الأحد, 12-نوفمبر-2006
ترجمة: د. عبدالوهاب حميد رشيد -
ردود فعل الرأي العام في الولايات المتحدة وأوربا لحكم التجريم الصادر يوم الأحد بحق الرئيس العراقي السابق، نقلت المحاكمة ومحصلتها عقوبة الإعدام باتجاه التركيز على النواقص والعيوب التي شابتها من منظور تقني قانوني. وكشفت أن محاكمة بغداد ليست سوى مجرد صورة لمأساة محاكمة مسرحية سبق إعدادها من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا في سياق جهودهما الفاشلة لبناء احتلالهم في العراق، ومحاولة تقديم الوضع الحالي في العراق كنظام جديد للبلاد.
تمت هندسة هذه المحاكمة بغية شراء أو كسب ود قادة الولايات المتحدة وبريطانيا لبعض الوقت، بالإضافة إلى حكام العراق الجدد من أجل البقاء السياسي. لكن المحاكمة لم تتطلب وقتاً لتؤكد حصيلتها المعاكسة لما خطط لها. وليس هناك مجال لأن تُشكل هذه المحاكمة المهزلة نقطة تحول أو معلما ًلحدث هام أو نهاية عهد ماض، كما زعم بوش وعامله رئيس حكومة الاحتلال في العراق من خلال تصريحاتهما المبتسرة مؤخراً.
شكّل الانتصار الساحق للديمقراطيين في الانتخابات البرلمانية النصفية في الولايات المتحدة آخر برهان على أن أسلوب التحايل التي مارستها الإدارة الأمريكية في الإعداد المسرحي لمحاكمات الرئيس العراقي كانت فاشلة ومفضوحة، حوّلت الخطة المُعدة سلفاً لإصدار حكم التجريم إلى حكم شعبي ضد بوش نفسه في استفتاء على أدائه في حرب العراق، وكسرت قبضته على السلطة التشريعية التي استمرت ست سنوات.
وفي حين انتقد الرأي العام المحاكمة لأسباب تتعلق بالعيوب والنواقص القانونية فإن رد الفعل الرسمي الأوربي والاسترالي والروسي اقتصر على نقد عقوبة الإعدام وشيئاً من التحذيرات للآثار المحتملة لهذا الحكم على الوضع العراقي الداخلي. بينما جاءت انتقادات الرأي العام المعارض من العراقيين والعرب بأن: المحاكمة المهزلة خُططت من قبل قوة احتلال بهدف تغيير نظام بواسطة قوة غازية أجنبية خارج نطاق القانون الدولي وتتطلب أولوية الإدانة كمسألة مبدئية.
خبراء أمريكيون وأوربيون ووسائل الإعلام الرئيسة مثل: نهال بوتا- منظمة مراقبة حقوق الإنسان HRW، مالكولم سمارت- مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، سونيا سيتس- برنامج القانون الدولي في Chatham House، منظمة العفو الدولية، نيويورك تايمز والتايمز اللندنية، أدانوا جميعاً أو انتقدوا المحاكمة باعتبارها: "عملية دنيئة".. "عرض مخزٍ" لمحاكمة ملفقة لمقاصد سياسية.. "سيرك".. مُعيبة جدا وظالمة".. "جسّدت التدخل السياسي وشوهت استقلال وحيادية المحكمة".. "حرّم العراق حقه لنيل العدل والإنصاف."
إن هذه المحاكمات المقررة حصيلتها سلفاً هي محاولة فاشلة لتحميل النتيجة لا على الرئيس السابق، فحسب، بل فاشلة كذلك في المراهنة على الوضع العراقي أيضاً الذي استمر في هجماته القاتلة ضد الاحتلال منذ الغزو الأمريكي للبلاد عام 2003.
تصريح رئيس حكومة الاحتلال في بغداد "إن عهد صدام حسين أصبح من الماضي" كان مبتسراً ومتهوراً ويمكن أن يُكلف العراق وحدته وسيادته ومئات آلاف أخرى من حياة العراقيين قبل أن يصبح هذا الكلام حقيقة واقعة على أرضية الساحة السياسية العراقية.
إن حقيقة فرض منع التجوال على بغداد وثلاث محافظات أخرى بينها أكبر محافظات العراق- الأنبار- وغلق مطار بغداد الدولي، ووضع كافة القوات الأمريكية والعراقية وأجهزة الأمن في حالة الإنذار القصوى، وإلغاء كافة الإجازات العسكرية يوم إصدار الحكم، تُقدم شهادة معاكسة للتصريح المذكور. ذلك أن كل هذه الإجراءات الوقائية لا تُشير بأي حال إلى أن الرئيس العراقي السابق أصبح جزءاً من الماضي.
كما أن صدور قرار حكومة الاحتلال بالتراجع عن التشريع الذي رعاه وأصدره الحاكم المدني الأمريكي في العراق (قانون اجتثاث البعث) بإعادة الاعتبار لعشرات الآلاف من عناصر البعث عدا 1500 من قياداته العليا، هو برهان آخر على أن الرئيس العراقي وحزبه لا زالوا قوة يحُسب لها حساب..
