الخميس, 22-أبريل-2010
الميثاق نت - أحمد الحبيشي أحمد الحبيشي -
لليمن.. لا لعلي عبدالله صالح (38)..الخروج من نفق الانتظار
تأسيسـا على ما تقدم يتضح الخط البياني لمسار صعود وهبوط الفكر الإمامي الشيعي الذي وصل مأزقه الحاد في القرن الرابع الهجري بظهور النظرية السياسية الاثنا عشرية التي تفترض ولادة وغيبة وحتمية ظهور الإمام الثاني عشر بوصفه (المهدي المنتظر) الذي بشر به رسول الله وفقا لحديث منسوب اليه في كتب أهل السنة وأهل الشيعة بدون استثناء !!
وعلى تربة هذا المأزق برزت فكرة (التقية والانتظار في عصر الغيبة) بالتلازم مع ظاهرة الانسحاب السياسي والامتناع عن المشاركة في حركات التغيير وعدم التصدي للحكام المستبدين، ما أدى الى ما يشبه الإجماع بين فقهاء الشيعة الاثنا عشرية على تحريم الجهاد في (عصر الغيبة)، حيث اشترط الشيخ الطوسي في كتابه الشهير (المبسوط) لوجوب الجهاد (ظهور الإمام العادل الذي لا يجوز لهم القتال إلا بأمره، ولا يسوغ لهم الجهاد دونه) ، مشيرا الى ( أن الجهاد مع أئمة الجور أو من غير إمام خطأ يستحق فاعله الإثم، باستثناء حالة الدفاع عن النفس وعن حوزة الإسلام إذا دهم المسلمين عدو يستهدف دينهم و أرضهم وعرضهم ومالهم وحياتهم ).

ولم يكتفِ فقهاء الشيعة الإمامية الاثنا عشرية بتعطيل ( فريضة ) الجهاد في عصر الغيبة، بل إنهم عطلوا أيضـا ـــ كما أوضحنا في الحلقة السابقة ـــ عددا من الواجبات الدينية ، من بينها الزكاة والخمس والخراج والأنفال وحصص العاملين عليها والمؤلفة قلوبهم ، لأن الإمام المهدي – بحسب الاعتقاد الشيعي – هو الشخص الوحيد الذي يحق له تسلم هذه الموارد وتوزيعها.

وعلى غرار ما فعله فقهاء المذهب الملكي السني، أجمع فقهاء المذهب الإمامي الشيعي على تحريم الاجتهاد ، وبتأثير هذا التحريم اتجه الفقه الشيعي – كما هو حال الفقه السني – إلى الإخبار والتقليد، لكن هذا الوضع لم يستمر طويلا، حيث برزت قضايا جديدة تستوجب البحث عن إجابات عليها، الأمر الذي أجبر فقهاء الشيعة على القول بجواز القياس بهدف سد الفراغ التشريعي الذي تسبب في ارباك الشيعة الإمامية بعد وفاة الإمام الحسن العسكري وغياب الإمام الثاني عشر، ما أدى إلى التحرر من نظرية التقية والانتظار ، وإعادة النظر في كثير من المسائل الفقهية التي تعرضت للتعطيل بسبب نظرية (الغيبة).. ولعل أبرز مظاهر هذا التحرر حدوث تحولات جذرية في الفكر الإمامي الاثنا عشري وفي مقدمتها التخلي عن اشتراط العصمة والنص ، والتراجع عن مبدأ حصر وتوريث الحكم في السلالة العلوية الحسينية ، والقول بجواز أو وجوب الولاية العامة لغير المعصوم، وصولا الى استنباط نظرية (ولاية الفقيه) وغيرها من الأفكار السياسية التي أعادت مشاركة الشيعة في حركات التغيير السياسي.

ولئن كان ركود المذهب الشيعي الإمامي قد بدأ بعد وفاة الإمام الحسن العسكري في القرن الرابع الهجري، وما ترتب على ذلك من دخول الشيعة مأزقـا عامـا في عصر (الغيبة والانتظار) ، إلا أن القرنين السابع والثامن الهجريين شهدا إرهاصات الخروج من هذا المأزق على إثر اندلاع (ثورات شيعة محلية في نيسابور حيث أقيمت الدولة (السربدارية) التي دامت خمسين عامـًا من سنة (738هـ إلى سنة 782هـ)، بالإضافة إلى نجاح الشيعة في تأسيس دويلات شيعية في مازندران وخوزستان وجنوب العراق.

وبتأثير هذه التطورات حاول فقهاء الشيعة الإمامية الخروج من مأزق الانتظار القائم على افتراض وجود الإمام الغائب، حيث ظهرت نظرية النيابة العامة للفقهاء التي تفترض ــ هي الأخرى ــ نيابة الفقهاء عن الإمام الغائب، لكن نظرية النيابة العامة للفقهاء كانت افتراضية ولم تتطور إلى المستوى الذي يؤهلها لإقامة دولة إمامية ملكية ، الأمر الذي أفسح المجال لظهور فكرة النيابة الملكية العامة بعد قيام الدولة الصفوية بقيادة الشاه إسماعيل بن صفي الدين عام 907هجرية ،ومن بعده ابنه الشاه طهماسب بن اسماعيل الذي تولى الحكم عقب وفاة أبيه اسماعيل بن صفي الدين عام 930 هجرية، وقد تطورت هذه الفكرة بشكل متدرج على أيدي فقهاء الشيعة الإمامية بمدينة النجف في العراق، وجبل عامل في جنوب لبنان.

