الخميس, 18-مارس-2010
الميثاق نت -    أحمد الحبيشي -
تدوين اللعبة العمياء لملوك وأحبار بني اسرائيل
لليمن .. لا لعلي عبدالله صالح (33)

لا يمكن فهم الجذور الإسرائيلية في المعتقدات المذهبية الوضعية التي سادت التاريخ المسيحي والإسلامي بدون التعرف على مسار تطور الأفكار والمعتقدات الإسرائيلية بما في ذلك المؤثرات الخارجية، للفكر الوثني السابق لظهور الديانة اليهودية، خصوصًا بعد انتقال بني إسرائيل من حياة البداوة والخيام في الجزيرة العربية إلى حياة الاستقرار بعد نزوحهم وانشغالهم بالزراعة والصناعات الحرفية التي تدخل في صناعة السيوف والأسلحة والنقوش الفضية والآلات الزراعية والأواني الفخارية والمعابد. وبعد ظهور الديانة اليهودية تعرضت أحكامها ومعتقداتها الأساسية لضغوط عديدة بفعل الرواسب الموروثة عن الحقبة الوثنية والعقائد الفرعونية والمصالح المتناقضة في أرض الواقع، حيث اتجه الأحبار بتأثير مصالحهم والعقائد الموروثة إلى تأليه ملوك بني إسرائيل. كما أضفى بعض الأحبار على أنفسهم صفات النبوءة، وصولا إلى تحول بعض الأنبياء إلى ملوك، حيث تكرست تاريخيا ظاهرة التوحد بين الملكية والدين والتي أفرزت بدورها عقيدة تجسيم صفات الله والتي يتماهى فيها الملك مع صفات الله.
وبتأثير كل ذلك تعرضت العقيدة اليهودية للانحراف أولا ً ، ثم التحريف ثانيـا، حيث كان العقل اليهودي مطالبا باستيعاب الممارسات الظالمة والمستبدة والفاسدة لملوك بني إسرائيل في صميم العقيدة اليهودية، حتى لا يبدو ثمة تناقض بين التوراة وشرائع موسى المستوحاة من الله، وبين انحرافات ملوك بني إسرائيل الذين افسدوا القرى التي دخلوها، وجعلوا أعزة أهلها أذلة بحسب ما جاء في القرآن الكريم وكتب التاريخ، بما فيها الأسفار التي وضعها احباراليهود ، ونسبوها الى النبي موسى وبضمنها سفر الملوك .
ولا يتسع الحيز لإبراز القصص التي وردت في سفر صموئيل الثاني وسفر الملوك عن مظالم واستبداد وفسوق وفساد وقسوة ملوك بني إسرائيل ، والذي انعكس على سلوك غالبية الأحبار اليهود الذين اتجهوا الى التأسي بملوكهم سواء من خلال التطبع بالقسوة ( ثم قست قلوبهم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) (البقرة – 74).. أو النزوع إلى التحريف والافتراء على الله (من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا وأسمع غير مسمع وراعنا ليـا ًبألسنتهم وطعنا ًفي الدين، ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا وأسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم، ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا) ( النساء 46 ).
تناول كتاب (GOD AND MAN IN OLD ISRAEL) (الله والإنسان في إسرائيل القديمة)، الذي قام بتأليفه عدد من المفكرين اليهود جوانب واسعة من تاريخ الأحبار اليهود الأوائل الذين وصفوا أصول الاختلافات بين المذاهب الدينية اليهودية، في سياق دور أولئك الأحبار في تسخير العقيدة لمصالح ملوك بني إسرائيل، وهو ما دفع مؤلفو هذا الكتاب إلى إطلاق صفة أحبار الملوك على رجال الدين اليهودي الأوائل، ولعلها الصفة التي تعود إليها ظاهرة فقهاء السلاطين في التاريخ الإسلامي.
