شائف الحسيني -
الثقافة في برامج الأحزاب والتنظيمات السياسية عنوان لندوة عُقدت في مؤسسة العفيف الثقافية بتاريخ 26 أكتوبر 2009م كحصيلة عام مضى وافتتاح لعام جديد، دُعي لحضورها والمشاركة فيها الأحزاب السياسية اليمنية وجمهور المثقفين والمعنيين وغيرهم..والموضوع بهذا العنوان ذو أهمية كبرى- لاشك في ذلك- ليس للأحزاب والتنظيمات السياسية فحسب وإنما للمجتمع اليمني كله، لذلك أحسن العفيف فيما فعله ودعا إليه فالتنمية بمفهومها الشامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية الأصل فيها كما نعتقد هو الثقافة إذا كانت معافاة وسليمة وقائمة على رؤية استراتيجية وتأخذ معايير العصرية، مستفيدةً من التراث بهدف التغيير نحو الأفضل فإن ذلك هو بوابة التنمية الحقيقية ذات المردود المعيشي والاستقرار الاجتماعي والأمني لكافة أفراد الشعب.. أما إذا كانت الثقافة معتلة ومريضة ومتشبثة بمفاهيم ماضوية ومناطقية لامناص منها فإن النتيجة ليس سوى التخلف والفقر والمآسي بالجملة وبشتى الصور كما نرى ونسمع اليوم.. قال تعالى »إن الله لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم« صدق الله العظيم.
فالتغيير نحو الأفضل والأجمل لأي شعب لا يأتي من ثقافة مغمورة بالتعصب والمناطقية والسلالية والإقصاء إنما من ثقافة توائم بين حاضر الأمة وماضيها المشرق، تستجيب للحداثة والتطور ولمنطق الحوار والتفاهم وتعيش مع العصر لا متواربة عنه ولا رافضة له جملة وتفصيلاً كما يحصل لبعض الجماعات المتمسكة بالماضي وكفى، وهذا قبل كل شيء لايحصل إلاّ في حالة الوعي المجتمعي بالحاضر واحتياجاته وفي المستقبل ومتطلباته، وكل شعوب الأرض التي سارت في ركب التطور العالمي قد كيَّفت نفسها على الأخذ والعطاء والانفتاح على الآخر والتعايش السلمي داخل محيطها ومع العالم، مستفيدةً من تراثها وجعله قابلاً للتطور والنماء، فتحققت أحلامها في الرقي والازدهار والحداثة والمعاصرة وغدت بفعل ذلك واقعاً معيشاً في حياة كل فرد ينعم فيه الجميع بالعمل، العيش، السكن، الأمن وغيرها.. »شرق آسيا نموذجاً«.
ماهية الثقافة
ودور الأحزاب السياسية
الثقافة هي كل شيء في حاضرنا حملته الأجيال وتناقلته جيلاً بعد جيل سواءً فيما أنجزته من عمران ومن حِرَف وصناعات وعلوم وفنون وعادات وتقاليد وقيم روحية واجتماعية وما أدخلته من مستجدات على الحياة بفعل التبادل الحضاري والتأثير بين الأمم المختلفة.
الثقافة »هي التي تمنح الإنسان أفضلية على التفكير وتجعله كائناً يتميز بالعقلانية والقدرة على النقد والإبداع، فهي تعني صقل النفس والمنطق والفطانة وهي أيضاً دليل على الرقي الفكري والأدبي والاجتماعي للأفراد والجماعات«.. (1) رؤية للثقافة، خطة دائرة الثقافة في المؤتمر الشعبي العام 2009 صـ5
لذلك فإن مفهوم الثقافة في الواقع ليست قصة ولا قصيدة ولا فصاحة لسان ولا رقصات شعبية ولا تجميع آثار في متاحف ولا إصدارات كتب تحت عناوين إحياء التراث وما شابه ذلك ولا هي طقوس تؤدى هنا وهناك وكفى.. هذه نعم.. وسائل، ولكن الثقافة هي مفهوم أشمل وأعم خلاصتها هو ما يؤدي بالمجتمع كله إلى التفاعل الواسع إزاء القضايا المطروحة التي تهمه واتباع السلوك والأفعال الايجابية التي تنتج في الأخير تنمية في الاقتصاد وعملاً للعاطلين ومعارف وعلوماً، غذاء ودواء، وعزة وكرامة للإنسان، ليست فقط حمل أسفار والادعاء بأنها هي الثقافة، إنها في الأخير »دنيا وآخرة«.
فمفهوم الدولة بتنظيماتها المختلفة واحترام قوانينها ثقافة.. واحترام العمل وتحويله إلى قيمة أخلاقية في أوساط الناس ونهج أحسن الطرق لإنتاج السلع والخدمات ثقافة.. والصدق في التعامل وازدراء الكذب ثقافة.. وقبول الناس بعضهم لبعض مع التباين والاختلاف في وجهات النظر ثقافة.. أن يكون للمجتمع أهداف مشتركة يسعى لتحقيقها موحداً هي ثقافة.. أشياء كثيرة تندرج هنا وهناك في السلوك الاجتماعي فتكون نتائجها النمو الاقتصادي والتطور العمراني.
أما ندوة تقام هنا وشاعر يصدح هناك ولوحة تُعرض وجمهور لايعد بأصابع اليد يصفق فإنها ليست ثقافة التنمية الشاملة والنهوض المنشود للوطن، وإنما هذه ثقافة النخبة التي تلوك الشعر والنثر مدحاً وقدحاً منذ أمرئ القيس وعنترة بن شداد حتى اليوم.
لذلك من يقوم بهذا الفعل الشامل في إشاعة التوعية وسط الجماهير للوصول إلى تحقيق تلك الأهداف سوى الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني باعتبارها الطلائع الواعية في المجتمع، لأن الفرد لوحده لا يُحدث الأثر المطلوب مهما تكون كفاءته ولا حتى الأفراد بمعزل عن مشاركة الجماهير صاحبة المصلحة في التغيير، فوعي المجموع عملياً أرقى من وعي الفرد.
ومتطلبات النهوض بالوطن يستدعي عملاً جماعياً وليس فردياً، والتطور من أساسه لايكمن في استيراد الآلة الحديثة وغيرها من تقنيات ووسائل العصر الحديث ليقال بعد ذلك إن هذا هو التطور، وإن على الدولة واجب توفيرها للنهوض بالوطن.. وإنما التطور الحقيقي هو في الذهنية التي تحكم على الأشياء بذاتها وتدرك المعاني فتسعى إليها والمعرفة لاكتسابها، فلم يكن استيراد الآلة في يومٍ ما هو سمة التطور أبداً، إنما استيعاب الآلة وتوطينها داخل المجتمع وتحويلها إلى ثقافة أو جزء منها، وهو ما يعني ارتباط المعطى الحديث بالواقع المعيشي للناس وبلورة الأفكار الإبداعية لتضيف هنا وتزيد هناك، فيصبح الأمر تطوراً بالإضافة والحذف، ولنا عبرة بمصانع أُنشئت في البلاد منذ سنوات طويلة وآلات كثيرة تم استيرادها ولكنها اندثرت بفعل ثقافة الهدم وعدم الاستيعاب للجديد »مصنع الغزل والنسيج مثالاً«.
لذلك فإن الدعوة لإقامة ندوة تحت هذا العنوان »الثقافة في برامج الأحزاب السياسية« هو في غاية الأهمية لو تم التفاعل معها وبلورة الأفكار والعناوين الواردة في مضامينها والعمل للوصول إلى غايتها في برامج الأحزاب السياسية، لو حصل هذا أو لو أنه سيحصل في المستقبل لكان عملاً حزبياً متميزاً وفريداً وفي محله ولا خلاف عليه، فقد لامس الوجع على أن بيت الداء هو الثقافة السطحية المحبطة على أمل أن ما تبقَّى هو تحضير الدواء له..
فسوء الحالة التي أوصلت البلاد إلى هذا المستوى من الاختلافات والمناكفات وتفرق الكلمة والحروب المشتعلة والأنانية المفرطة والخطاب الثقافي الجاهلي الذي يطغى على ماعداه إضافة إلى البطالة والفقر كل ذلك أخرج القضية الوطنية من ساحتها الداخلية إلى الساحة الإقليمية والعالمية وأصبح فيه الحال أننا »في شقاق بعيد«، لايمكن تلافي آثاره إلاّ بتدخل الآخرين في الشؤون الداخلية للبلاد، منشأه حقيقةً هو غياب ثقافة الولاء الوطني والحوار الوطني والقبول بالآخر والجلوس على طاولة الحوار، مما أفسح المجال للآخرين وفتح الأبواب لكل من يريد ان يتدخل في شئون البلاد وأصبحت القضية الوطنية في المزاد العلني، وهكذا أدت هذه الحماقات وقصر النظر إلى »ضياع الجمل بما حمل« كما يقول المثل.. وهو ما يضع الجميع اليوم أمام المسئولية الوطنية والأخلاقية أحزاباً وسياسيين ومثقفين ومجتمعاً للتأمل فيما يجري والولوج في وضع لبنة قوية في مسار تأسيس وإقامة ثقافة الحوار ومتطلبات الاستقرار والأمن في بلد للأسف يعيش في حالة حروب متواصلة وله تجارب مريرة فيها عبر تاريخه الطويل، لتقدم الطبقة السياسية الموجودة حالياً في الساحة لهذا الجيل والأجيال القادمة نموذجاً يُحتذى به، بأن النخبة السياسية اليمنية قد قدمت للوطن ولأبنائه مايمكن البناء عليه في المستقبل بعيداً عن الاحتراب والاضطراب وتدخل الآخرين في الشأن الداخلي، هنا يكون العقل الراجح والبنّاء والرؤية الصائبة على طريق الاستقرار والأمن ثم التنمية.. وماهي الديمقراطية ياتُرى في أبجدياتها سوى القبول بالآخر وإلاّ لماذا سُميت هكذا؟!
إن الخوض في السياسة التصادمية المتبعة منذ أزمنة بعيدة لم تفلح في تأسيس استقرار سياسي واجتماعي وبناء تنموي وغيره، وتجربة ما يقرب من خمسين عاماً من عمر الثورة اليمنية- بغض النظر عن التاريخ القديم- كافية للتعرف على واقع الحال والخروج من الأنفاق والخنادق المظلمة إلى رحاب الوطن الكبير لصناعة غدٍ مشرق جديد.
فلماذا لاتهتم الأحزاب السياسية في برامجها وأنشطتها بالجانب الروحي والثقافي ومكافحة الأمية، لتشكيل قاعدة جماهيرية عريضة تسعى للتغيير السلمي الذي يقوم على مفاهيم وأُسس الديمقراطية والعدالة الاجتماعية كخيار وطني، فذلك هو الأجدى من سياسة المناكفات والصدام وسيكون التاريخ شاهداً بذلك على فترة نضوج سياسي لم يضف جديداً إلى ركام من الشحناء والبغضاء والتنافر والحروب الذي يعيش عليها الناس منذ أزمنة طويلة، فالواقع لايحتاج إضافة مثل هذا النهج المأزوم فهو مملوء إلى النهاية به، والحكمة تقول إنه من الأجدى »معالجة النبع خير من البكاء على المصب«.
من يشغل الفراغ؟
ومع أهمية الموضوع وعنوانه الملفت فإن الأحزاب السياسية للأسف لم تشارك في تلك الندوة، فهي غائبة عن ساحة الفعل الثقافي وغابت عن الندوة وأمثالها من الندوات المكرسة لهذا الشأن.. ونفرٌ من الناس فقط هم من حضروا بصفة شخصية، والقاعة الصغيرة ملأتها الكراسي أكثر من الناس وتحول الخطاب الثقافي بين الحاضرين من خطاب حوار وتفاهم إلى سياسة المناكفات والخصومة والصراعات الذي تملؤه صفحات الجرائد وعادت تعكس نفسها على الساحة الثقافية التي يفترض أن تكون في منأى عن هذا الصراع لأن مكانها السمو بالناس فوق الصغائر واتباع الأدب في الحديث وحسن التفكير ونبذ الفرقة وغيرها من القيم التي تتسم بها الثقافة والمثقفون.