+ المحكمة صناعة أمريكية
بالطبع غابت العدالة عن المحاكمة، وبرهنت أنها أسوأ شكل لظلم الغزاة. لقد كان وراء محاولة الاغتيال رئيس حكومة الاحتلال وحزبه- الدعوة. فشلوا في اغتياله أثناء الحرب عندما كان رئيساً دستورياً للبلاد، والحقيقة أن بوش- قائد الاحتلال- هو من حاكم القائد الشرعي للبلد المحتل.
تبرهن كافة الأدلّة على أن محاكمة الرئيس العراقي السابق صناعة أمريكية في كافة جوانبها عدا إدارة الجلسات/ الإجراءات باللغة العربية بدلاً من اللغة الانكليزية، حيث كان الخيار القانوني الوحيد لإيصال الرسالة الأمريكية للعراقيين بلغتهم، وتحويل المحكمة والمحاكمة إلى صورة دعائية إعلامية أمريكية من خلال "صوت أمريكا" وقناة فضائية "الحرة."
بعد إنشاء "مجلس الحكم العراقي" من قبل المحتل الأمريكي بعد الغزو/ الاحتلال مباشرة، فقد أقاموا "محكمة الجرائم العليا العراقية" وفق أمر الحاكم المدني الأمريكي في العراق بتاريخ 13 ديسمبر/ ك1 2003 وقبل ثلاثة أيام من أسر الرئيس العراقي السابق.
"إن هذه العملية من بدايتها إلى نهايتها بقيت تحت رقابة لصيقة من قبل الولايات المتحدة،" حسب سكوت هورتن- رئيس لجنة القانون الدولي لرابطة المحامين في مدينة نيويورك لـ IPS. "تم تمويل العملية برمتها بمبلغ 138 مليون دولار منحة من الكونغرس وعدد كبير من الموظفين العاملين لحساب السفارة الأمريكية ببغداد تحت تسمية- وحدة جريمة الأنظمة."
أضاف هورتن أن لواشنطن سيطرة قوية على جدول المحكمة "الدخول إلى قاعة المحكمة تحت سيطرة الأمريكان، الأمن تحت سيطرة الأمريكان، أماكن حجز المدعى عليهم وجلبهم لحضور المحاكمة تحت سيطرة الأمريكان. وهكذا سواء تحدد موعد انعقاد الجلسة في هذا التاريخ أو ذاك فإنه لن يتم قبل موافقة الأمريكان أولاً."
اختارت الولايات المتحدة وبريطانيا القضاة وأرسلوهم إلى لندن لتدريبهم وتمرينهم وبمشاركة إيطالية وهولندية. وإذا ظهرت على أحدهم أية علامة من علامات الحياد، عندئذ كان مصيره الطرد. وبعد ذلك خُطف وأُعدم ثلاثة محامين للدفاع وشاهد أثناء مهزلة المحاكمة التي أُجريت في عمق المنطقة الخضراء ببغداد خلف حواجز ضد الرصاص وحراس مسلّحين.**
+ سلطة الأخلاق
لم تقتصر المحاكمة على عيوب ونواقص قانونية، فحسب، بل وعانت من عورات أخلاقية. "لن تستطيع حتى الادعاء بالترفع الأخلاقي،" كتب روبرت فسك، إذا اعتبرت أخطاء الرئيس العراقي السابق "المقياس ضد كل أشكال الجور والظلم، حيث مارسناها، فماذا يُقال عنا؟ لقد انتهكنا العدالة لشخص غزونا ودمّرنا وقطعنا بلده إرباً."
العراق غارق حالياً بأعداد ضخمة من القتلة. يمارسون الاغتصاب، الخطف، المجازر، قطع الأعناق، التعذيب.. منذ بداية "تحريرنا" للبلاد. يعمل الكثيرون من هؤلاء القتلة لدى حكومة الاحتلال في العراق ممن نؤيدهم حالياً، انتخبوا "ديمقراطياً" بالطبع. مجرمو الحرب هؤلاء يحصلون في بعض الحالات على أجورهم من الولايات المتحدة ومن خلال وزراء نحن نصبناهم في ظل هذه الحكومة "الديمقراطية". وإنهم لن يُقدموا للمحاكمة أبداً أو يُشنقوا. تلك هي مهزلتنا وعارنا. هل اجتمع العدل والنفاق على الفحشاء أبداً؟***
شكّل غزو العراق عام 2003 جريمة حرب. وبعد ثلاث سنوات ونصف السنة من الاحتلال، تتحمل الولايات المتحدة مسؤولية قتل 655 ألف مدني عراقي، حسب تقديرات جون هوبكنز الجامعية. وخلال الفترة 1991- 2003 فرضت الأمم المتحدة، وبضغط من الولايات المتحدة، المقاطعة على البلاد وأدت إلى قتل مليون عراقي بسبب سوء التغذية والمرض.
