احمد الحبيشي -
لحظة حرية: لليمن.. لا لعلي عبدالله صالح (46)
نحو قطيعة معرفية مع التراث الفقهي للاستبداد
احمد الحبيشي
أوضحنا في الحلقات الماضية الدور الذي لعبه الاستبداد وغياب الشورى والعدل في تشويه واضعاف نظم الخلافة الملكية الوراثية في العهد الأموي والعباسي والعثماني، بعد ارهاقها بالصراعات الدامية والمؤامرات والثورات الداخلية، وما ترتب على ذلك من إضعاف للطابع الملكي الإمبراطوري لدولة الخلافة، وحصر مركز الحكم في عاصمتها، مقابل ظهور دول ملوك الطوائف على أطرافها، حيث كانت اليمن واحدة من الأطراف التي تعاقبت عليها دول ملكية طائفية لم تخلُ من الاستبداد وغياب الشورى والعدل، وآخرها الدولة المتوكلية التي أفرزت نظامًا إمامياً طائفياً وراثياً، قام على أساس القوة والقهر والغلبة، فيما كان الاستبداد والتخلف وغياب الشورى من أبرز سماتها التي وجدت غطاءً مذهبياً ملكياً أضفى الشرعية الدينية على حكام ذلك النظام الاستبدادي الذي قاومه وخرج عليه شبعنا اليمني وحركته الوطنية المعاصرة عبر نضال طويل ومعمد بدماء الشهداء، وصولاً إلى قيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م والرابع عشر من أكتوبر 1963م.
الثابت أن الثورة اليمنية المعاصرة شكلت قطيعة تاريخية ومعرفية مع التراث الفقهي الملكي الذي استند إليه الحكام والمعارضون في نظم الخلافة الأموية والعباسية والعثمانية ودول ملوك الطوائف على أطرافها، وبضمنها المملكة المتوكلية اليمنية، بمعنى أن الثورة اليمنية لم تستمد شرعيتها ومنطلقاتها الفكرية والسياسية من المذاهب الملكية الدينية بشقيها السني والشيعي، بل أنها استمدت شرعيتها من انتمائها إلى تاريخ اليمن المعاصر، بما هو تاريخ حركات التحرر الوطني والقومي من أجل بناء الدولة الوطنية المدنية التي تحقق لمواطنيها الحرية والديمقراطية والعدالة والكرامة الإنسانية، وهو ما تشير إليه الأهداف الستة للثورة اليمنية التي تعرضت لتحديات ومخاطر صعبة على تربة الموروث الفقهي والسياسي لثقافة الاستبداد والخضوع التي كانت تدعو الناس إلى طاعة الحاكم الظالم، والصبر عليه حتى وإن جلد ظهورهم، وأخذ أموالهم، ونهب حقوقهم، ولا نبالغ حين نقول إن الرئيس علي عبدالله صالح تعامل بعد وصوله إلى سدة الحكم مع بيئة سياسية معاقة بالكوابح، ومثقلة بالأمراض التي خلقتها مشاريع بالية فشلت في صياغة مشروع وطني ديمقراطي قابل للتنفيذ والاستمرار، وعجزت في الوقت نفسه عن تقديم بديل حقيقي لثقافة الاستبداد التي كرستها الدولة الدينية الثيوقراطية المتوكلية قبل قيام الثورة والجمهورية.
ولما كان ملوك وأئمة اليمن حكاماً على الناس باسم الحق الإلهي، فقد وجدوا في موروث المذاهب الملكية اليهودية والمسيحية والإسلامية غطاءً يمنحهم شرعية دينية تلزم الناس بمبايعة حكامهم وطاعتهم والصبر عليهم حتى ولو جلدوا ظهورهم ونهبوا أموالهم، ثم تدفعهم بعد ذلك إلى الإكثار من الصلوات والتفرغ للزهد والانصراف عن العمل والعمران، وترعبهم في الوقت نفسه بالتشدد في العبادات، والتوسع في المحرمات والإفراط في الترهيب من عذاب القبر وجحيم الآخرة، دون أن تلزم الحكام بشيء إزاء الأمة، بذريعة أن الحكام يستمدون سلطانهم من الله الذي ولاهم على الناس، بحسب مزاعم منظمي الملتقى السلفي العام الذي انعقد في صنعاء أواخر مايو 2009م.