ويرى مؤلفو هذا الكتاب أن النبي موسى ظهر بين بني إسرائيل وهم يعيشون غرباء، مضطهدين في المجتمع المصري تحت حكم الفراعنة، فقادهم موسى وخرج بهم من مصر وكان لهم قائدا ومشرعا وإمامـا . وترجع إلى نبوءته المستوحاة من الله ما عرف لبني إسرائيل في الديانة اليهودية من ألواح، وقبل أن تظهر كتب وأسفار التوراة بعد وفاة النبي موسى، حيث دعاهم موسى إلى التوحيد، وهي عقيدة ظهرت في العالم قبل ذلك على يد الملك أخناتون في مصر التي أمضى موسى طفولته وصباه وشبابه في ربوعها متأثرا بعقيدة التوحيد الفرعونية التي كانت تؤمن بوحدانية الله وبالبعث بعد الموت بين يدي الله.
وإذ يلخص هذا الكتاب كثيرا من مظاهر الإساءة إلى شخص النبي موسى وسيرته المطهرة على أيدي أحبار الملوك الذين كرسوا دورهم الكهنوتي لتوظيف العقيدة الدينية في خدمة الملوك، فإننا نكتفي بإيراد هذه الواقعة التي يذكرها أحد أسفار التوراة وهو سفر الملوك الذي جاء فيه أن موسى سمح لملوك بني إسرائيل بسرقة أموال الناس، وأوصى الناس بالصبر على ما يأخذه الملوك من أمتعة وذهب وفضة وأراضي، لأن ذلك يتم بمشيئة الرب وعلمه.!!
وفي كتابه الرائع (تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم) (الجزء 11) علق المؤرخ والمفكر الاسلامي محمد عزت دروزة على هذا النص بقوله إن فكرة استحلال أموال الناس وسلبها بأية وسيلة ولو لم تكن حالة حرب ودفاع عن النفس كان له تأثير سلبي ليس فقط على العقيدة الدينية التي تعرضت للتحريف، بل على مصير بني إسرائيل وملوكهم أيضـًا . لكن الأستاذ دروزة لم يشر إلى تسلل هذه المعقتدات اليهودية إلى الفقه الإسلامي عندما اخترع فقهاء الاستبداد أحاديث موضوعة ونسبوها إلى النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وزعموا فيها أن رسولنا الكريم دعا المسلمين إلى طاعة ملوكهم وأمرائهم ،والصبر عليهم حتى ولو جلدوا ظهورهم ونهبوا أموالهم .
من نافل القول إن الإسلام لا يعترف بالأسفار الملحقة بالتوراة، لأنها ليست من الكتب المقدسة (الله لا إله إلا هو الحي القيوم أنزل عليك الكتاب بالحق مصدقـًا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس) (آل عمران 2 – 3)، (ومن قبله كتاب موسى ) (آل عمران – 17)، وبالإضافة الى ذلك فإن الله لا يعترف بما نسبه الأحبار إلى النبي موسى عليه السلام في تلك الكتب التي زعموا أنها الوحي الثاني. وبالنظر إلى أن كتاب موسى المذكور في القرآن والموحى إليه من الله، يختلف عن كتب الروايات والأحاديث الشفاهية التي نسبها الأحبار إلى موسى في أسفار التكوين والملوك والقضاة ويوشع، وزعموا أنها الوحي الثاني، تبرز تساؤلات مشروعة عن مصيرة التوراة التي أوحى بها الله لموسى عليه السلام. لكن الإجابة على هذه التساؤلات لا يمكن فصلها عن قول الله في القرآن الكريم بأن اليهود أهملوا بعضـا من التوراة فأصابه الضياع، بينما حرفوا البعض الآخر على نحو ما أراده ملوك بني إسرائيل وأحبارهم ( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظـَّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) (سورة المائدة – الآية 13).
إلى ذلك تقول كتب التاريخ اليهودية أن النبي موسى عليه السلام كتب نسخة التوراة ووضعها مع لوحين حجريين في تابوت بحسب ما أورده الأحبار الذين كتبوا (سفر الخروج). ثم جاء عهد الملك سليمان وفتح التابوت بعد أن وضعه في الهيكل، لكن اليهود فوجئوا بعدم وجود نسخة "التوراة"، بينما وجدوا فقط اللوحين الحجريين. وكان عهد الملك سليمان قد شهد أحداثـا مثيرة ليس أقلها انتشار الاستبداد وحروب التوسع وما رافقها من نهب وسلب على نحو ما حدث عند غزو بيت المقدس، بل أنها وصلت إلى الردة والعودة الى عبادة الأوثان وعبادة آلهة الأقوام والشعوب المجاورة. وبعد وفاة الملك سليمان ووصول الملك يوشيا إلى الحكم (629 – 598 ق. م) لم يخف الملك الجديد ميوله للتدين والعودة إلى الإيمان وإتباع تعاليم التوراة بهدف إنقاذ مملكته من الفوضى والدمار. بيد أنه اعتمد على مجموعة من رجال الدين الكهنوتيين وعلى رأسهم الكاهن حلقيـا الذي أدعى بعد سبعة عشر عامـا من وصول الملك يوشيا إلى الحكم أنه وجد نسخة التوراة في بيت المقدس.
