بقلم/ علي حسن الشاطر -
في بداية هذه الحلقة أود أن أسجل شكري وتقديري للاستاذ الفاضل (حسين بن عبدالرحمن العذل) الأمين العام للغرفة التجارية والصناعية بالرياض على ملاحظاته التي تضمنها مقاله المنشور في صحيفة الرياض العدد (15166) تحت عنوان:
(العذل "مصححاً" معلومة الشاطر:
يحيى الرسي لا علاقة له بالرس!..)
فهذا المقال وإن كان دليل تفاعل المثقفين والقراء مع المواضيع التي تنشرها الصحيفة فإنه يؤكد في الوقت ذاته مدى اهتمام القارئ والمثقف العربي بقضايا أمته وتاريخها وحرصه على البحث والتقصي عن الحقائق من مصادر ومراجع مختلفة قديمة ومعاصرة، وتقديمها للرأي العام وللباحثين والمؤرخين المعاصرين للوقوف عليها وإخضاعها للدراسة التاريخية والمقارنة وتحليل الوقائع للوصول إلى المعلومة الصحيحة والدقيقة.
الزميل الكاتب الذي ينتمي إلى منطقة (الرس) أشار إلى عدة مصادر مختلفة يحاول من خلالها تأكيد صحة ما أورده حول عدم علاقة (يحيى الرسي) بمنطقة (الرس) الواقعة في (القصيم) وهي كما أوردها الكاتب: (الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة، تاريخ ابن خلدون، الشعر العربي ماقبل الإسلام، المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية، الموسوعة العربية الميسرة) وأخيراً معرفته الشخصية بجغرافية وطبوغرافية المنطقة التي يعيش فيها وجميعها لم تجمع على فهم واحد ومحدد، أو تؤكد صحة ما ذهب إليه دون غيرها من المعلومات.
وهنا أود الإشارة إلى أن ما كتبته في الحلقة الأولى من سلسلة هذه المقالات لا يعبر بأي حال من الأحوال عن أي شكل من أشكال التأصيل الذي يحتم بالضرورة دراسة أبعد وأشمل لقضية التشيع السياسي الديني التي تعود بدايتها إلى (سقيفة بني ساعدة)، وإنما حرصت على إيراد مقدمة مختزلة تمهد للموضوع وتعطي له خلفية تاريخية ضمن إطارها اليمني وجدتها ضرورية لإفادة القراء غير الملمين وغير المختصين بالتاريخ، وقد استندت في ذلك إلى مصادر ومراجع تاريخية يمنية موثوقة قديمة ومعاصرة، وفي الغالب العام تجمع على أن (يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي) قدم إلى (اليمن) من (الرس) في (الحجاز)، وتطول قائمة المراجع الوطنية التي تشير إلى ذلك وقد تكون متناسخة عن بعضها أو تستقي من مصدر واحد.
وما أود توضيحه أن الصحفي أو الكاتب الذي يستقي معلوماته ومعارفه من كتب التاريخ يحرص على استنباطها مما يعتقد أنه حقيقة أو أقرب للحقيقة بالاستناد على أكثر من مرجع، أما تصحيح أي تضارب أو اختلاف في المعلومات التاريخية فيقع في الأساس على عاتق الباحثين والمؤرخين المختصين بهذا العلم، وأنا على ثقة كبيرة من أن ملاحظة الأخ الفاضل (حسين العذل) قد لفتت نظر المؤرخين السعوديين واليمنيين والعرب وحفزت الكثير منهم لإعادة قراءتها ومناقشتها، والبحث عن الحقائق وإعادة تصحيحها وتأكيدها إذا ارتأوا في ذلك ضرورة تاريخية.
