خيرالله خيرالله -
بعد شهر على الانتخابات الرئاسية والمحلية التي شهدتها اليمن لا بد من استخلاص بعض النتائج والعبر التي لا يمكن إلا أن تصب في مصلحة ما يمكن اعتباره تجربة مهمة في منطقة لا تعرف شيئاً عن الديموقراطية والتبادل السلمي للسلطة. قبل كل شيء، يمكن القول إن التجربة التي مرت فيها اليمن تشكل أساساً لنقلة نوعية على الصعيد الحضاري تؤكد أن العرب قادرون على ممارسة الديموقراطية على أعلى المستويات من دون أي نوع من العقد، وأنه ليس صحيحاً أنهم عاجزون عن ذلك، وأن ثقافتهم تتعارض مع الديموقراطية.
ما حصل في اليمن يؤكد أن المواطن العادي على استعداد للتجاوب مع كل ما له علاقة بالتجربة الديموقراطية. والدليل على ذلك المشاركة الكثيفة في الانتخابات واضطرار الرئيس علي عبدالله صالح إلى خوضها بكل ما أوتي من قدرات وطاقات. لو لم تكن الانتخابات في غاية الجدية لما كان الرئيس اليمني مضطراً إلى أن يكون متيقظاً طوال أربع وعشرين ساعة في اليوم ولما يزيد على شهرين، وأن يزور كل المحافظات اليمنية، مطالباً أبناء شعبه بالتصويت له بدلاً من التصويت لمنافسيه.
أوليس ذلك دليلاً على أن علي عبدالله كان مرشحاً من بين المرشحين، وأنه لم يكن متأكداً من فوزه لولا الجهود التي بذلها من أجل إقناع المواطن العادي في أي منطقة من المناطق، وفي أي قرية من القرى بالتصويت له؟ في كل الأحوال، لا بد الآن من البحث عما هو أبعد من تجربة الانتخابات في حد ذاتها، أي في ما يمكن أن يعتبر بعداً سياسياً للانتخابات التي أكدت أن موضوع الرئاسة في اليمن صار خاضعاً لإرادة الشعب، ولا أحد غير الشعب، وأن الشعب يقرر من سيكون رئيسه عبر صناديق الاقتراع بمشاركة الرجال والنساء، بمشاركة الغني والفقير والمتوسط الحال. الصوت صوت واحد.
كلّ مواطن يمثل صوتاً أياً تكن الصفة التي يمتلكها وأياً يكن موقعه الاجتماعي. هذا شيء جديد على صعيد المنطقة كلها. وهذا الجديد جاء من اليمن، وليس من أي مكان آخر في المنطقة، من اليمن الذي يعرف معنى أن الوحدة والديموقراطية توأمان، وأن البلد دخل مرحلة جديدة منذ استعادته وضعه الطبيعي في الثاني والعشرين من مايو ـ أيار عام 1990، تاريخ إعلان الوحدة. في فترة تمتد بين العامين 1990 و2006، لم يشهد اليمن سنوات طويلة من الاستقرار. ورغم ذلك، استطاع تعزيز الوحدة وتكريس الديموقراطية في ظروف أقل ما يمكن أن توصف به أنها صعبة ومعقدة.
ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن عمر الديموقراطية في اليمن ليس ستة عشر عاماً، بل إنه عدد قليل جداً من السنوات، خصوصاً في حال أخذنا في الاعتبار الفترة الانتقالية المليئة بالتجاذبات والمناورات. هذه الفترة تلت الوحدة مباشرة، واستمرت إلى ما بعد التصويت على الدستور الجديد، والانتخابات التشريعية الأولى عام 1993، والتي اضطر فيها الجميع إلى مسايرة الحزب الاشتراكي الذي كان حاكماً في الجنوب، والذي بدأ يفكر في كيفية التراجع عن الوحدة.
ولم تمض سنة على الانتخابات الأولى إلاّ وكانت حرب الانفصال التي عطّلت الحياة السياسية في البلد. لم يمنع ذلك من العودة مجدداً إلى الانتخابات التي أُجريت للمرة الثانية عام 1997، بما يشير إلى ألا عودة عن الديموقراطية رغم رهان الحزب الاشتراكي في مرحلة معينة على الانفصال. منذ ذلك التاريخ، تحوّلت الانتخابات قدراً، ولم يعد في استطاعة أي طرف من الأطراف تفاديها في حال كان يريد أن يجد لنفسه مكاناً في الساحة السياسية اليمنية. ولذلك، لم يجد الحزب الاشتراكي أمامه مفراً من العودة إلى المشاركة في الانتخابات بعدما قاطعها عام 1997. شارك في انتخابات عام 2003، وكانت انتخابات تشريعية، وشارك في الانتخابات الرئاسية الأخيرة متحالفاً مع حزب إسلامي كبير هو «التجمع اليمني للإصلاح»، الحزب الذي كان يعتبره عدوه اللدود.
هذه المرة أخذت اللعبة الديموقراطية مداها. وأخذ كل حزب أو تجمع سياسي حجمه الحقيقي. ولكن يبقى أن ما هو أهم من ذلك كله، أن الانتخابات الرئاسية والمحلية الأخيرة التي أجريت في العشرين من سبتمبر الماضي، كانت منعطفاً في الحياة السياسية اليمنية على غير صعيد. الآن وقد أُسدل الستار على التجاذبات التي شهدتها مرحلة ما قبل الانتخابات والانتخابات ذاتها، يتبيّن في ضوء النتائج المتوافرة، أي بلغة الأرقام التي لا يمكن الاعتراض عليها، أن هناك ثلاث خلاصات يمكن استنتاجها من العملية الانتخابية، وما أسفرت عنه.