لكن نفراً من الناس كانوا جاهزين في القاعة وهم دائماً من خلال المشاهدة والمتابعة مثل »كومبرس« في مسرحية رديئة يتلو ذلك اللحن الرتيب الممل منذ سنوات عند كل عرض دون تبديل، وغدا الموضوع لدى الحاضرين: أن كل من لم يحصل على عمل أو له حساب خاص مع السلطة أو غير ذلك يأتي إلى هذا المكان ويتربع هنا وهناك في هذه الزاوية أو في تلك ليدلو بدلوه إن كان الموضوع يخص الثقافة أو يخص الفيزياء فلا فرق لديهم سوى الحديث باللعن والملعون الشتائم والمشتوم وغيرها من الألفاظ التي تمزق عرى الوحدة الوطنية وتزيد الأزمة استفحالاً والحلول بُعداً.
من هنا يشعر المرء ببُعْد الأحزاب السياسية عن الجانب الثقافي وفراغ الساحة منه وتركه لكل من هب ودب ويظن أن الثقافة بهذا السبات العميق لم تعد لدى الأحزاب إلاّ كشيء ثانوي أو هي شيء فائض عن الحاجة، أو هي تُذكر فقط عند حملات الدعاية إبان الانتخابات العامة وإلى هنا ينتهي دورها، بينما هي أساس البناء الفكري والعقلي للمجتمع يراد له أن يصل إلى غاياته في حلول المشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية العالقة والمتراكمة منذ أزمنة طويلة، وبذلك أفسح المجال أمام أصوات وأقلام لم تَعِ معنى الرسالة وآثارها وأهميتها.. أحياناً يتكلمون وكأنهم يعيشون خارج الواقع يحومون في عوالم بعيدة ويحلمون بما لايتسع الواقع لتحقيقه، وهنا يُستغرب كيف أن هذا الموضوع المهم غاب لدى السياسيين في الأحزاب وهم مثقفون ويعلمون كم كانت الثقافة رائدة في حقول التغيير والبناء في تجارب الشعوب.
إن حرية التعبير هي حق من حقوق الجميع يمنحها الدستور ولم تكن مِنَّةً من أحد، ولا أحد يريد تقييدها سواءً في الجانب الثقافي أو الإعلامي أو غيره فذلك كفله الدستور، ولكن الفلتان الكلامي في هذا المجال بالذات خطير جداً أكثر من أي شيء آخر لأنه إذا سار على هذا الدرب فسيصبح الناس يتندرون ويسخرون ويهاجمون بعضهم البعض في خصوصيات تتصل بالملبس والمأكل والمعتقد، مما يوجد حالة احتقان إضافي ويدمر حالة الوئام الاجتماعي ويفتت جسد الوطن والأمة نتيجة لكلام غير مسؤول يُبث هنا أو هناك.
ومع ما شاب الندوة من قصور في التحضير والإعداد والإدارة تمثلت في الوقت الذي لم يتم احترامه وفي مفاجآت بعض الحاضرين الذين جاءوا للاستماع وإذا بهم يطلبون الصعود إلى المنصة لتقديم محاضرة لا للاستماع وتقديم مداخلة إضافة إلى عدم وجود برنامج مكتوب وأفكار ورؤى تتضمن الموضوع وما حصل مداخلات بعضها مهم والآخر خارج الموضوع.
إلا أنها مع وجود مثل تلك الملاحظات كانت مهمة وطُرحت في الوقت المناسب.. وياحبَّذا أن تقوم مؤسسة العفيف أو وزارة الثقافة أو غيرها بالدعوة لعقد ندوة أخرى تحت هذا العنوان ولكن بشروط أفضل وحضور أوسع.. ومن الأهمية أن تخرج هذه الندوة بتوصيات في مجال الثقافة.. ولماذا أيضاً لاتكون نواة لحوار حزبي في هذا الجانب؟{