في الأخير يمكنني القول إن ملاحظة الأخ العزيز حسن العذل أكدت لي عن جملة من الحقائق المهمة وأبرزها على الإطلاق، أن هذه الأمة لازالت بخير طالما وجد فيها أمثال (العذل) من المهتمين بقضايا الأمة وتاريخها والحريصين على إجلاء الحقائق ومراجعة وقائع التاريخ وأحداثه، فاهتمام الشعوب بتاريخها ودرجة تقدمها في دراسة هذا التاريخ إنما يعبر عن مستوى رقيها الثقافي وتقدمها الحضاري ونضجها المعاصر الذي يؤكد قوة انطلاقها نحو المستقبل، كما أن قراءة وقائع التاريخ المدون ، وإعادة فهمه بشكل سليم وصائب، إنما تؤكدان على درجة وعي ونضج واهتمام أجيال الحاضر، الأمر الذي غالباً ما يقودنا في مسارات سليمة باتجاه تصحيح وتقييم أحداث التاريخ، ويعزز من قدراتنا على إعادة فهم دروسه وتجاربه بما يمكننا من بناء الحاضر واستشفاف آفاق المستقبل وفق رؤية تاريخية سليمة تمكننا من صياغته بتبني مشاريع حضارية إستراتيجية واضحة تتجاوز أخطاء الماضي وسلبياته ومعوقاته.
فألف شكر للأخ (حسين العذل)، ونعود إلى مواصلة الحديث عن حقيقة الحوثية، وجذورها الفكرية والسياسية والمذهبية الذي سبق نشر حلقتين منه، وأشرنا في الحلقة الثانية إلى النواة السياسية المؤسسة للحركة الحوثية التي مثّل (بدر الدين الحوثي) مرجعيتها الدينية العليا، ولما كان ضرورياً لأي حركة ذات طابع إرهابي ومتطرف وتحمل مشروعاً سياسياً غير وطني يعتمد التمرد العسكري وسيلته العملية الرئيسة.. وجود حامل اجتماعي يمتلك صفة الشرعية الوطنية لوجوده ويحمل بذورها ويعمل لاستزراعها فكان هذا الحامل الاجتماعي هو (تنظيم الشباب المؤمن) الذي جاء إنشاؤه استجابة لحاجة موضوعية عند بعض أتباع المذهب الزيدي كمؤسسة تربوية ثقافية ودينية لتدريس النشء أصول المذهب الزيدي وعلومه الشرعية الفقهية وفق أسس سليمة، كما كان حاجة مذهبية لحماية النشء من خطر التمذهب السني المتطرف الذي انتشرت مراكزه العلمية والدراسية في مختلف المناطق بما في ذلك تلك التي ظلت من الناحية التقليدية معقلاً للزيدية مثل (صعدة) و(ذمار) وغيرهما.
لا يمكن أن نفصل تأسيس (تنظيم الشباب المؤمن) في العام 1991م عن طبيعة النشاط الثقافي والتربوي والديني للمراكز والمؤسسات التعليمية الدينية للزيدية التي عاودت نشاطها بعد مرحلة المصالحة (الجمهورية الملكية) وتطور نشاطها وصولاً إلى تأسيس (اتحاد الشباب) على يد العلامة (صلاح فليته)، وهو أحد ابرز علماء الزيدية تأثر بالثورة الإيرانية الخمينية وشعاراتها وأهدافها وتطلعاتها العالمية، وهذا ما تجلى في ثقافته وقناعاته السياسية والعقَدية والمذهبية والتي وجدت تعبيراتها العملية من خلال إدخال مادة دراسية خاصة بالثورة الإيرانية ضمن المنهج الدراسي المقرر على منتسبي (اتحاد الشباب) وكان يتولى تدريسها (محمد بدرالدين الحوثي) الذي يعتبر إلى جانب (محمد يحيى سالم عزان) أبرز مؤسسي (تنظيم الشباب المؤمن).
