أو دينية أو طبقية ) ذات بعد واحد، وقمع الأفكار والآراء المغايرة.
شهدا العقدان الاخيران من القرن العشرين المنصرم شهدا تحولات جذرية وصلت ذروتها في سقوط جدار برلين وإنهيار الاتحاد السوفيتي والبلدان الاشتراكية التي كانت ترمز إلى إنقسام العالم بشكل متواز، ووجود عالم ثالث بينهما، وقد أدت تلك التحولات إلى تغيير جذري في منظومة العلاقات الدولية والبنى السياسية والاقتصادية والمفاهيم والأفكار التي كان لها دور بارز في تسويق وتبرير العديد من نظم الحكم ونماذج إدارة السياسة والاقتصاد والثقافة التي كانت تستمد شرعيتها ومحدداتها من البيئة العالمية تحت تأثير أحداث وتحولات النصف الأول من القرن العشرين ، والحرب الباردة في النصف الثاني منه.
صحيح أن المتغيرات السياسية والاقتصادية التي حدثت أواخر القرن العشرين تزامنت مع حدوث إنعطاف جذري في حركة الفتوحات العلمية التي نهضت بها الثورة الصناعية الثالثة، ووصلت ذروتها في بروز منظومة مترابطة من تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، التي أفسحت الطريق لولادة نظام اقتصادي عالمي جديد يتشكل اليوم في بيئة تاريخية جديدة تتسم بتزايد الميول الموضوعية الرامية الى توظيف المنجزات والفتوحات اللامتناهية لتكنولوجيا الاتصال والمعلومات ، باتجاه إزالة الحدود والحواجز التي تحول دون حرية الانتقال الفوري لرؤوس الأموال والمنتجات والمعلومات عبر العالم، وتشكيل نظام عالمي متكامل للإنتاج والتبادل والتسويق، وإعادة تنظيم الجغرافيا السياسية بما يؤدي إلى إحلال النشاط الاقتصادي الضخم للكارتيلات عابرة الحدود والقارات محل النشاط الاقتصادي للدول القومية، وما يترتب على ذلك من حاجة النظام الاقتصادي العالمي الجديد لأجندة ليبرالية جديدة تتجه نحو الخصخصة وخفض الإنفاق الحكومي وتحرير التشريعات التي تحول دون حرية التجارة العالمية، الأمر الذي يتطلب تغييراً مماثلاً في مجال إعادة بناء المجال السياسي على المستوى الكوني.
مما له دلالة عميقة أن تتزامن هذه التحولات مع صعود الليبرالية الجديدة التي بدأت في أهم مركزين للثورة الصناعية الثالثة، وهما بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية في الثمانينات أثناء فترة حكم مارجريت تاتشر ورونالد ريجان، ما أدى إلى إكتساب الفلسفة الليبرالية الجديدة قوة دفع أكبر بإتجاه إحياء المبادئ الكلاسيكية لإقتصاد السوق وإضفاء بعد كوني عليها بواسطة الاستفادة من دور تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات في الضغط الفوري على الزمان والمكان.
وقد ادت هذه التحولات إلى إنتشار رياح التحول من الشمولية إلى الديمقراطية، ومن المبادئ الكينزية التي أفسحت المجال لتدخل الدولة في ضبط وتوجيه آليات السوق، إلى الإفراط في إطلاق ميكانيزمات الحرية لقوى السوق بكل مفاعيلها السياسية والاقتصادية والثقافية على نطاق كوني . بيد أن طريقة استجابة العالم العربي واليمن جزء منه لهذه التحديات الحضارية الحديثة كانت تختلف من بلد لأخر تبعاً لاختلاف البيئات السياسية والثقافية المحلية . ووقد توقفت طريقة ودرجة الاستجابة لهذه التحديات على طبيعة المشاريع السياسية والتوجهات الفكرية للنظم والنخب الحاكمة في العالم العربي ، الأمر الذي سيساعدنا على مقاربة المشروع السياسي للرئيس علي عبدالله صالح، وتفنيد الأراء التي تزعم أنه (( رئيس بلا مشروع سياسي او اجتماعي ، ويدير الدولة من خلال الاعتماد الكلي على التحالفات التكتيكية المؤقتة والسياسات قصيرة النظر )) بحسب ما يشير اليه الخطاب السياسي للاخوان المسلمين وما توحي به المراهنات الخاطئة للسلفيين في اليمن ، وهو ما سنتناوله في الحلقة القادمة من هذا المقال باذن الله.
|