الخلاصة الأولى، أن الانتخابات أنهت إلى الأبد فكرة أن هناك شمالاً وجنوباً في اليمن، ذلك أن علي عبدالله صالح أحرز في بعض مناطق الجنوب نتائج أفضل من تلك التي حققها في بعض مناطق الشمال. وحصل الأمر ذاته في الانتخابات المحلية مع المؤتمر الشعبي العام، وهو حزب الرئيس. وهذا يعني أن الوحدة تكرست نهائياً وأنه لا مجال للعودة إلى أي نوع كان من المهاترات السياسية. الخلاصة الثانية، أن الانتخابات بما حققته من نتائج، قضت على الفكرة القائلة إن حزب الإصلاح، وهو من دون شك حزب إسلامي كبير، يسيطر على الشارع والمسجد، وأنه ليس في الإمكان مواجهة خطابه السياسي، خصوصاً في المدن الكبيرة.
على العكس من ذلك، تبيّن أن اليمنيين قادرون على التفريق بين خطاب وخطاب آخر أكثر نضجاً، وأن وعيهم السياسي يتجاوز الشعارات المعلبة التي يصدقها السُذج من الذين ينساقون خلف الخطابات والشعارات التي تتمسح بالدين، كما في مناطق ودول أخرى في المنطقة. أثبت اليمنيون أنهم يختلفون عن الآخرين في المنطقة، وأنه ليس من السهل الضحك عليهم في أي شكل من الأشكال. والأهم من ذلك كله، أثبتوا أنهم يعون المخاطر التي تواجه بلدهم ومجتمعهم، وأنهم على غير استعداد للتفريط بسهولة بالقيم التي آمنوا بها، وفي مقدمها الوسطية والتسامح والابتعاد عن كل ما له علاقة بالتطرف.
أما الخلاصة الثالثة التي يمكن استنتاجها من نتائج الانتخابات، فإنها تتلخص بأن اليمنيين ليسوا على استعداد للوقوع في الأفخاخ التي تنصب لهم مهما بدا شكل هذه الأفخاخ جذاباً من الخارج. كان الهدف من ترشيح المعارضة المتمثلة بأحزاب «اللقاء المشترك» للسيّد فيصل بن شملان القول إن الجنوب جنوب والشمال شمال. ذلك أن بن شملان حضرمي ( من محافظة حضرموت) قريب من «الإصلاح» ومدعوم من «الاشتراكي» في الوقت ذاته.
ردّ اليمنيون على هذا الطرح بأن اليمن تجاوز هذا النوع من التقسيمات، وأن هناك حياة حزبية في كل أنحاء اليمن، وأن الحزب الأكبر وهو «المؤتمر الشعبي العام» موجود في كل منطقة وزاوية رغم أنه في حاجة إلى عملية إعادة تنظيم من الداخل تجعله أكثر فعالية. وما ينطبق على «المؤتمر الشعبي»، ينطبق على «الإصلاح» و«الاشتراكي» أيضاً. لم يعد في استطاعة أي حزب أن يكون حزباً مناطقياً أو فئوياً أو طائفياً في حال كان يريد التطلع إلى المستقبل. على كل حزب إثبات أنه موجود في كل اليمن وعلى كل المستويات إذا كان يريد إثبات وجوده.
متى جُمعت الخلاصات الثلاث التي يمكن استنتاجها من الانتخابات الرئاسية والمحلية الأخيرة في اليمن، والتي أظهرت أن الانتصار لم يكن انتصاراً لعلي عبدالله صالح، بمقدار ما أنه انتصار لنهج يقوم على فكرتي الاعتدال وتكريس الوحدة في ظل الرغبة في تطوير الحياة الديموقراطية، يمكن عندئذ الحديث عن انتصار حقيقي يتجاوز الأشخاص. إنه انتصار حقيقي بمعنى أن اليمن تجاوز الانقسامات الداخلية والمناطقية من جهة، واستطاع استيعاب التيارات المتطرفة إلى حد كبير من جهة أخرى.
ما قيمة السياسة إذا لم يكن الهدف النهائي التغلب على الصعوبات من أجل تمكين المواطن من الشعور بأنه قادر على لعب دور في تحديد من يريد أن يكون الحاكم في بلده على كل المستويات، أي من القرية التي يقيم فيها، إلى المحافظة التي تنتمي إليها القرية، إلى أعلى المراكز بما في ذلك رئاسة الجمهورية. ربما كان أفضل ما قيل عن الانتخابات الرئاسية والمحلية الأخيرة في اليمن العنوان الذي تصدّر التقرير الأولي لبعثة الاتحاد الأوروبي التي راقبت الانتخابات. وقد ضمت البعثة مئة وتسعة عشر عضواً غطوا مراكز اقتراع في سبع عشرة من أصل إحدى وعشرين محافظة يمنية.
جاء في العنوان الذي توّج التقرير الآتي: «الانتخابات المنفتحة وذات التنافس الحقيقي تعطي فرصة حقيقية لمعالجة أي جوانب قصور متبقية في العملية الديموقراطية في اليمن». لا يمكن الحديث بعد عن ديموقراطية كاملة في اليمن. ولكن يمكن الحديث عن تجربة تضع الأسس لعملية تفرض على كل من يريد أن يرشح نفسه لأي منصب عام، وحتى للرئاسة أن يظهر أنه الأفضل، وأن لديه ما يقدمه لمواطنيه، وأن يسمح لهم بالتطلع إلى مستقبل أفضل لهم ولأبنائهم.
الرأي العام الكويتية