منذ تأسيسه حظي التنظيم بكامل الحرية في ممارسة نشاطه التربوي والتعليمي، وتم اعتباره أحد أشكال المشاركة الاجتماعية في تعليم وتربية الشباب وحمايتهم من الغلو والتطرف ، وحظي بدعم ورعاية الكثير من الشخصيات والمؤسسات الخيرية الرسمية وشبه الرسمية، الحريصة على إثراء التنوع الثقافي وتوسيع دائرة الثقافة والمعارف العلمية الدينية في أوساط النشء، واستقطب طوابير كبيرة من الطلاب من مختلف المحافظات وصل تعدادهم إلى حوالي (15.000) وفي بعض المصادر (18.000) طالب، وتم خلال فترة وجيزة التوسع في فتح العديد من المراكز التعليمية التابعة له في مختلف المحافظات التي يتواجد فيها المذهب الزيدي، وتحولت العديد من المساجد إلى مراكز للدراسة وبالذات خلال الإجازات المدرسية، وفي أثناء المناسبات الدينية، بدأ الفكر السياسي الحوثي يتسلل إلى عقول الدارسين بشكل غير مباشر من خلال المناهج الدراسية التي كان يُقرها أو يعدها (بدرالدين الحوثي) باعتباره إحدى المرجعيات الدينية الداعمة لهذا التنظيم والمشرفة على الدراسة فيه، وبشكل مباشر من خلال المدرسين التابعين للتيار الحوثي والتي كان من ضمنهم (محمد وحسين الحوثي)، هؤلاء المدرسون كانوا حريصين على إملاء قناعاتهم الفكرية والسياسية ورؤيتهم الخاصة على الدارسين خارج إطار المنهج المقرر وأهداف التنظيم المتفق عليها، وهناك من وقف بشكل مبكر على مثل هذا الخطر والخروج التدريجي عن الأهداف والرسالة التربوية لهذا التنظيم ومراكزه العلمية، وحاول التصدي لهذا النهج السياسي، وتم نقد بعض المقررات الدراسية والتحفظ عليها، فتحول تباين المواقف والرؤى حول المناهج الدراسية بشكل متدرج إلى تناقض فكري وسياسي حاد وسط الأطراف المؤسسة للتنظيم ومرجعياته الدينية العليا، وانتقل من المستويات الأعلى إلى الأدنى ليصل إلى أوساط الدارسين في المراكز التعليمية.
وخلال الفترة 91- 1999م تطورت عملية الفرز داخل (تنظيم الشباب المؤمن) وتبلورت إلى تيارين سياسيين متناقضين في مواقفهما وأهدافهما ورهاناتهما السياسية المستقبلية، وظهرت أسباب هذا التمايز على قاعدة التناقض الفكري حول نوعية وأهداف الدروس والمحاضرات والخطاب الديني والتربوي والسياسي الذي يتلقاه الدارسون من أعضاء التنظيم.
التيار الأول: وعرف في أوساط التنظيم بالفريق المعتدل وأبرز من يمثله (محمد يحيى عزان) من المؤسسين و(مجد الدين المؤيدي) من المرجعيات الزيدية، وأعضاء هذا التيار يرفضون تلقين الشباب معارف وعلوماً خارجه عن السائد في المذهب.. أو تجسد قناعات فرق خارجة عن الزيدية، وينادون بأولوية الاهتمام بالجوانب العلمية وتشجيع الانفتاح على الآخر.. والحوار والتجديد في الفكر الزيدي، ويطالبون بضرورة دراسة وتقييم الموروث الفكري برؤية معاصرة، وجرأة، ومواءمة المناهج مع متغيرات الواقع واحتياجاته وشروط تطوره، والإجابة عن تساؤلات الطلاب وتلبية حاجتهم المعرفية حول القضايا الخلافية بكل وضوح وشفافية وتنمية مواهبهم للبحث والتطوير بحرية، هذا التيار كان يتبنى الحوار والتقارب الفكري مع المذاهب الاخرى واحتواء النزاعات المتطرفة داخل كل مذهب، ووضع نصب عينيه مهمة التجديد والتحديث في المذهب وتدريس علوم المذهب الزيدي وفق أسس علمية سلمية، ومنهاجية علمية تربوية متدرجة في مراحلها الدراسية ومستوياتها المعرفية والتخصصية وإجازاتها العلمية الممنوحة للخريجين.
التيار الآخر: ويمثله من المرجعيات (بدرالدين الحوثي) وولداه (محمد وحسين) وهو ما اصطلح على تسميته بالتقليدي المتشدد، وتبنى رؤية التقيد بالموروث التقليدي وتقديسه، ويرفض الانفتاح والحوار مع الآخر وتوسيع هوة التناقض، والفصل المعرفي والعقَدي مع المذاهب والجماعات الأخرى ويقف منها موقف العداء، ويرى أن التنظيم يجب أن يعد فكرياً وسياسياً ومعنوياً وعسكرياً ليكون حاملاً لمشروع سياسي مهمته إعادة صياغة الواقع وبما يتفق والموروث السياسي التقليدي للمذهب وبالذات ما يتعلق بالولاية أو السلطة السياسية والروحية في المجتمع، هذا التيار كان يرى في الدعوة إلى الانفتاح والحوار والتجديد وتطوير الاجتهاد وفق مقتضيات العصر خروجاً عن الأصول وإفساداً لأتباع المذهب، ويطالب بالتركيز على العلاقة بين الطلاب والتربية الروحية الثورية المستمدة مصادرها من فكر الثورة الخمينية ومشروعها الفكري والسياسي الديني بأبعاده وأهدافه العالمية الراديكالية.