وبحسب كتاب (إظهار الحق) للعلامة رحمة الله الهندي (ص 323 – 335) لا يعقل أن توجد نسخة التوراة في بيت المقدس ولا يراها أحد سواء قبل وصول الملك يوشيا إلى الحكم، أوخلال السبعة عشر عامـا الأولى من حكمه . لكن الهدف الحقيقي من وراء هذه القصة يكمن في لجوء الكهنة ورجال الدين في عهد الملك يوشيا إلى استغلال ميول الملك في العودة إلى الدين ، والشروع في وضع واختراع الأحاديث والروايات المنسوبة إلى النبي موسى عليه السلام، وصولاً إلى الإدعاء بأنها تشكل الوحي الثاني ، بعد أن قاموا بتدوينها في أسفار التوراة، على نحو ما تناولناه في حلقة سابقة أوضحنا فيها انحراف معتقدات أتباع اليهودية الأوائل، وتنكرهم للتوراة، لأنها تختلف عن ممارساتهم وطبائعهم ، فأضافوا إليها الأحاديث والراويات الشفوية من خلال أسفار التوراة، بما يتناسب مع ما يرونه متوائمـا مع مصالحهم من تاريخ وعقيدة حيث انطبق عليهم القول الحق : { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (سورة الجمعة الآية 5).
تأسيسـًا على التاريخ اليهودي بكل تناقضاته وشبهاته ظهرت مذاهب وضعية تختلف في مبادئها وطقوسها ونظرتها إلى الكون وما وراء الكون، وأهمها الفريسيون الذين يعتقدون في مذهبهم بأن أسفار التوراة الخمسة خُلقت منذ الأزل، وكانت مدونة على ألواح مقدسة ثم أوحى بها إلى موسى. وبموجب هذا المذهب ـــ الذي تسلل إلى المسيحية ومنها إلى بعض الفرق الإسلامية مثل المعتزلة ـــ يرى الفريسيون بأن تدوين (الوحيين) (التوراة والأسفار) هو في الحقيقة إعادة تدوين للوحيين بعد ضياع التوراة، وهو الأمر الذي مهد الطريق لظهور (التلمود) بوصفه الكتاب الجامع للسنة النبوية لموسى عليه السلام بحسب زعم التلموديين.
ويرى الفريسيون أن التوراة ليست هي كل الوحي، بل هناك بجانب التوراة وحي ثان هو الروايات الشفوية التي تناقلها الأصفياء والأحبار، وعلى أساسها صاغ الحاخامات الأسلاف مجموعة من القواعد والوصايا والشروح والتفاسير التي تدخل ضمن الشرائع الدنيوية باعتبارها التوراة الشفوية الموحى بها أيضـا من الله بحسب مزاعم (التلمود).
إلى جانب مذهب الفريسيين ظهر أيضـا مذهب آخر عرف أتباعه بالصدوقيين نسبة إلى الكاهن صادق الأعظم أحد كهنة الملك سليمان. وينكر الصدوقيون في مذهبهم التعاليم الشفوية (التلمود) وأسفار التوراة، ولا يرون أنها مقدسة مطلقـا، ولا يقولون بالقضاء والقدر، ويؤمنون بحرية الاختيار ويرون بأن الأفعال مخلوقة للإنسان لا لله ، وينكرون كذلك المسيح المنتظر الذي بشرت به الأسفار. ثم ظهر مذهب ثالث هو القراءون وكانوا يمثلون قلة بين اليهود، لكن نفوذهم اتسع بعد تدهور شأن الفريسيين، حيث كان كل مذهب يقوى وينتشر تبعـًا لموقف الملك منه، فإذا تبنى ملك ما من بني إسرائيل أحد المذاهب، زاد نفوذ أتباعه ولحق الاضطهاد والضعف بأتباع المذهب الذي كان يؤمن به الملك السابق.
أما المذهب الأساسي الرابع في اليهودية فهو مذهب (المتعصبين) وقد كانوا بحسب ما تقوله كتب التاريخ قريبين جدا إلى مذهب الفريسيين من حيث الاعتقاد بالمسيح المنتظر، والإكثار من التعبد والمبالغة في طقوس العبادة، لكن هذا المذهب تميز بالعدوانية وعدم التسامح والإفراط في التكفير. وترتب على هذا المذهب قيام أتباعه بخلق الفوضى والاضطرابات والملاحقات لمخالفيهم في أي منطقة يتبنى ملوكها وأمراؤها عقيدتهم . ولذلك يرى كثير من الباحثين في تاريخ اليهودية أن هذا المذهب بدأ كحركة دينية لمحاربة ما يراه أتباعه بدعا وخروجـا على تعاليم الرب، ولكن تشددهم قادهم إلى ارتكاب جرائم بحق المخالفين نقلتهم من دائرة الدين إلى الدنيا.
ولئن كانت المذاهب السابقة تختلف في كثير من المعتقدات والتصورات بما فيها الموقف من التلمود، إلا أن أتباع التلمود بحد ذاته نجحوا لاحقـا في تأميم كافة المذاهب اليهودية الملكية على نحو ما فعله محمد بن عبدالوهاب وأتباعه في تأميم وتجويف كافة المذاهب السنية، وكذا ما فعله أتباع فكرة ولاية الفقيه في تجويف وتأميم مختلف الفرق والمذاهب الشيعية ، حتى تم اختزال الاختلافات بين المذاهب الشيعية والمذاهب السنية في دائرتين فقط يمثلها الفكر الملكي الوهابي القائم على فكرة وجوب طاعة الملك بما هو ولي الأمر، والفكر الإمامي الاثنا عشري القائم على فكرة وجوب طاعة الولي الفقيه بما هو ممثل الامام الوصي الغائب على نحو ما سنأتي اليه لاحقا ً .
وبحسب الدكتور أحمد شلبي (أستاذ التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية) بجامعة القاهرة في كتابه (اليهودية) فإن أكثر اليهود يعتبرون التلمود كتابـا منزلا من السماء بواسطة ما يسمونه الوحي الثاني ويضعونه في منزلة التوراة، ويرون أن الله أعطى موسى التوراة على طور سيناء مدونة، لكنه أعطاه مثلها شفاهة وهو التلمود. ويرى بعضهم أن لا خلاص لمن ترك تعاليم التلمود واشتغل بالتوراة فقط، لأن أقوال علماء التلمود غالبة على ما جاء في شريعة موسى وشرائع أنبياء العهد القديم التي ورثها عنهم هؤلاء (العلماء).. بل أنهم يقولون إن التلمود وأن كان في مجمله روايات شفاهية تداولها الأصفياء وقام بتدوينها الأحبار والحاخامات فهي أيضـا جزء لا يتجزأ من التوراة، لأن أقوال الأصفياء والأحبار منقولة عن وحي الله الشفاهي للنبي موسى، وأن الله إئتمن الأحبار والحاخامات على شريعته في الأرض، وإذا خالف أحد من اليهود أقوال الحاخامات يُعاقب أشد العقاب . لأن الذي يخالف شريعة موسى فإن خطيئته قد تصغر، أما من يخالف التلمود فيعاقب بالقتل، لأنه ينكر الوحي الشفاهي على نحو ما جاء في كتاب (الكنز المرصود في قواعد التلمود – 29 – 30)، الذي أعده مؤرخان فرنسيان يهوديان مشهوران وهما روهلنج وشيل لوران، وترجمه الى العربية الدكتور يوسف نصر الله، وهومن كبار المسيحيين في مصر، فيما راجع الكتاب الشيخ مصطفى بن أحمد الزرقا – رحمه الله.