بالإشارة إلى تصريح بوش أن المحاكمة كانت "نقطة تحول في تاريخ العراق (و) مرحلة تاريخية هامة لجهود الشعب العراقي تبديل نظام حكم دكتاتوري بنظام قانوني،" فقد وصفتها النيويورك تايمز بـ "رد فعل مبالغ فيه،" وسمّاها مالكوم سمارت "فرصة ضائعة" وقال "كان يمكن أن تكون مساهمة كبيرة باتجاه بناء العدل وحكم القانون في العراق."
لكنها لم تكن كذلك! والأسوأ أن آثار هذه "الفرصة الضائعة" يمكن أن تخلق المزيد من المعوقات للانتقال من نظام القائد- الحزب الواحد إلى النموذج الغربي الليبرالي المتعدد الأحزاب، لأن الحكم إذا ما نُفذ سيقود إلى إخفاق جهود المصالحة ويُفاقم التشتت/ التجزئة داخل العراق إلى نقطة ألا رجعة عن الحرب الأهلية الشاملة.
إن الحكم على قائد نظام الحزب الواحد في ظروف تراكم الأحقاد والثارات بالانتقام من وجهة نظر "ليبرالية" لأعدائه وأعداء نظامه لا يمكن أن يقود إلى حصيلة عادلة، ولا يمكن الحكم عليه بعيداً عن الصراع الذي كان دائراً بين ما يرمز إليه وبين نقضيه من أعدائه.
+ التقسيم الفعلي
على أي حال، من المبكر جداً الحديث عن قصة الرئيس العراقي السابق، لأنه حياً كان أو ميتاً، يرمز إلى حركة مستمرة لا زالت حية، وصراع قاس مستمر بين المحتلين وبين البلد المحتل، بين منظور حكم خلقه المحتل في العراق وبين منظور عربي يمثله الرئيس السابق وقبله جمال عبدالناصر في مصر، رغم أخطائهما في سياق الأسلوب والنظام.
اشترت الولايات المتحدة سكوت العرب الرسمي لاستهداف العراق مرتين الأولى عام 1991 والثانية عام 2003 مقابل وعد بانسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة عام 1967 ووفق مشروع الأرض مقابل السلام. ولكن الأنظمة العربية وقعت في الاحتيال مرتين وبالتالي ضحّت بالعراق من أجل لا شيء. من هنا ففي هذه الدول بخاصة: فلسطين، الأردن، لبنان ومصر فإن أية دعوة للاحتفال بسقوط الرئيس العراقي السابق ستواجه آذاناً صمّاء و/ أو ردود فعل معاكسة. بينما على المستوى الرسمي فهذه قصة أخرى..
أما حالة الابتهاج التي عمّت إيران والكويت فهي مفهومة جداً، ولكن عليهم أن لا يحجبوا حقيقة أن موقفهم هو تعبير عن حالة العزاء في ظروف معاناتهم من كم متراكم من الأحقاد والثارات. ولا يمكن تفسير هذا الموقف بأي شكل على أنهم سوف لن يعودوا إلى حالتهم الطبيعية عاجلاً أم آجلاً ليضعوا الرئيس العراقي في محيطه التاريخي المناسب.
صحيح أن الآلاف من أنصارهم قتلوا من قبل رئيس النظام السابق، لكنهم قُتلوا في معارك عندما كانوا يُقاتلون "الدكتاتورية" وقت الحرب ضد إيران في الشمال وضد الولايات المتحدة عام 1991 في الجنوب. أما "المقابر الجماعية" فهي تتضمن جثثاً متراصة مختلفة جنباً إلى جنب لآلاف البعثيين والصداميين ومراتب الجيش العراقي ذُبحوا بدم بارد. وأن المقابر الجماعية الحالية في سياق الممارسات لعناصر الحكام الجدد ستكتشف في المستقبل وعندئذ يقعون تحت الإدانة كما هو حال الرئيس العراقي السابق إن لم يكن أكثر في أية قراءة موضوعية للتاريخ.
ربما هناك شكاوى أكثر ضد حكم الرئيس العراقي السابق، ولكن- على خلاف الحكام الجدد المنغمسين في الصراعات الطائفية والاثنية- لن يدعو أو يساند غزواً أجنبياً لإسقاطهم وإعادة بناء نظامه، ولن يتردد لحظة واحدة أن يتعاون ويشارك وطنيين آخرين من عرب ومسلمين معارضين له وبغض النظر عن الطائفة أو اللغة للعمل جميعاً لبناء قوة مشتركة موحدة ضد من احتل بلادهم.
إن المسألة التي في الميزان حالياً هي الاحتلال الأجنبي الذي دمّر الدولة العراقية وليست الدكتاتورية أو الديمقراطية للنظام العراقي. كل ما فعله الرئيس العراقي السابق سوف يُحكم عليها عندما يقفون وجها لوجه ضد الاحتلال.
تمت طباعة الخبر في: الأحد, 24-نوفمبر-2024 الساعة: 05:09 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-1443.htm