وقد أوضح المفكر الشهيد محمد محمود الزبيري في كتابه (الإمامة وخطرها على وحدة اليمن– ص 12/ 13) خطورة الإدعاء بأن الحكام يستمدون سلطتهم من السماء بقوله: (كل ملوك الأرض وكل طغاتها في التاريخ لا يستطيعون التربع على عروشهم إلا على أساس القهر والعصبية والمذهبية.. وحسب الواحد منهم أن يتربع على العرش ثم يقول للناس : إن الله هو الذي ولاه سلطانا ً على الناس.. وأن الله هو الذي يأمر الناس بأن يطيعوه ويخدموه).
ويضيف الزبيري: (أما رسالة الأئمة والملوك التي يضطلعون بها فهي بث روح الزهد والانصراف عن عمارة الحياة والتنديد بكل نزعة إلى إعمال العقل والبناء والعمران، عدا بناء القصور والمساجد.. وهذا عندهم هو المفتاح السحري للسر المغلق في تاريخ اليمن على مدى أكثر من ألف عام)، في إشارة واضحة من الزبيري إلى أن الاستبداد في اليمن هو امتداد تاريخي لطغيان ملوك الأرض، وملوك المسلمين طوال هذه الفترة الهامدة التي تمتد إلى القرون الهجرية الأربعة الأولى قبل أكثر من ألف عام.
ومن نافل القول إن وصول الرئيس علي عبدالله صالح إلى الحكم عام 1978م، ارتبط بنزوعه إلى إعادة الاعتبار لأهداف الثورة اليمنية التي حرص الرئيس على أن يستمد منها شرعيته الوطنية، بعيداً عن موروث الفكر الملكي الملتبس بالدين والتعصب المذهبي، كشرط لبناء دولة وطنية مدنية موحدة تقوم على قواعد الديمقراطية التعددية (شورى أولي الأمر) بدلاً من نظام ولي الأمر، ويختار فيها الشعب رجالاً ونساءً حكامه عبر انتخابات حرة ومباشرة تتنافس فيها برامج سياسية مختلفة.
ومما له دلالة ومغزى عميقين أن الرئيس علي عبدالله صالح حرص منذ اليوم الأول لوصوله إلى الحكم على أن يتم اختياره من خلال مجلس الشعب الذي تم تشكيله بواسطة إجراءات انتخابية تأسيسية شاركت فيها نخب سياسية وفئات اجتماعية تشكل القوى المحركة للمجتمع السياسي في ظروف انتقالية دشنتها حركة 13 يونيو التصحيحية التي قادها الرئيس الراحل إبراهيم الحمدي، وتميزت بتوجهات حذرة للخروج من نفق الركود الذي أصاب البلاد منذ انقلاب 5 نوفمبر 1967م، وما تلاه من أزمات ومعضلات سياسية واقتصادية وأمنية.
وقد سبق لنا القول إن وصول الرئيس علي عبدالله صالح إلى الحكم بواسطة الاختيار المباشر من مجلس الشعب التأسيسي كان له أثر كبير في إطلاق قيم الشورى والديمقراطية، وبلورة العناوين الرئيسية لمشروع وطني ديمقراطي يستند إلى مبادئ التسامح والحوار والانفتاح على المعارضة، واطلاق مفاعيل المنظمات الجماهيرية والمهنية. ثم جاءت انتخابات مجلس الشورى عام 1988م لتشكل جرعة جديدة إضافية على طريق التحول نحو الديمقراطية، حيث شهد الشطر الشمالي من اليمن بعد تلك الانتخابات موجةً من المؤتمرات والفعاليات الانتخابية التي عقدتها الاتحادات والنقابات الجماهيرية والمهنية، سواء تلك التي تأسست أو تم إحياؤها بعد قيام المؤتمر الشعبي العام سنة 1982م.
