أ.د/ طارق أحمد المنصوب - استكمالاً لتناولة الأسبوع الماضي، التي خصصناها لاستعراض نقاط الاتفاق والاختلاف بين تصورات المؤتمر الشعبي واللقاء المشترك لآليات تدشين الحوار وتشكيل اللجنة الوطنية للحوار الوطني.. يمكن الإشارة، ولو بصورة أولية، وبغض النظر عن نقاط الاتفاق التي تركزت حول بعض الشكليات المتعلقة بتكوين اللجنة، وآلية عملها، ودوريته، وعلى شفافية أعمالها، ونقلها للرأي العام الوطني، والخارجي، مما يمكن عده تنازلات محدودة وغير ذات أهمية- في محتواها وإن كانت مهمة في توقيت صدورها- قدمها كل طرف لحث الآخر على خوض جولات الحوار.
وهكذا، يمكن لمن يقرأ بنود تلك المحاضر أن يضع الطرفين في وضعيتين متقابلتين، أحدهما ينشد عكس ما يرغبه الآخر، وكأنهما على طرفي نقيض، وهذه قد لاتكون بداية جيدة لتدشين حوار سياسي، وخوض مفاوضات يراد منها وضع آليات لتنفيذ اتفاق فبراير 2009م، والاتفاق على خطوات عملية لإعادة وضع قطار الديمقراطية في السكة التي خرج عنها منذ انتخابات الرئاسة 2006م، وتأكد توقفه في إبريل 2009م، لأمد قد يطول وقد يقصر، وهذا مرتبط باتفاق الطرفين ومدى رغبتهما الحقيقية في حل الأزمات، وايقاف مسلسل التدمير الذاتي لكل منجز وطني، والرهان الخاسر على وضع الطرف الآخر في وضع متأزم لتعظيم المكاسب.
ولكي يتضح الموقف أكثر للقارئ يمكن أن نوضح أن الخلاف تمحور حول عدد من القضايا الجوهرية، التي يشكل عدم الاتفاق حولها حجر عثرة أمام قيام حوار أصلاً، حيث شملت تصور كل طرف لمرحلة ما قبل الحوار الوطني، والأطراف التي ستحضره، والأجواء التي يجب أن ينعقد في ظلها، والموضوعات التي سيشملها ومكان انعقاده، والضوابط التي ستحكمه، كما مر معنا في التناولة السابقة، وتفسير ذلك على النحو الآتي ذكره:
الطرف الأول (أي المؤتمر الشعبي العام)، يرغب في أن يجلس لمناقشة القضايا والموضوعات التي يراها عاجلة، بعد أن يتم الاتفاق على التفاصيل التي سيجري حولها النقاش والحوار الوطني، وعلى أن ينعقد في إطار رسمي داخل قبة مجلس الشورى »بوصفها مؤسسة وطنية تمثل فيها جميع القوى السياسية اليمنية، وتضم عدداً من الشخصيات الوطنية التي اختيرت من المخضرمين وذوي الخبرة في مجالات عدة، بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى، وإن كانت أحزاب اللقاء المشترك تعدها أو تنظر لها بوصفها مؤسسة رسمية، ولذا تفضل الحوار خارج أي إطار رسمي«، كما حدد لها عدداً من الضوابط، المادة الأولى من الدستور »مع صدور تأكيدات غير رسمية أن المؤتمر يمكن أن يتنازل عن كتابة هذا الشرط في محاضر الاجتماعات لبدء الحوار«، واتفاق فبراير، ثم اتفاق المبادئ لسنة 2006م، ويبدو أن اهتمامه منصبٌّ على إجراء الانتخابات القادمة في موعدها المحدد 27 إبريل 2011م، في إشارة إلى الفقرة التي وردت في نص المحضر، والتي تضمنت ».... مراعاة أن لاتخل مواعيد برنامج الحوار الوطني بموعد إجراء الانتخابات »27 إبريل 2011م«، وهو يُمني النفس بتحقيق مكاسب انتخابية جديدة، لن تتحقق له إن دخل الانتخابات منفرداً، خاصة أنه قبل تأجيلها على أمل أن ينفذ العملية الديمقراطية برمتها، لكنه قد لايكون قادراً على تأجيلها للمرة الثانية.