أما أهم ما احتواه التلمود من عقائد تركت آثارها على التاريخ اليهودي والمسيحي والإسلامي لاحقـا ، فهي عقيدة تجسيم صفات الله في ملوك بني إسرائيل. وانطلاقـا من هذه العقيدة، يرى التلمود أن اليهودي بما هو إنسان يحمل صفات الله الذي خلقه على مثاله، فإذا ضرب أمي إسرائيليـا فكأنه ضرب الملكوت الالهي، أما الفرق بين صفات الإنسان وصفات الحيوان فهو بقدر الفرق بين اليهود وغير اليهود، فكما لا يجوز قتل الانسان إذا قتل حيوانـا، فلا يجوز قتل اليهودي إذا قتل غير يهودي . وقد تسللت هذه المعتقدات الإسرائيلية إلى كثير من المعتقدات المذهبية الوضيعة في التاريخ المسيحي والإسلامي لاحقا .
ومما له دلالة تاريخية ومغزى عميق إن القول بوجود وحيين أنزلهما الله على النبي موسى عليه السلام ـــ الوحي المكتوب في التوراة والوحي الشفاهي الذي تم تدوينه في التلمود بعد ثلاثمائة عام من وفاة النبي موسى وأصفيائه ـــ أفرز عقيدة مركبة فتحت الباب لأن يكون بعضها توحيدياً والبعض الآخر حلوليا من خلال مذاهب اعتقادية متناقضة. لكن ذلك لا يمنع القول بأن ثمة قاسمـا مشتركـا بين جميع كل تلك المذاهب وهو دنيوي بطبيعة الحال ، ويتمحور هذا القاسم حول اتفاق هذه المذاهب على الاعتقاد بوجود وحي ثان إلى جانب التوراة، لكنها تختلف فيما بينها في تعريف هذا الوحي وتحديد نطاقه ، حيث يؤمن اتباع بعض المذاهب بروايات منسوبة للنبي موسى ويعتبرونها صحيحة، بينما ترفضها مذاهب أخرى، لكن ذلك لا ينفي حقيقة أن المصالح الدنيوية كانت تفرض على الملوك والأحبار وحاخامات هذه المذاهب نوعـا من التقريب والتوافق في المواقف على نحو ما حدث في ما تسمى الهيئة العليا للوحيين التي أنشأها الأحبار والحاخامات في نهاية القرن الأول قبل الميلاد، والتي قامت بمحاكمة المسيح عليه السلام ، وأقرت صلبه وقتله .. فقد كان يجلس الصدوقيون الذين كانوا لا يؤمنون بالبعث واليوم الآخر إلى جانب الفريسيين الذين يخالفونهم معتقداتهم، لكنهم جميعـًا كانوا يتفقون على ضرورة استخلاص أحكام تشريعية من العقائد الشفوية وهو ما يسمى (الشريعة الشفوية) التي تجسدت في (التلمود) كخلاصة لروايات وأحاديث شفوية منسوبة للنبي موسى عليه السلام، نقلا عن الأصفياء المقربين الذين عاصروه في حياته .
وقد تم الحكم بإعدام المسيح ليس على أساس شريعة التوراة، بل على أساس الشريعة الشفوية التلمودية وما ترتب على ذلك من فتح الباب أمام انحرافات عقائدية وصلت ذروتها إلى حد ارتكاب جرائم بشعة بسبب ارتباط الدين بالملكية، حيث سار الملوك اللاحقون في القرون الأخيرة السابقة للميلاد ـــ بما في ذلك الملوك الذين اعتنقوا المسيحية بعد الميلاد ـــ على نهج حروب التوسع وفرض الخراج والضرائب وتحويل الأسرى إلى عبيد وسبايا وتصفية الخصوم بتهم الردة والهرطقة ، فيما أفرط آخرون في تهديد الملوك الذين كانوا يعبدون النار والشمس بالغزو أو بالاستسلام أو بالزواج، كما حدث للملك سليمان الذي هدد ملكة سبأ بغزو بلادها وإذلال أهلها إن لم توافق على السفر إليه والزواج به، بعد أن نجحت هذه الملكة في بناء دولة دولة قوية ومزدهرة .