ولا أبالغ حين أقول بأن ذلك الحراك جسّد حيوية البيئة السياسية في الشطر الشمالي من اليمن قبل الوحدة بقيادة الرئيس علي عبدالله صالح، وقدرتها على بلورة صيغة محلية للتفاعل الإيجابي مع المتغيرات الدولية، وفي أساسها تحديات التحول نحو الديمقراطية التعددية التي اكتسبت في أواخر الثمانينات من القرن الماضي طابعاً كونياً على نحو ما أشرنا إليه في حلقات سابقة من هذا المقال، وصولاً الى تحقيق وحدة الوطن اليمني أرضا ً وشعبا ً، وبناء الجمهورية اليمنية على قاعدة نظام سياسي ديمقراطي تعددي يعترف بحق المخالفين في الوصول الى الحكم، ويضمن لهم ممارسة حرية التعبير والاعتراض بالوسائل الدستورية، بدلاً من إجبار الناس على وجوب طاعة ولي الأمر، والتهديد بقطع أعناق الروافض والمخالفين والمعارضين لمشروعه السياسي، وبتأثير ذلك نجح الرئيس في إكساب النظام الجمهوري مضموناً وطنياً ديمقراطياً في بيئة ثقافية وسياسة مثقلة بموروث فقه الاستبداد في التاريخ الإسلامي عموماً واليمني خصوصاً، منذ تحول نظام الخلافة من الشورى والعدالة إلى القوة والغلبة والقهر، حيث تغيرت طبيعة البيعة التي كان يقدمها المسلمون في البداية إلى الحكام الذين يتم اختيارهم من قبل ممثلي الأمة، وهو ما لم يعد موجوداً بعد إلغاء الشورى وبروز ظاهرة انتزاع البيعة والاستحلاف بعد البيعة بالقوة والإكراه، وتوريث الحكم بالوصية، وكان الإكراه فيها أكثر وأغلب بحسب ما جاء في مقدمة ابن خلدون (معنى البيعة– الفصل 29).
كما سبق لنا القول في حلقة سابقة من هذا المقال إن ثمة التباساً نشأ عبر التاريخ بين الاستبداد والإسلام، بما في ذلك الفكر الملكي الذي التبس هو الآخر بالفقه الاسلامي السُنِّي، خصوصاً بعد ظهور ما يسمى بالفقه السلطاني في أحضان المذهب الملكي السني.. وقد أدى انتشار وتغوُّل هذا الفقه الملكي السلطاني إلى تخلف المسلمين وانحطاطهم ودخولهم نفق التخلف والاستبداد والاستعمار، الأمر الذي أسفر عن ظهور حركات إصلاح إسلامية استهدفت ولا زالت تستهدف في المقام الأول إعادة بناء الفكر السُنِّي وإكسابه مضامين ديمقراطية معاصرة من خلال نقد وتفكيك فقه الاستبداد، والانفتاح على الثقافة السياسية الديمقراطية، التي تؤمن بالتعددية والتنوع والتداول السلمي للحكم وانتخاب الحكام وهيئات سلطة الدولة من قبل الأمة عبر انتخابات تنافسية حرة ومباشرة بواسطة صناديق الاقتراع، وصولاً الى ممارسة الرقابة على شاغلي الوظائف العليا من خلال آليات دستورية تضمن تحقيق وتوسيع المشاركة الشعبية في إدارة شؤون الدولة والمجتمع المدني، بما فيها ضمان حق المعارضة في التعبير عن آرائها حول أسلوب إدارة الحكم بواسطة الاحتجاجات والمظاهرات السلمية والصحافة الحرة، وهو ما يشكل أبرز ملامح المشروع الوطني الديمقراطي للرئيس علي عبدالله صالح على طريق الانتقال من الاستبداد الى الديمقراطية، و من الثورة الى الدولة، الأمر الذي يستلزم مزيداً من المقاربة الموضوعية لرصيد الرئيس علي عبدالله صالح في مجال بناء الدولة الوطنية الحديثة، بما ينطوي عليه هذا الرصيد من قطيعة تاريخية مع الفكر الملكي بشقيه السني والشيعي.
والحال أن الثقافة الوطنية اليمنية كانت ومازالت فاعلاً رئيسياً في مجرى تطوير الفكر السياسي منذ بدايات الانبعاث الوطني العام وحتى الخمسينات من القرن العشرين المنصرم، حيث شهدت بلادنا ميلاد تيارات فكرية معاصرة تطورت على أساسها الحركة الوطنية اليمنية، ودخلت تحت تأثيرها عهداً تاريخياً جديداً تمثل بقيام ثورة 26سبتمبر 1962م وثورة 14 أكتوبر 1963م وتحقيق الاستقلال الوطني في الثلاثين من نوفمبر 1967م، وظهور دولتين شطريتين اقتسمتا الهوية الوطنية اليمنية في ظروف معقدة، وصولاً الى قيام الجمهورية اليمنية الموحدة في الثاني والعشرين من مايو 1990م الذي انهى التشطير وأعاد للوطن اليمني المجزّأ وجهه الشرعي الواحد، في سياق أول عملية وطنية تاريخية معاصرة للتحول نحو الديمقراطية التعددية في اليمن، حيث شهدت بلادنا على تجربة الدور الوظيفي للثقافة الوطنية الجديدة بدايات استيقاظ الوعي الوطني في الثلاثينات من القرن الماضي، فيما كان العمل الوطني ينمو ويتطور على خلفية البعد الثقافي للحراك السياسي في المجتمع.. وحين قامت ثورة 1948 م الدستورية لتعبر عن آمال وأشواق شعبنا الى الحرية والإنعتاق من الاستبداد والخروج من أنفاق التخلف والعزلة والظلام، كان المفكرون والأدباء وعلماء الدين الأحرار هم قادتها وشهداؤها. ولئن كان ما تقدم هو حال المجال السياسي للحركة الوطنية في صنعاء وتعز وحجة والحديدة، فقد كان الحال كذلك أيضاً– في عدن ولحج وحضرموت حيث كان المفكرون والمثقفون والكتاب والأدباء والصحافيون والفنانون يجسدون الوحدة العضوية بين الثقافة والسياسة، ويحملون رايات الكفاح الوطني ضد الاستعمار والتجزئة، ويرفعون شعارات الحرية والاستقلال والوحدة.