في العام 2000م بلغ الشقاق والتمايز ذروته القصوى بانشقاق التنظيم وسيطرة تيار الحوثية على قيادة التنظيم ومراكزه الدراسية العلمية في محافظة (صعدة)، وتولى (حسين بدرالدين الحوثي) مهمة قيادة التنظيم وإعادة بنائه التنظيمي وتغيير مهامه وتحويلها من طابعها التربوي التعليمي إلى مؤسسة سياسية عسكرية، وبالتالي تحويل مناهجه الدراسية ووسائله وأساليبه التربوية بما يتوافق والمشروع السياسي الحوثي بأبعادة الوطنية والإقليمية.
ويمكن القول إن العام 2000م كان بداية التحول النوعي في الفكر الحوثي والانتقال من الواقع النظري إلى العملي، ومثّل الخطوة العملية الأولى في مشروعه السياسي الذي يقوم على مبدأ حق الولاية في البطنين وبداية الارتباطات العملية المباشرة والمتنامية بالمشروع الإيراني في المنطقة.
ويعتبر (حسين بدرالدرين الحوثي) الامتداد المعاصر الأكثر تطرفاً للنهج الفكري والقناعات المذهبية المتشددة لوالده (بدرالدين الحوثي)، وإليه تنسب حركة التمرد والإرهاب الحوثية، ويعتبر من الناحية العملية المؤسس الحقيقي والزعيم السياسي والمنظر الفكري لهذه الجماعة وقائدها في أول تمرد عسكري مسلح ضد الدولة في 18/6/2004م.
تلقى تعليمه الأساسي وحتى الثانوي في المعاهد العلمية الزيدية في (صعدة).
نال شهادة الماجستير في العلوم الشرعية.
قطع دراسته وهو يحضر لنيل درجة الدكتوراه، ليتفرغ للعمل السياسي.
أسهم بفاعلية في تأسيس (حزب الحق) وانتخب في العام 1993م عضواً في مجلس النواب عن دائرة (حيدان) الانتخابية وممثلاً لحزبه الذي حصل على مقعدين من إجمالي (301) مقعد يتكون منها مجلس النواب اليمني.
التحق بتنظيم الشباب المؤمن وتفرغ لمزاولة مهنة التدريس وإلقاء المحاضرات.
زار (إيران) ومكث مع أبيه الذي كان يقيم في مدينة (قم) عدة أشهر.
تشير المصادر الصحفية الشيعية التي تناولت سيرة حياته إلى علاقته القوية وتواصله المستمر بقيادة (الحرس الثوري الإيراني)، وكشفت هذه المصادر عن أنه زار (لبنان) وتلقى العديد من الدورات السياسية والعسكرية والأمنية في المؤسسات الخاصة ب(حزب الله).
خلال فترة الصراع داخل صفوف تنظيم الشباب المؤمن برز (حسين الحوثي) كرمز قيادي حامل لمشروع سياسي، ونجح في شق التنظيم والاستيلاء على مراكزه العلمية لينفرد في العام 2000م بقيادة هذا التنظيم ومراكزه المتواجدة في محافظة (صعدة)، التي شرع في إعادة بنائه وتشكيله والقيام بعملية تغييرات جذرية في أهداف التنظيم وبرامجه ومناهجه التعليمية والتربوية وفق أسس ومعايير جديدة تتواءم مع مشروعه السياسي العسكري.
لقد تمكن (حسين الحوثي) خلال فترة وجيزة من شخصنة (تنظيم الشباب المؤمن)، وغسل أدمغة الدارسين فيه وتحويلهم إلى حملة أوفياء لقناعاته الفكرية والسياسية الدينية.. ودعاة مخلصين للترويج لها ونشرها في الوسط الاجتماعي، مدافعين عنها باستماتة باعتبارها حقائق دينية وعقائدية مطلقة لايعتريها الشك، ومثل هذا التحول النوعي الكبير في الوعي الديني والثقافي للشباب مهد لتحويل المراكز العلمية إلى مؤسسات عسكرية للإعداد السياسي والمعنوي والقتالي للميليشيات المسلحة، التي أعلنت عن ذاتها والولادة الحقيقية لجماعة الإرهاب والتمرد الحوثية في 18/6/2004م في إعلانها الحرب ضد الدولة والمجتمع.
