مثَّلت الانتخابات الرئاسية والمحلية التي خاضتها بلادنا مؤخراً نقلة تحول نوعية ليس فقط في مسار الديمقراطية اليمنية ولكن ايضاً في الوعي والثقافة والفكر السياسي الشعبي العربي.. ففي هذه المعركة الديمقراطية التي دارت رحاها بين مختلف الوان الطيف السياسي والاجتماعي اليمني، على ارضية ممهدة وفي ظل اجواء مفتوحة من النزاهة والشفافية والحريات الفردية والجماعية والسياسية والاعلامية والحقوق المتساوية المكفولة دستورياً لكل ابناء الوطن -في هذه المعركة- تجسد المستوى النوعي المتطور للديمقراطية اليمنية ليس فقط في بنائها التشريعي والمؤسسي ولكن ايضاً -وهذا هو الاهم- في الوعي والثقافة والسلوك الشعبي، اولاً على مستوى الفرد الذي غدا يعي حقوقه وواجباته الديمقراطية ومكانته كمصدر لكل سلطات البلد المعاصر ومحدد لنوعية وسمات شخوصها وبرامجها السياسية اللاحقة، وثانياً على مستوى الاحزاب السياسية التي اضحت تعي اهمية ومكانة الشعوب كغاية ووسيلة في مضمار التنافس السلمي من اجل السلطات واضحت تتعاطى بايجابية مع قوانين واشتراطات وادوات ووسائل النضال السياسي والسلمي العلني، واضحت على يقين من ان طريقها للوصول الى السلطة يمر عبر صناديق الاقتراع ومرهونة بقناعات وخيارات الناخب مهما كان شأنه او مكانته الاجتماعية في هذه المعركة التي انتصر فيها الشعب لحقوقه وارادته المستقلة وقياداته ومصالحه، وحاضره ومستقبله.
أ.عقيل حزام فاضل
خرجت الديمقراطية اليمنية من اتونها اكثر قوة وصلابة واكثر حصانة ضد الكثير من الامراض السياسية والاجتماعية التي اكتسبت المزيد من عوامل واشتراطات استمرارية ديمومتها وتطورها المضطرد، وتجذرها في الوعي والثقافة والسلوك الشعبي كنهج للحقيقة والاصلاح والتعبير السلمي واداة شعبية حاسمة للرقابة على اداء الافراد والجماعات والاحزاب والمؤسسات الحكومية والشعبية وتقييمها من منظور المصالح الوطنية العليا لليمن ارضاً وانساناً.
ولقد فرضت العملية الديمقراطية علينا كمواطنين واحزاب ومؤسسات مجتمع مدني جملة من التحديات برزت من خلال التجربة الانتخابية التي خضناها مؤخراً.. اهمها اعادة قراءة نتائجها برؤية تحليلية عميقة، شفافة وواقعية، بعيداً عن القناعات المسبقة والرؤية الاحادية الجانب والتقييمات القاصرة النابعة عن الفهم القاصر لمضامين ومبادئ ومؤسسات الديمقراطية واهدافها وقواها الاجتماعية.. وان نعيد قراءة هذه التجربة بعيداً عن مشاعر الاحباط او اليأس النابع عن مرارة خسارة السباق الانتخابي وبعيداً في الوقت ذاته عن مشاعر الفرح ونشوة الانتصار التي خلقها الانتصار في هذه الانتخابات.
فالوقوع في براثين المشاعر الزائفة التي خلفتها نتائج الانتخابات على طرفي اللعبة السياسية التنافسية او قراءتها من منظور تبريري لاسباب الفشل او عوامل النجاح، التي غالباً ما تحرص قيادات الاحزاب على التعاطي الخاطئ معها.
فالواضح ان قراءة الاحزاب لهذه النتائج نمطية سلبية او قاصرة، وتحول دون ادراكنا الصحيح لمفاهيم الديمقراطية ومضامينها الشاملة، واحتمالاتها وافرازاتها ونتائجها المستقبلية، كما انها تمثل تجاهلاً لارادة الناخب وخياراته وقناعاته.
فقد مثلت الانتخابات الرئاسية والمحلية وبشهادة العالم اجمع، انتصاراً وطنياً جديداً ذا ابعاد وآثار ايجابية وطنية وقومية واقليمية كبيرة لا يمكن التقليل من اهميتها او تشويهها والاساءة اليها، وحرمان الوطن والشعب من ان يجني ثمارها الكبيرة، فهي تمثل من ناحية نقطة تحول نوعية في مسار العملية الديمقراطية اليمنية وانتقالها من مرحلة تحول في التاريخ والثقافة والفكر السياسي العربي والانتقال به من واقع الانظمة الشمولية والدكتاتورية الى عصر الحريات والشعوب، وهي في الوقت ذاته خطوة قومية ريادية في تغيير الوسائل والادوات والطرق القديمة التقليدية للوصول الى السلطة المتمثلة في الانقلابات والتوريث او التآمرات التي تطبخ في الغرف السرية المغلقة، واستبدالها بوسائل وادوات وطرق حضارية سلمية معاصرة عبر الاقتراع السري المباشر الذي يعبر عن ارادة الجماهير بشكل عام.
والآن وبعد ان نجحت الانتخابات وشهد العالم بنزاهتها يتبدى امامنا نحن اليمنيين تحدٍّ وطني أكبر واهم وهو ان نستوعب حقيقة واهمية هذه التجربة الانتخابية في تاريخنا السياسي الوطني المعاصر، وان نعمق هذا الانتصار الديمقراطي في وعينا وسلوكنا السياسي، ونكسبه المزيد من الاهمية والابعاد الوطنية الاستراتيجية، ونجعل منه معلماً بارزاً في سلوكنا الحضاري، وتاريخنا السياسي، وثقافتنا الوطنية نستلهم منه الدروس النظرية، والخبرات العملية والقيم والمثل النموذجية ونعالج بحكمة ورؤية المصلحة الوطنية ما شابها من حالات الضعف والقصور وما اعتراها من سلبيات وممارسات خاطئة.
وان نحرص على تطويرها وتعميمها وتعميقها لدى اجيال الحاضر والمستقبل كنهج وسلوك حضاري رفيع، يستوعب خصوصيات وسمات واقعنا الوطني ودرجة تطوره، دون مغالاة او محاولة احراق المراحل، آخذين بعين الاعتبار، ان الديمقراطية اليمنية تبنت هذا الواقع التي تستمد غذاءها من مختلف روافد مكونه الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي والاخلاقي.. ونمت فيه متأثرة سلباً وايجاباً بكل ما فيه من عوامل قوة ونقاط ضعف بنجاحاته وانكساراته، ولها في الواقع المحلي والخارجي قواها الاجتماعية وانصارها مثل ما لها اعداؤها وقواها المضادة، واية محاولة من قبل اي كان لتجاوز هذه الحقائق الموضوعية والذاتية اما ان يكون مصيرها الفشل، واما ان يكون لها عواقب سلبية وخيمة ليس فقط على الديمقراطية ولكن ايضاً على الوطن وامنه واستقراره الاجتماعي ووحدته الوطنية، وهنا ينبغي التحذير من مخاطر استمرارية الخطاب السياسي والاعلامي لاحزاب المعارضة، الذي يحاول ان يبرر خسارتها للانتخابات من خلال الاساءة الى التجربة الديمقراطية والتشكيك في خيارات الناخبين، في اول تجربة انتخابية تنافسية حقيقية، كانت -بشهادة جميع المراقبين المحليين والاجانب وبتقييم المؤسسات الدولية المهتمة بالديمقراطية في العالم - من افضل التجارب الانتخابية الديمقراطية الريادية في المنطقة والعالم النامي، وجرت وفق المعايير والضوابط والحقوق والحريات المعمول بها في اعرق الدول الديمقراطية في العالم لأن التشكيك فيها والاساءة لها يعد في الوقت الحالي اساءة للوطن ومكتسباته.