وقد تحدث القرآن الكريم بإجلال عن مناقب ملكة سبأ التي أفلحت في قيادة وإدارة شؤون مملكتها بالشورى والحكم الرشيد حتى أصبح أهلها ذا قوة وبأس شديد، فيما تحدثت كتب تاريخية عن أن الملك سليمان جمع أكثر من سبعمائة زوجة، وكان معظم هذا العدد من صفوة نساء الأسر المالكة اللاتي تزوج بهن الملك سليمان، عن طريق حروب التوسع أو التهديد بالغزو.
في هذا لسياق التاريخي ثمة قصص يرويها سفر الملوك عن الصراعات بين ملوك بني إسرائيل. فثمة ملك ثار على ملك، وآخر غدر بأهله وثالث تآمر على ملك بواسطة زوجته بعد ان أصبحت عشيقة له ، ورابع أسرف في اضطهاد العبيد وإفساد الأرض وفرض الضرائب وانتزاع الأراضي من الفلاحين، فتحالف الفلاحون ضده مع العبيد وانقلبوا عليه وعينوا أحد الأحبار ملكـا بديلا.. وهكذا دواليك.
ولئن كانت هذه الانحرافات قد ارتبطت بتسخير الدين من أجل الصراع على السلطة والثروة والشهوة بحسب الدكتور أحمد شلبي في كتابه (مقارنة الأديان – الجزء الأول)، ثم تركت آثارا سلبية على الحياة الروحية للمجتمع آنذاك تحت تأثير الربط بين الدين وسلطة الملك، ما أدى إلى الفصل بين الدين والأخلاق، إلا أن التأثير السلبي الأبرز لهذه الانحرافات امتد ليشمل بنية العقيدة الدينية من خلال فقهاء المذاهب المتصارعة على نحو ما جرى بين ملوك وأحبار بني إسرائيل في مواجهة بعضهم البعض من جهة، وبين ملوك وأحبار بني إسرائيل في مواجهة الملوك والمحكومين من غير بني إسرائيل من جهة أخرى.
وقد لعب الأحبار والحاخامات الكهنة دورا سلبيـا كبيرا في تكييف العقيدة الدينية وتوظيفها للأغراض والأطماع السياسية التي كانت تختفي خلف مذاهب يهودية وضعية قامت على أساس روايات منسوبة إلى النبي موسى قبل أن يتم تدوينها في ما يسمى (الشريعة الشفوية) أو الوحي الثاني المدون في (التلمود)، حيث قام أسلاف اليهود من الأحبار الذين تحالفوا مع ملوك بني إسرائيل بإضفاء القداسة الدينية على هذه المذاهب، من خلال الزعم بأنها امتداد للتوراة والوصايا والشرائع التي أوحى بها الله الى النبي موسى عليه السلام، وصولاً إلى التدليس بأن الشريعة الشفوية هي الوحي الثاني الذي لم يكن منطوقه مدونـا في التوراة التي حفظها الله في الألواح الضائعة بحسب زعمهم.. ثم أضافوا إلى تلك المزاعم بأن الروايات المنسوبة إلى موسى عليه السلام في كتب الأسفار هي وحي آخر تناقله أصفياء النبي موسى وهارون بعد وفاتهما، ثم قام الأحبار بعد ذلك بجمع وتدوين الوحي الثاني باعتبارهم ورثة لأنبياء بني إسرائيل بحسب ما جاء في الإصحاح العاشر من سفر يوشع وكتاب (التلمود) الذي كان أول من تحدث عن وجود وحيين من الله ..الأول أجمله الله في التوراة ، والثاني دونه الجيل الثاني من الأحبار والحاخامات في (التلمود) الذي يصفه اليهود بأنه السنة النبوية لموسى عليه السلام، بحسب ما جاء في (التلمود) والإصحاحين التاسع والعاشر من سفر يوشع، وهو ما أنتقل بشكل ملحوظ إلى المسيحية بعد ذلك وتسبب في ظهور مذاهب وضعية ألقت ظلالا ثقيلة على تاريخ المسيحية سوف نتناولها في الحلقة القادمة.
تمت طباعة الخبر في: السبت, 23-نوفمبر-2024 الساعة: 03:35 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-14572.htm