العمليات العسكرية الأولى التي شهدتها جبال (مران) وقتل فيها قائد هذه الجماعة، أفرزت على صعيد الواقع السياسي والأمني أكثر من تساؤل منطقي يتعلق بالعوامل والشروط والكيفية والآلية التي تمكن من خلالها (حسين الحوثي) من تحويل قطاع كبير من فتية وشباب (تنظيم الشباب المؤمن) من أبناء محافظة (صعدة) إلى أداة لإشعال الفتن ووقود لاستمرارها داخل المجتمع، وتحويل أولئك الفتية والشباب الأبرياء إلى وسيلة بشرية صماء تمتهن القتل والدمار وإشاعة الرعب والخوف والإرهاب داخل المحافظة وتودي بنفسها إلى التهلكة عن قناعة عقَدية راسخة؟
لقد حاول العديد من الباحثين والمختصين الاجتماعيين والنفسيين والسياسيين والأمنيين تقديم الإجابات والتفسيرات العلمية لمثل هكذا ظاهرة.. وتم الحديث عن الكثير من العوامل الموضوعية والشروط الذاتية الداخلية والخارجية التي ساهمت في صناعة هذه الجماعة الإرهابية المتمردة، وتقتضي الضرورة اللازمة لإثراء مضامين موضوعنا هذا التوقف عند بعض الشروط والسجايا الذاتية الخاصة بمؤسسها الأول وآلية نجاحه في انجاز الخطوة العملية الأولى باتجاه تحقيق مشروعه السياسي الكبير، وتمثلت هذه الخطوة في استزراع بذور التطرف والإرهاب والفتن والشقاق والألغام الموقوتة داخل مختلف مكونات النسيج الوطني الاجتماعية والعقَدية والسياسية والثقافية والأخلاقية والأمنية، ومن بين أبرز هذه الشروط والسجايا الذاتية التي خدمت صاحبها:
الموروث التاريخي: الذي يقوم عليه المكوّن الثقافي والفكري والعقَدي المذهبي والنفسي لشخصية (حسين الحوثي) والذي منه استمد مشروعية برامجه وتطلعاته السياسية، باعتباره جزءاً من الإرث الثقافي والتربوي والسياسي للزيدية الهادوية، الذي ظل متجذراً داخل البيوتات العريقة من آل البيت، حيث ترعرع وتتلمذ وتفتقت معارفه وتطلعاته السياسية، بالاستناد على هذا الإرث المذهبي والثقافي الذي تعاطى معه باعتباره حقائق وواجبات دينية مطلقة رسخها في وعي أتباعه ومن أبرزها:
الانفتاح العقلي والدعوة إلى البحث والاطلاع ومنح المرء الحق في الاجتهاد والبت في الأمور المختلفة إذا ما بلغ المرتبة العلمية التي تؤهله لذلك بما في ذلك الإفتاء.
الحق الإلهي لآل البيت في الحكم.
الأصل الخامس في الفكر الزيدي (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، ومثل هذا الأصل يدعو إلى الرفض والتمرد والعصيان والخروج عن الطاعة، بل ومحاربة كل حاكم والثأر منه إذا ظهر فساده وفسقه، وباعتبار ذلك من مستلزمات الإيمان.
بالاستناد على هذه وغيرها من القضايا المتأصلة في الإرث الزيدي الهادوي قدم (حسين الحوثي) نفسه للعامة باعتباره عالم دين بلغ درجة الاجتهاد والإفتاء، ووضع على عاتقه مهمة إصلاح وإحياء علوم المذهب وتعاليمه وأنه نصير للمستضعفين.. ونجح في الاستثمار الانتهازي لصعوبات الواقع وسلبياته وإشكالاته الداخلية، وكذلك ظروف الواقع الاجتماعي في محافظة (صعدة) التي تعمّد عدد من رموز الحوثية – من خلال تصديهم للتطور والعصرنة بتسلط ديني - أن تظل غارقة في الفقر والأمية والتخلف والجهل السياسي والثقافي، في تقديم خطاب فكري وسياسي ديني، يؤسس للفتنة، ويحرض على التمرد والخروج على الشرعية وطاعة ولي الأمر والدعوة للجهاد ومحاربة النظام واستعادة الحق الإلهي لآل البيت في الحكم حتى يعود الحق إلى نصابه ويعود شرع الله إلى البلد (كما يدعي)، مستخدماً في ذلك الفتوى والتأويل السياسي لبعض الآيات والأحاديث، والاستناد بدرجة رئيسة على الانتقائية السياسية لأقوال ومؤلفات بعض المرجعيات والأئمة الشيعة، مسخراً ملكاته الشخصية وقدراته الخطابية الدعائية التحريضية، ومواهبه الحوارية في طرح الأفكار وعرض القناعات وتوصيلها إلى عقول وأفئدة مرؤوسيه، والتلاعب بعواطفهم ومشاعرهم والتحكم بسلوكهم وردود أفعالهم.