والثابت تاريخيـا أن الصفويين الذين اعتنقوا المذهب الشيعي لمواجهة السلاطين التركمان في بلاد فارس ، وجدوا في نظرية الإمامة ونظرية الغيبة عائـقـا يحول دون تحقيق أهدافهم في الانفصال عن الإمبراطورية العثمانية وإقامة الدولة الصفوية الفارسية، بغطاء مذهبي شيعي، حيث أجازوا لملوكهم – وهم غير أئمة وغير معصومين، وغير منصوص عليهم من الله – الاستيلاء على السلطة ، وإقامة نظام ملكي وراثي على نحو ما فعله قبلهم الأمويون والعباسيون والعثمانيون.

وكما هي عادة التحالفات السياسية بين الملوك ورجال الدين، فقد وجد الصفويون في بعض فقهاء الشيعة الامامية وعلى رأسهم الشيخ علي بن الحسين بن عبدالعالي الكركي ضالتهم، خصوصًا وأن الدولة الصفوية في عهد الشاه إسماعيل بن صفي الدين تميزت عن الدويلات الشيعية السابقة (البويهية والسربدارية والمرعشية والمشعشية) في كونها حاولت تقديم نفسها كدولة مذهبيةعقائدية تضم الى جانب الفرس مختلف الشعوب التي تعيش في الأراضي الفارسية وتعتنق المذهب الشيعي الامامي الذي يجمعها ، بينما كانت تلك الدويلات الشيعية عبارة عن كيانات سياسية تديرها عصبيات طائفية وعرقية محدودة .

في هذا الاتجاه أسس كل من الشيخ الكركي والشاه إسماعيل ــ ومن بعده ابنه الشاه طهماسب ـــ فكرا سياسيـا جديدا بهدف الالتفاف على فكرة (الغيبة والانتظار)، حيث أدعى الشاه إسماعيل – بدعم من الشيخ الكركي – أنه أخذ إجازة من (صاحب الزمان – المهدي المنتظر) للقيام بالثورة والخروج على أمراء التركمان الذين كانوا يحكمون بلاد فارس في العهد العثماني ، كما حاول الشاه طهماسب بن إسماعيل الصفوي ـــ في وقت لاحق ـــ استثمار نجاح الدولة الصفوية في التوسع الجغرافي ، وسد الفراغ السياسي الذي كان يهيمن على الشيعة خلال حقبة الغيبة والانتظار، فأدعى أنه نائب الله وخليفة الرسول والأئمة الاثناعشرة وممثل الإمام المهدي في غيبته، الأمر الذي أثار غضب الفقهاء وعلى رأسهم الشيخ الكركي الذي كان في بداية الأمر حليفا أساسيـا للصفويين عموما ، وللشاه طهماسب بن اسماعيل تحديدا ، ثم عاد ليقف مع الفقهاء الآخرين الذين اعتبروا الملوك الصفويين غاصبين لحق الإمامة الخاص بالأئمة المعصومين الذين عينهم الله ونص عليهم الرسول بالوصية . وقد مهد غضب الفقهاء على ادعاءات الشاه طهماسب طريقا سهلا لحدوث تحول جديد في الفكر السياسي الشيعي من خلال الدعوة التي أطلقها السيد محمد باقر السبزواري في القرن الحادي عشر الهجري ، وقال فيها ان عصر الغيبة يفتقد وجود سلطان قوي ، ويؤدي في نهاية المطاف إلى بروز الفوضى والهرج والمرج، ولذلك لابد للناس من الخضوع لسيطرة ملك يتبع سيرة وسنة الإمام.( مكسيم رودنسون ـــ تاريخ الشعوب الاسلامية ) .

وبقدر ما أدى قيام الدولة الصفوية في القرن العاشرالهجري إلى تضمين نظرية النيابة العامة للفقهاء أبعادا سياسية جديدة على نحو ما أسلفنا ذكره، بقدر ما أدى إلى حدوث انشقاق داخل المذهب الإمامي الاثني عشري بين تيارين فقهيين هما : الإخباريون والأصوليون، وكان هذا الصراع يدور بين المحافظين على الخط الإمامي الذين يتمسكون بنظرية الغيبة والانتظار، وبين المجددين الذين يبدون نزوعـا للتحرر من شروط الإمامة المتشددة كالعصمة والنص ، ومن شروط الغيبة والانتظار كالتقية والانعزال وتعطيل الواجبات الشرعية المنوطة بالدولة .

ولئن كان الصراع بين هذين التيارين قد أخذ مداه كاملا على امتداد قرنين كاملين هما عمر الدولة الصفوية، فقد أدى سقوط هذه الدولة في القرن الثالث عشر الهجري ، الى تمهيد الطريق لتطور نظرية النيابة العامة للفقهاء ونظرية النيابة العامة للملوك في آن واحد ، حيث برزت فكرة جديدة تتجاوز نظرية الانتظار بل وتتخلى عنها تمامـا ، ولكنها في الوقت نفسه تجيز للفقهاء أنفسهم ممارسة الحكم بدلا من الملوك على نحو ما عبر عنه الشيخ أحمد بن مهدي التراقي المتوفي عام 1245م، عندما بلور نظرية (ولاية الفقيه) في كتابه الشهير (عوائد الأيام في بيان قواعد الأحكام)، الذي حلل فيه تجارب قيام الفقهاء بإدارة حكومات لا مركزية في ظل الدولة الصفوية الملكية المركزية، ورأى في تلك التجارب نفيـا عمليـا لنظرية الانتظار . وفي ضوء هذا التحليل توصل الشيخ التراقي إلى القول بضرورة الإمامة في عصر(الغيبة والانتظار) أولا َ ، وبوجوب حصر الإمامة في الفقهاء من خلال تطبيق نظام (ولاية الفقيه ) ثانيا ً، الأمر الذي أسهم في تطوير الفكر الشيعي الإمامي باتجاه التحرر من نظرية ( الإمامة الإلهية ) والخروج من نفق نظرية الانتظار بشكل متزامن .

من نافل القول أن الأفكار الجديدة التي دعا إليها الشيخ التراقي جوبهت بمعارضة شديدة من فقهاء آخرين مثل الشيخ مرتضى الأنصاري الذي كان يحتل مكانة مرموقة بين فقهاء الشيعة الإمامية الاثنا عشرية، لكن هذه المعارضة انتهت بنجاح الملوك الجدد من السلالة القاجارية في تعزيز سلطتهم وتوسيع صلاحياتهم على امتداد بلاد فارس بالتعاون مع القوى الاستعمارية الاوروبية التي أبدت اهتماما كبيرا لنشر نفوذها العسكري والتجاري والسياسي في هذه المنطقة بعد سقوط الدولة الصفوية، حيث انخرط الفقهاء الشيعة في الحياة السياسية الجديدة، ونازعوا الملوك القاجاريين في السيطرة والتأثيرعلى المجتمع ، ولم يترددوا في التصدي للمشاريع الاستعمارية الجديدة على نحو ما حدث عندما قام الشاه ناصر الدين بتوقيع اتفاقيات تجارية مع الشركات البريطانية الاستعمارية في القرن التاسع عشر الميلادي ( الثالث عشر الهجري)، وهو ما دفع الميرزا محمد حسن الشيرازي ـــ أحد المراجع الشيعية العليا ـــ إلى دعوة الشعب الإيراني للتوقف عن زراعة وشراء وبيع التبغ.. وقد اضطر الشاه إلى إلغاء تلك الاتفاقيات بعد استجابة المزارعين الإيرانيين لفتوى الميرزا الشيرازي.

وبوسعنا القول إن مسار المذهب الشيعي الإمامي الاثنا عشري شهد بعد هذه المواجهة مرحلة جديدة ونوعية، حيث فتحت تلك المواجهة ضد الشاه ناصر الدين الأبواب لدخول الفقهاء ميدان العمل السياسي الملتبس بالدين والمذهب . وقد تميزت هذه المرحلة بالتفاعل مع الأفكار العصرية ، وبلورة أهداف سياسية تتمحور حول المطالبة بإصلاح وتطوير النظام الملكي، وتحديد صلاحيات الملك المطلقة، وانتخاب مجلس شورى من الشعب مباشرة.
ووصلت حركة الفقهاء الشيعة ذروتها في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي عندما تبلور على أيديهم أول تيار ديمقراطي إسلامي معاصر تتويجـا لمعركة طويلة خاضها الفقهاء الشيعة ضد ملوك إيران القدامى والجدد ، وانتهت بقيام أول مجلس تشريعي دستوري منتخب في إيران عام 1906م ، والذي أصبح منذ ظهوره في مطلع القرن العشرين أساسـا للنظام الجمهوري الذي أقامته الثورة الإسلامية الإيرانية بقيادة الإمام الخميني عام 1979م ، بعد أن نجحت في الإطاحة بآخر الملوك القاجاريين ، وهو شاه إيران محمد رضا بهلوي.. حيث تم استبدال الملك برئيس الجمهورية، وإعطاء الفقيه (الولي) صلاحيات واسعة ومطلقة انطلاقـا من نظرية (ولاية الفقيه) التي ظهرت في القرن العاشر الهجري – السادس عشر الميلادي ، ثم تحولت بعد قيام الجمهورية الاسلامية في ايران الى نكسة تاريخية كبرى للمذهب الامامي الشيعي ، وهو ما سنأتي اليه في الحلقة القادمة بإذن الله .
تمت طباعة الخبر في: الخميس, 21-نوفمبر-2024 الساعة: 09:07 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-15150.htm