الحفاظ على هذا المنجز التاريخي
فالمعروف ان القوى السياسية والاجتماعية في اي بلد من البلدان عندما تكون ضعيفة وقاصرة الرؤية وغير مؤهلة لخوض المعارك السياسية الكبيرة، وغير مدركة لمصالح شعوبها واوطانها الاستراتيجية، تتحول انتصاراتها الشعبية الى هزائم سياسية مريعة، وخاصة عندما تتعاطى مع نتائج هذا الانتصار الجماهيري من منظور المصالح الذاتية الآنية الضيقة، وما نخشاه ان يتحول انتصارنا الوطني الديمقراطي الذي صنعه الشعب بمختلف اطيافه الاجتماعية والسياسية والحزبية، الى هزيمة سياسية على يد بعض القيادات الحزبية التي تحاول افراغ هذا الانتصار من اهميته ونتائجه وابعاده التاريخية حين لا يتوافق واهواءهم واهدافهم ومصالحهم الحزبية الضيقة، او لعدم تعودهم على نتائج العملية الديمقراطية، ولن يجافي الحقيقة اذا قلنا ان من اكبر تحدياتنا المعاصرة تتجلى في قدرتنا على الحفاظ على هذا الانتصار الديمقراطي الذي حققته انتخابات العام ٦٠٠٢م، والمضي به قدماً نحو تحقيق الاهداف والغايات والوطنية والشعبية المرجوة وحتى لا يتحول ما اعتبره العالم قاطبة ريادة ديمقراطية يمنية، وانتصاراً ديمقراطياً اقليمياً وعربياً انجزه اليمنيون الى هزيمة سياسية يمنية بفعل اصرار بعض السياسيين على التعاطي مع هذا الخيار من منظور المتاجرة بقضايا الوطن وانجازات الشعب المبنية على معايير الكسب والخسارة الذاتية والحزبية، واعتماد خطاب سياسي اعلامي سطحي ومأزوم وعدائي يهدف الى هدم وتشويه كل شيء جميل في الحياة.
ان معطيات الوقت الراهن تحتم على كل القوى السياسية الوطنية الخاسرة منها والرابحة ان تقدم مصلحة الوطن على جميع المصالح من خلال التعمق في قراءتها الواقعية والصائبة لمجمل معطيات الدورة الانتخابية الرئاسية والمحلية، ونتائجها وافرازاتها السلبية والايجابية، ومراجعة ادائها السياسي ومكانتها ودورها على الخارطة الاجتماعية السياسية الوطنية خلال ٦١ عاماً المنصرمة من عمر الديمقراطية، وان تجعل من هذا الحدث وقفة تقييمية لأدائها العملي ولعلاقاتها مع الجماهير ولخطابها السياسي وبرامجها الحزبية والانتخابية، ومهامها وأولوياتها الوطنية وان تبحث بتمعن في ثنايا مكونها الفكري والتنظيمي، وسلوكها العملي وطبيعة علاقتها بالجماهير عن الاسباب الحقيقية لنجاحها او فشلها في هذه الانتخابات واسباب عجزها عن تقديم برنامج نظري واداء عملي يتجاوب مع هموم الجماهير ويلبي تطلعاتها ومصالحها، وان تبحث عن اسباب عجزها في التصدي للممارسات الفردية الشاذة والخاطئة المسيئة للعملية الانتخابية التي مارسها البعض بوعي او بدون وعي لتحقيق مكاسب انتخابية خاصة، بدلاً من التباكي ونقد ما حصل، واعتباره شماعة نعلق عليها اخطاءنا واخفاقاتنا وفشلنا.
