نصر طه مصطفى -
قليل هم الرجال الذين يتركون بصمات بارزة بعد رحيلهم، ومثل هذا الأمر إن حدث فإنما هو بالضرورة استمرار للبصمات التي صنعوها خلال حياتهم، ولا يترك مثل هذه البصمات في حياته وبعد مماته إلا رجال ذوو إرادة قوية وشخصية متميزة وعطاء بلا حدود.. وهذا كله متحقق بلاشك في شخص فقيدنا الراحل الأستاذ أحمد جابر عفيف -رحمه الله- الذي كان رمزا من رموز التنوير في هذا البلد منذ وقت مبكر تماما مثلما كان صاحب رؤية لم تتزعزع ولم تهتز طوال حياته بأن العلم والثقافة هما طريقنا نحو الخروج من ربقة التخلف التي كانت سمة حياتنا لقرون طويلة، ناهيك عن قناعته الراسخة حول الدور المحوري للقات في تكريس التخلف والسلوكيات البغيضة في حياتنا وهي قناعة لم تتأثر في كل المراحل ولم يستطع أحد أن يغيرها ولاشك أنه كان على كامل الحق فيها.
رحل الأستاذ أحمد جابر عفيف بعد عمر زاخر بالعطاء لم يتوقف خلاله لحظة واحدة حتى أقعدته آلام المرض في العامين الأخيرين، فالرجل كان بحق مثل الغيث أينما وقع نفع لا يعرف الكلل ولا الملل لأنه مؤمن بقضيته إيمانا عميقا وهذا ما أعطى شخصيته صلابة وقوة لم تتأثر في كل العهود، ولذلك يمكن اعتباره واحداً من أهم الشخصيات التي أثرت الحياة السياسية والثقافية المعاصرة في اليمن واستطاعت مواجهة كل العواصف والصعوبات بإرادة لا تلين وثقة بالنفس لا تهتز.
لقد تشرفت بمعرفته عن قرب ليس فقط بسبب صداقته الحميمة الممتدة بوالدي -رحمه الله- بل لأنه كان يهتم بالشباب المتطلع للمعرفة وهذا الأمر كان كفيلاً بخلق علاقة وثيقة بيني وبينه كذلك لم تنقطع حتى أيامه الأخيرة.. وبحسب علمي فهو كان من الشخصيات اليمنية المعدودة التي حظيت بإعجاب فئات واسعة رغم خلافها معه في الاتجاهات السياسية، فليبراليته المعتدلة وبرنامجه اليومي الدقيق جعلا منه شخصية تحظى بإعجاب وتقدير حتى من اختلفوا معه فما بالك بمن كانوا يشاطرونه رؤاه وأحلامه في يمن متحضر بلا قات.. يمن يسوده الوئام والاستقرار.. يمن تنتشر فيه المعرفة وتندثر فيه الأمية.. وسيسجل له التاريخ المعاصر أن أولى لبنات التعليم الحديث في الشطر الشمالي من اليمن حينها تأسست على يديه وأن جامعة صنعاء شهدت النور بجهوده الحثيثة وأن أول قانون للتعليم صدر عندما كان وزيرا للتربية والتعليم.
ولأن من يحب خدمة وطنه يعطي أينما ذهب فإن أحمد جابر عفيف سجل نجاحاً فائقاً عندما تولى رئاسة مجلس إدارة بنك التسليف للإسكان أوائل ثمانينات القرن الماضي، وهو نجاح لم يتكرر عند كل من جاءوا بعده في هذا الموقع.. فبجهوده تأسست أول مدينة سكنية في حي حده بالعاصمة صنعاء أنشأتها الدولة لموظفيها الشباب الذين كانوا يشكلون حينذاك لب الطبقة المتوسطة واستفادت منها آلاف الأسر ولازالت هذه المدينة السكنية حتى اليوم أجمل وأكثر أحياء العاصمة حيوية وألفة ورونقا بل وربما أفضلها من الناحية الخدمية.
وعندما ترك الراحل العفيف هذا البنك تفرغ لمشروعه الخاص الذي لم يسبق لأحد قبله ولم يفعلها أحد بعده عندما قام بإنشاء مؤسسة العفيف الثقافية، فالرجل لم يكن تاجرا ولا صاحب شركات ومع ذلك فقد أنشأ من أمواله الخاصة هذه المؤسسة وجعل لها وقفية بعد أن أبرأ ذمته ووزع تركته حياً بين زوجته الفاضلة وأولاده وأعطاهم أنصبتهم الشرعية في حياته ليتمكن من التفرغ لبناء مؤسسته الثقافية التي ستخلد اسمه والتي صمدت منذ أكثر من عشرين عاماً في وجه كل الصعوبات والتحديات واستطاعت أن تقوم بدور يوازي دور أي وزارة للثقافة.. إن مثل هذا العمل يندر أن يقوم به اليوم إلا من كان يحمل إيماناً عميقاً بأهمية الثقافة والعلم والمعرفة في الارتقاء بالشعوب حضارياً، وهذا ما كان عليه الفقيد الراحل الأستاذ أحمد جابر عفيف -رحمه الله- الذي سنفتقده اليوم كثيراً وسنفتقد صلابته وصرامته وإرادته القوية في مواجهة كل أسباب وعوامل التخلف والشقاق في حياتنا.