محمد جلال عناية - من خلال الملاحظة المتأنية، يكتشف المرء أن العقل العربي في كافة الاتجاهات السياسية الخصبة في المجتمع العربي، يفتقر إلى الشجاعة والموضوعية في مواجهة التحديات المتجددة، لذلك فإنه يلجأ إلى النكوص في مواجهة عبثية لإخفاق قد حصل، بمحاولة إعادة عجلة الزمن التي تستحيل عودتها إلى الوراء، وبعيداً عن الجماعات الدينية “السلفية” المتطرفة، وجدت هذه “السلفية” كحالة نكوص عقلية، كآفة أصابت التيارات الماركسية والقومية في المجتمع العربي، عندما تفتقر هذه التيارات، مع عمق إيمانها بمبادئها، إلى رؤية وآليات لمواجهة التحديات المتجددة.
“السلفية”، كحالة نكوص عقلي في المجتمع العربي عن مجابهة التحديات المستجدة بوعي وموضوعية، لا تقتصر على تيار سياسي بذاته، إن كان قومياً أو دينياً أو ماركسياً، بل هي آفة عقلية/نفسية تحتاج إلى الخبرة والشجاعة العلمية لمجابهتها.
من الواضح أن أهم ما جاءت به الحرب اللبنانية “الاسرائيلية” لكل من العرب و”الاسرائيليين”، بعيداً عن تعبيرات النصر والهزيمة، التي أصبحت مبتذلة لقابليتها للتزييف من خلال الدعاية والانتقاء الإخباري، هو عملية تصحيح الرؤية لكل من العرب و”الاسرائيليين” في صراعهم الدموي، الذي يضمر، بلا مواربة، تغييب الآخر.
قبل أربعة أسابيع، كتب “موطي شيفر” مقالاً تحت عنوان “الهجوم الأفضل هو الدفاع” نشر في صحيفة “يديعوت احرونوت”، وورد في ذلك المقال ما يلي: “تقول الأراجيف أننا نملك قدرة عسكرية نووية، كقوة هجومية، وإذا ما سئل مخططو الجيش “الأسرائيلي” ما هي الحكمة من وراء هذه الصياغة، فسيردون عليكم ببساطة أن هدفها ردع أعدائنا عن إبادتنا”، ويتساءل “شيفر” باستخفاف: “هل تحقق هذه النية الحسنة غايتها، أم أنها تفتح الطريق إلى جهنم؟” عندما يشير شيفر ضمناً إلى السلاح النووي بأنه ضمانة للردع في إحدى حالتين: توجيه ضربة ردعية استباقية، أو ضربة للرد، ويرى شيفر أنه عندما يكون العدو جزءاً حيوياً من سكان مدنيين “من دون أن يذكر “حزب الله” بالأسم)، فإنه يرى أن الضربة الردعية (النووية) “ليست خياراً في الحقيقة لشعب سويّ العقل مثلنا”.
إن أمنيات “موطي شيفر” لا تتوافق حالياً مع عقل “اسرائيلي” قادته الحرب الأخيرة على لبنان إلى حالة من الارتباك، فإن “اسرائيل” التي هزمت جيوش ثلاث دول عربية عام ،1967 واحتلت أراضي عربية تفوق كثيراً مساحتها، والتي عطلت، من خلال الحرب النفسية، خيار حرب التحرير العربية، لم تستطع القضاء على قوات “حزب الله” ولا تجريده من سلاحه، وإن البديل التدميري وقتل المدنيين لم يعوضا “اسرائيل” عن فشلها في القضاء على قوات “حزب الله”، بل تبدت همجيتها في أبشع صورها على مرأى من الرأي العام العالمي، المهم أن الإصابات التي أوقعها حزب الله، والتي كانت لها انعكاسات قومية على خط المواجهة مع “إسرائيل”، تحددت في الآتي: “أولاً، تهافتت حقيقة أن “إسرائيل” ستخرج منتصرة في كل مواجهة مع طرف عربي. وثانياً أنه لم يكن للردع النووي “الاسرائيلي” أي تأثير في هذه الحرب، والثالث، أن المجتمع “الاسرائيلي” عانى من ويلات هذه الحرب، كالتدمير وخسارة الأرواح، والاختباء في الملاجئ والمعاناة من الذعر خلال ذلك، والرابع، هجرة مئات الآلاف من “الاسرائيليين” وإخلاء مدنهم وقراهم والفرار إلى الجنوب.
كان هذا على الصعيد الآني، ولكن هذه التأثيرات مرعبة بالنسبة لقادة “اسرائيل” وحكامها على الصعيد المستقبلي، فالكيان الصهيوني قام في فلسطين على دعامتين، هما التجمع السكاني وتوفير الأمن والرخاء لهذا التجمع. ومن هنا نشأ ما يمكن ان نسميه جنون الأمن في “اسرائيل” فإن انهيار الأمن يعني انتهاء “إسرائيل” بشكل تدريجي، حيث يتناقص القادمون ويزداد المغادرون تلقائياً كانعكاس لفقدان حالة الأمن. وإن كل ما قيل عن الدعاوى التوراتية في إقامة “إسرائيل” لا يمت إلى إقامة “اسرائيل” في هذا العصر بصلة، وان هذه الدعاوى ألحقت بالكيان الاستيطاني الصهيوني بعد اقامته، اذ ظلت هذه الدعاوى تتردد على مدى ألفي عام من دون ان تستطيع زحزحة حجر عن موضعه في فلسطين.
دار الخليج
|