الموروث العقائدي: المترسخ في الوعي الجمعي "للشباب المؤمن" وتعقيدات الواقع الوطني وإشكالاته، والمواهب الخطابية السياسية لزعيم التنظيم وقدراته على التوظيف السياسي للخطاب الديني، واستشراء حالات اليأس والفشل والإحباط، وفقدان الثقة بالمستقبل عند الكثير من الشباب الفقراء العاطلين عن العمل وغير المتعلمين الذين تم استقطابهم إلى صفوف الحوثيين، جميعها عوامل مكنت قائد هذه الجماعة خلال فترة وجيزة من توسيع القاعدة الاجتماعية لمؤيديه وأنصاره من الفتية والمراهقين الذين يمثلون عجينة بدائية طرية قابلة ومهيأة بشكل كامل لإعادة التشكيل واستنساخ كل فرد فيهم إلى نموذج مصغر لشخصيته الذاتية بكل مكوناتها وسماتها النفسية والتربوية والسياسية والأخلاقية.
لقد أحاط (حسين بدرالدين الحوثي) نفسه بهالة من القداسة الدينية، والإجراءات والحراسات الأمنية المشددة، والادعاء باستهدافه من قبل أعداء الدين الإسلامي (الصهاينة والأمريكان) وفي هذا السياق عمل أفراد الحاشية السياسية المحيطة به، باتجاه ترسيخ هذه المكانة والقداسة الدينية في عقل ووجدان اتباعه باعتباره من الظواهر الإلهية الحتمية التي جاء ذكرها في الروايات والقصص الدينية الشيعية، مستندين في ذلك على كتاب تم الترويج لبعض فصوله ورواياته في أوساط (الشباب المؤمن) بطرق ووسائل مقنعة، الكتاب اسمه (عصر الظهور) لمؤلفه (علي الكوراني) الذي يؤكد فيه -بالاستناد إلى ما يقوله - ورود أحاديث متعددة تؤكد حتمية حدوث ما وصفه "بثورة اليمن الإسلامية" الممهدة لخروج المهدي المنتظر، ووصفها بأنها أهدى الرايات في عصر الظهور على الإطلاق" ويذكر المؤلف اسم قائد هذه الثورة المعروف "باليماني" ويستند إلى روايات بأن اسمه (حسن) أو (حسين) من ذرية (زيد بن علي) ويخرج من قرية (كرعة) وتقع في منطقة (خولان) بالقرب من (صعدة).
مثل هذه الروايات والقصص التي ينسبها أصحابها إلى مصادر ومراجع دينية خاصة بهم، تعاطى معها أتباع الحوثي كحقائق إيمانية، كان لها أثر عظيم في تشكيل قناعاتهم ومكونهم الفكري وسلوكهم العملي باعتبارهم مقاتلين في صف الثورة الممهدة لخروج المهدي تحت قيادة مولاهم (حسين الحوثي).
الإمكانات المادية والعسكرية الكبيرة ومصادرها المتجددة مكنته من بناء شبكة واسعة من المراكز العلمية والمعسكرات المتخصصة لاستقبال آلاف الشباب، والمجهزة بكل متطلبات السكن والمعيشة والإقامة المريحة، وتتوفر فيها كل متطلبات العمل الناجح لإعداد الشباب وتربيتهم فكرياً ومعنوياً وتدريبهم على فنون الحرب والقتال، وفي الوقت ذاته تسليحهم بشكل حديث.
(وللموضوع بقية)
* رئيس تحرير صحيفة 26 سبتمبر اليمنية