ومما له دلالة عميقة أن الرعيل الأول من قادة الحركة الوطنية اليمنية المعاصرة شمالاً وجنوباً كانوا من المفكرين وعلماء الدين والكتاب والأدباء والصحافيين والفنانين وخريجي الجامعات العربية والأجنبية، الأمر الذي يشير بوضوح الى البعد الثقافي لمشروع التغيير، وفي الإتجاه نفسه كان الرواد الأوائل لثورة 26سبتمبر 1962 م –أيضاً– من طلاب وخريجي المدارس العسكرية في صنعاء، وخريجي الكليات الحربية في مصر والعراق، الذين قامت على أكتافهم بعض الإصلاحات التي اضطر النظام الإمامي الى تنفيذها في الجيش، بعد أن أكدت حروبه مع الجيران والبريطانيين ضرورة الشروع في بناء وتحديث الجيش والنظام التعليمي.. بيد أن هؤلاء الثوار لم يوظفوا معارفهم العسكرية والعلمية التي اكتسبوها من أجل خدمة النظام الإمامي الاستبدادي، بل وظفوها لتخليص الوطن من ظلمه وظلامه، وايقاد شعلة الحرية في ربوعه.
صحيح أن عملية الانبعاث الوطني العام تطورت عبر مسيرة طويلة ومعقدة، ثم وصلت ذروتها بقيام الثورة اليمنية (26سبتمبر 14 أكتوبر )، لكن ذلك لا ينفي حقيقة ان الحركة الوطنية اليمنية التي قادت هذه العملية التاريخية، واجهت في أحد منعطفاتها الخطيرة حدثين متزامنين كان لهما تأثير سلبي على المسار اللاحق للثورة اليمنية. ففي الخامس من نوفمبر 1967 م وقع في صنعاء انقلاب عسكري من داخل الصف الجمهوري الذي فجر ثورة 26سبتمبر ودافع عنها، وتسبب ذلك الانقلاب في إحداث شرخ غائر في المجتمع، أسفر عن عدد لا يحصى من التناقضات والعمليات السلبية التي عرقلت تقدم مسيرة الثورة اليمنية صوب استكمال أهدافها الوطنية، وفي اليوم ذاته كانت عدن أثناء حدوث ذلك الإنقلاب، تشهد حرباً أهلية دامية منذ الثالث من نوفمبر 1967م بين فصائل ثورة 14 أكتوبر بمشاركة واسعة وحاسمة من جيش اتحاد الجنوب العربي الذي قاتل إلى جانب الجبهة القومية ضد جبهة التحرير والتنظيم الشعبي للقوى الثورية، وانتهت تلك الحرب في السادس من نوفمبر 1967م بحدوث شرخ وطني عميق في جسم المجتمع، تمهيداً لانفراد الجبهة القومية بالسلطة وإقصاء الفصائل الوطنية الأخرى التي شاركت في الكفاح الوطني ضد الاستعمار البريطاني، وصولاً إلى ظهور دولة شطرية ذات شرعية دولية في جنوب الوطن الذي كان بدوره مجزأ إلى 22 سلطنة وإمارة وولاية قبل الاستقلال.