لقد اثبتت تجربتنا الانتخابية مدى قوة واهمية دور الرأي العام الشعبي كأداة وطنية جبارة للرقابة والمحاسبة وفي تحديد معالم المستقبل وتوجهاته التنموية وهوية وطبيعة قيادته وبرامجها السياسية، وبروز عصر الجماهير ودخولها الساحة السياسية كأداة حسم لكافة المعارك الانتخابية الديمقراطية، يحتم على الاحزاب الوطنية اعادة النظر في سياساتها وعلاقتها بالجماهير والتخلص من اساليبها النمطية المبنية على تخدير هذه الجماهير بالوعود الزائفة والشعارات الجوفاء، والتعاطي السياسي الزائف مع عواطف وغرائز وعفوية ومحدودية وعيها وثقافتها، وغيرها من الاساليب والوسائل الشكلية التي ظلت سائدة حتى عشية انتخابات العام ٦٠٠٢م، التي كان من اهم افرازاتها الايجابية انها اشترطت آلية ووسائل جديدة لتعاطي الاحزاب السياسية مع الجماهير، ووفق عقد اجتماعي يتميز بالواقعية والمصداقية، والحكمة والرؤى الثاقبة.
وبالطبع هذا لن يتحقق إلاّ من خلال قدرة الاحزاب على اعادة القراء الصحيحة لواقع الحراك السياسي والاجتماعي الذي شهدته هذه الانتخابات واستشفاف عمق وشمولية التحولات التي حدثت خلال السنوات المنصرمة في العلاقات الاجتماعية السياسية وفي الوعي والثقافة والاخلاقيات الوطنية وتنامي روح المسئولية لدى هذه الجماهير وقدراتها على تحديد خياراتها التي تشترطها مصالحها واحتياجاتها الحياتية والوطنية حاضراً ومستقبلاً.
على الأحزاب وقياداتها ان تعي وتدرك تماماً ان عملية كسب ود الجماهير وتأييدهم لا يتحقق إلاّ من خلال قدرة هذه الحزب او ذاك على التماهي والتوحد في قضايا وهموم وطموحات هذه الجماهير والتعبير الصادق عنها، وتقاس غالباً المسافات التي تفصل الاحزاب عن قاعدتها الجماهيرية بطبيعة وامتداد المسافات الفاصلة بين النظرية والتطبيق، بين القول والفعل، بين الوعد والتنفيذ، بين الممكن والمستحيل، بين الطموحات الكبيرة وقدرات وامكانات الواقع على تحقيقها، اي انها تقاس بمدى المسافة الفاصلة بين البرامج النظرية لهذا الحزب او ذاك وقدراته الذاتية وامكانات الواقع على تحقيقها على ارض الواقع.
وعليها ايضاً ان تدرك ان العملية السياسية لا تزدهر الاّ اذا ايدها وباركها الشعب بشكل عملي صحيح وعندما تفشل الاحزاب في تحقيق ذلك فستظل سياستها ميتة ولن يكون هناك اي تحرك الى الامام، وان اسوأ ظاهرة تفقد الشعب ثقته بالاحزاب وقياداتها وبرامجها حين تصور له الامنيات واقعاً ملموساً في الوقت الذي تكون تلك الاحزاب عاجزة عن خدمة نفسها في المقام الأول.
فالتباهي الزائف والوعود الكاذبة التي تعود البعض عليها تمثل اخطر عدو للمصداقية وتنسف ثقة الجماهير بهذه الاحزاب وبكل ما تدعو وتروج له.
ختاماً نقول لقد استفدنا من التجربة الانتخابية العديد من الدروس والعبر التي كانت غائبة عن اذهاننا اهمها كيفية العيش والعمل وفق قوانين ومعايير الديمقراطية وتقبل نتائجها، لأن مستقبل الديمقراطية ونجاحاتها اللاحقة مرتبط بتطوير آلية الحوار مع الآخر، وفي الوقت ذاته تطوير آلية التباري والتنافس بين الاحزاب والشرائح الاجتماعية في مختلف المجالات لتقديم الافضل، وتوسيع الادارة الذاتية على جميع المستويات ورفع دور المبادرة والعمل الخلاق على نطاق الفرد والجماعة والوطن جميعاً.
|