والطرف الثاني (اللقاء المشترك) يرغب في أن يبدأ كل شيء من خلال عقد لقاء تمهيدي يعقد بين الطرفين لتحديد وتسمية الشركاء، ويبدو أن نيته تتجه إلى اختيار أطراف قد تثير اعتراض الطرف الآخر، أو هكذا قد يفترض من يقرأ ما جاء في رده على المقترح المقدم من المؤتمر، بدليل الإشارة إلى ».... وعدم جواز اعتراض أي طرف على ما يقدمه الطرف الآخر!!«.. وكذا لتحديد برنامج الحوار الوطني، والضوابط المنظمة له، مع أنه شدد على ما يعده مكاسب تحققت له في إطار اتفاق فبراير »نقصد إصلاح القانون الانتخابي، واعتماد أسلوب القائمة والتمثيل النسبي«، على أن تكلف اللجنة الوطنية للحوار بتحديد باقي التفاصيل المتعلقة بمكان الحوار والشروط التي سيتم في ظلها.. ولايبدو لمن يقرأ نص المحضر المعد منه أنه في عجلة من أمره، لاسيما أن نتائج الدورات الانتخابية الأخيرة كلها لم تكن في مصلحته، وهو يخشى أن يفقد حتى المكاسب المحدودة التي تحققت له في تلك الانتخابات..
ومن يتابع تحركات قياداته وأحزابه، يجدها تحث السير وتنشط حينما يتعلق الأمر بتنفيذ اعتصامات وتجمعات ومظاهرات للتنديد بسياسات الحزب الحاكم، لكنها تتباطأ كلما تذكرت الاستحقاق الانتخابي، ويبدو أنها تراهن على كسب الوقت لتحقيق مزيد من الضغط على المؤتمر الشعبي، وبالتالي تحقيق مزيد من المكاسب التي لم تتمكن من تحقيقها عبر صناديق الاقتراع والمسلسل الديمقراطي، وهي تتكل على قدرتها على تأجيل الانتخابات للمرة الثانية، بتأجيج الوضع، والاعتقاد- الخاطئ- بالقدرة على خلق حالة من الفوضى والفراغ السياسي والدستوري، وهو الأمر الذي لن يتحقق بوجود المادة (65) من الدستور اليمني، المتعلقة بالظروف القاهرة، لكنه سيكون مدعاة لتمديد جديد لمجلس النواب، وإطالة عمر حكومة المؤتمر الشعبي، وهذا سيعمق من أزمة المعارضة السياسية اليمنية، وزيادة الإحباط الشعبي من العملية السياسية برمتها.
يبدو ذلك واضحاً من خلال حرصها على إطلاق سراح المعتقلين »السياسيين والصحفيين والكتاب ووقف المحاكمات والمطاردات للسياسيين وأصحاب الرأي، والتوقف عن قمع الاحتجاجات والاعتصامات السلمية، وغيرها من مظاهر العمل السياسي السلمي«، مع أن أكثرها تجاوزت العمل السياسي السلمي إلى المساس بأمن المواطن ومصالحه، وقتل الأبرياء، ومصادرة أملاكهم، وحمل شعارات انفصالية، ومناطقية، وتجاوزت حدود كل ماهو مسموح وطنياً، وقانونياً وأخلاقياً.
ومع أن تلك الاختلافات قد توقف عملية التفاوض، وتبطئ قطار الحوار، وقد تعيقه كلياً، إلاّ أنها تبقى متوقعة في ضوء الحقائق المعروفة للجميع، وبعد سنوات طويلة من انعدام الثقة والشك المتبادل، والصراع، والمحاولات المتبادلة للإلغاء والإقصاء، والتهميش.
والمفترض- حتى يكون الحوار ممكناً بين الطرفين، كما أشرنا مرات عدة، وفي مناسبات كثيرة- أن يتم مرحلياً البدء في بناء جسور الثقة بين أطراف المنظومة السياسية، لترميم ما خلفته سنوات الصراع السياسي من فجوات في المواقف والرؤى، والشروع في الحوار من النقاط التي تتفق أو تتوافق عليها جميع الأطراف، أو تحديد سقف يقف عليه المتحاورون لانطلاق مسلسل الحوار، ونعتقد أن هذا السقف يجب أن يتضمن جميع القضايا التي سيشملها الحوار دون الخوض في تفاصيلها ابتداءً، ودون حصر الموضوع برمته في خوض الانتخابات والنجاح أو الفشل فيها.. وإن كنا نعتقد أنها تتعلق بقضايا ثلاث بخيارات متعددة شكلت محوراً للنقاشات والمبادرات الوطنية الرسمية والشعبية، وهي: شكل نظام الحكم الجيد الملائم لمجتمعنا اليمني وظروفه السياسية والاقتصادية وتركيبته الاجتماعية، والنظام الانتخابي الذي يحقق العدالة والتمثيل والاستقرار السياسي، وعدالة توزيع الموارد الاقتصادية المركزية والمحلية، وكذا توزيع أعباء التنمية.{
|