ثمة من يرى أن القوى المعادية للثورة والجمهورية راهنت على الاستفادة من تداعيات ذلك الانقلاب، حيث شنت هجوماً متعدد المحاور على العاصمة صنعاء في أواخر نوفمبر 1967 أسفر عن محاصرتها لمدة سبعين يوماً. بيد أن أن ذلك الحصار أكد ضرورة إستعادة وحدة قوى الثورة اليمنية والدفاع عن الجمهورية المهددة بسقوط عاصمتها، وبفضل تلك الوحدة تحقق الانتصار الحاسم الذي اجترحه الجمهوريون من مختلف التيارات السياسية والفكرية، وشاركت فيه فصائل ثورة 14 أكتوبر التي انهزمت في الحرب الأهلية وانسحبت إلى الشمال، ولم تمنعها جراحها النازفة من القيام بواجب المشاركة في الدفاع عن صنعاء المحاصرة، وفي الحالين ألقت تداعيات انقلاب نوفمبر العسكري 1967م في صنعاء وحرب نوفمبر الأهلية1967م في عدن، بظلالها الثقيلة على الحياة السياسية بعد كسر الحصار وإلحاق الهزيمة بالقوى المعادية للثورة والجمهورية، حيث برزت إلى السطح استقطابات داخلية حادة على خلفية وجود دولتين في وطن واحد.
ولاريب في أن تلك الاستقطابات الحادة مهّدت لوقوع أحداث أغسطس 1968م الدامية والمؤسفة بعد فك الحصار عن صنعاء بستة أشهر بين قادة بعض الوحدات العسكرية التي شاركت في ملحمة السبعين يوماً.. وقد ألحقت تلك الأحداث أضراراً كبيرة بوحدة العمل الوطني الثوري، في ظروف إنقسام الوطن إلى دولتين تعلنان انتماءهما الشرعي للثورة اليمنية (26سبتمبر– 14 أكتوبر)، فيما تكرسان على الأرض أوضاعاً لا تاريخية، وتؤسِّسان في اللاوعي ثقافة سياسية مشوّهة.
وبوسعنا القول إن تلك الظواهر والأحداث دشنت بداية مرحلة جديدة من العلاقات القائمة على التناقض والتنافر بين أول دولتين يمنيتين في التاريخ الوطني المعاصر للشعب اليمني، ولم يخل هذا التناقض من حالات الإحتراب والتصادم، وتبادل الحملات الإعلامية وتنظيم وتسليح المعارضات المتبادلة بصورة متفاوتة، وصولاً إلى تحويل اليمن بشطريه إلى ساحة مفتوحة للإستقطابات الإقليمية والدولية في إطارالحرب الباردة بين القوى الكبرى، الأمر الذي زاد من حجم الأخطار التي تهدد سيادة الوطن واستقلاله ووحدته ومسيرته الثورية عموماً، ويندرج ضمن تلك الأخطار ظهور بعض المفاهيم اليمينية واليسارية الخاطئة التي أنكرت واحدية الثورة اليمنية، وزعمت بوجود مسارين متوازيين ومتناقضين لكل من ثورتي 26سبتمبر و14 أكتوبر.
على الصعيد نفسه لم تخل العلاقات بين الدولتين الشطريتين في اليمن من الميول الموضوعية نحو الوحدة، ففي كل مرحلة من مراحل تسعير المواجهات السياسية والإعلامية بين الشطرين كانت الحرب هي المحصلة النهائية، غير أنها سرعان ما كانت تنتهي بالتوقيع على اتفاقيات وحدوية تعرضت لإختيارات صعبة في مجرى التنفيذ, وتبعاً لذلك نشأت معادلة خطيرة في حياة الشعب اليمني لم تستطع الدولتان الشطريتان تجاهلها، ولم تستطع أيضاً معالجة تناقضاتها وتداعياتها بصورة جذرية، حيث شكل استمرار التجزئة بؤرة خطيرة للتصادم وعدم الاستقرار والحروب التي تغذيها فواعل داخلية وخارجية تندرج في إطار استقطابات الحرب الباردة اقليميا وعربياً ودولياً. في هذا السياق شهدت بلادنا أول ظاهرة سياسية معاصرة في تاريخ اليمن الحديث، تمثلت في التزاوج الذي حصل بين المجال السياسي والمجال الأيديولوجي في إطار ثقافة سياسية شمولية تحولت إلى محدد رئيس للتعاطي مع موروث فقهي وسياسي يمتد من تاريخ اليمن الوسيط، حين كان للثقافة الدينية المتزاوجة مع الأيديولوجيا الطائفية المذهبية دور هام في نشوء أول دولة يمنية مستقلة عن الدولة العباسية في عهد الخليفة المأمون من جهة، وتكريس التناقضات الداخلية في إطار هذه الدول المستقلة والتي وصلت ذروتها إلى التشرذم في هيئة كيانات اقطاعية ودويلات ملكية من جهة أخرى . وهو ما سنأتي اليه في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى.