أحمد الحبيشي - تناولنا في الحلقة الماضية جانباً من المفاعيل التي أسهمت في ولادة أول ظاهرة سياسية معاصرة شهدها تاريخ اليمن الحديث، وتمثلت في التزاوج الذي حصل بين المجال السياسي والمجال الإيديولوجي في إطار ثقافة سياسية شمولية تحولت إلى محدد رئيس للتعاطي مع موضوعة مشابهة لظاهرة أخرى في تاريخ اليمن الوسيط، حين كان للثقافة السياسية المتزاوجة مع الايديولوجيا الدينية المذهبية دور هام في نشوء أول دولة يمنية مستقلة عن الدولة العباسية في عهد الخليفة المأمون من جهة، وتكريس التناقضات الداخلية في إطار هذه الدولة المستقلة والتي وصلت ذروتها إلى التشرذم في هيئة دويلات ملكية وكيانات اقطاعية وسلاطينية من جهة أخرى.
في هذا السياق التاريخي نجح الإمام الهادي يحيى بن الحسين الرسي في الوصول إلى اليمن تلبية لدعوة من زعماء القبائل اليمنية المتناحرة على الحكم، بهدف إيقاف الحروب الداخلية، وتمكن من إقامة نظام حكم مستقل ذاتياً عن الخلافة العباسية عام 819م، وذلك بعد أن أضاف إلى المذهب الزيدي مبدأً يحصر الحكم بموجبه على سلالة البطنين العلوية الهاشمية، ثم بدأ الدعوة إلى مذهب الإمام زيد بن علي في مدينة صعدة بشمال اليمن، حيث أسس هناك الدولة الزيدية الهادوية التي انتقلت فيما بعد إلى مدينة صنعاء (د. محمد عبد الملك المتوكل الهوية وأزمات اليمن السياسية مجلة "المسار"– العدد الرابع 2001– مركز التراث والبحوث اليمني).
الى ذلك اجمعت الدراسات التاريخية المتوافرة حتى الآن، على أن دولةً عقائديةً ومذهبية من هذا الطراز لم تستطع تحقيق وحدة اليمن وحمايتها، كما لم تستطع في الوقت نفسه الحفاظ على استقراره الداخلي، وذلك بسبب منحاها الايديولوجي المذهبي الذي سعى إلى تشكيل الوعي الديني وتوظيفه كإيديولوجيا لنظام الحكم، وهوالمنحى الذي ميز التطور التاريخي اللاحق لمختلف الدويلات اليمنية التي نشأت فيما بعد على أسس مذهبية وعقائدية. وإلى هذا المنحى يعيد بعض المؤرخين ما ساد اليمن من ظواهر التمزُّق والصراعات المذهبية والقبلية التي أسفرت عن نشوء عدد من الدويلات اليمنية القائمة على الإستقطابات المذهبية الدينية، والنزعات المناطقية والقبلية، حيث كان القاسم المشترك بينها يتمثل في استغلال الوعي الديني واستخدامه كايديولوجيا تبريرية للحصول على الشرعية، ما أدى إلى أن (يصطبغ تاريخ اليمن خلال تلك الحقبة بصبغة دموية قانية) (د. محمد على الشهاري طريق الثورة اليمنية والوحدة اليمنية دار الفارابي– 1981- بيروت).
وبحسب الوقائع التاريخية التي أوردها الاستاذ محمد أحمد العفيف في كتابه (سنوات مجيدة من عمر الثورة الصادر في عام 1988م)، يمكن القول بأن تلك الدويلات والكيانات الإقطاعية عجزت عن التوسع واخضاع الكثير من المناطق اليمنية، ولم تتمكن من الوصول إلى حضرموت شرقاً، وإلى عدن وأبين جنوباً، وإلى حدود نجد شمالاً، باستثناء دولة الصليحيين التي اسسها على بن محمد الصليحي عام 1047م، وجعل من مدينة (جبلة) عاصمة لها بعد ان نجح في إقامة دولة مركزية واحدة لليمن بأسره من أقصاه إلى أقصاه.
وكما هومعروف فإن هذه الدولة اليمنية الموحدة استمرت بعد موت مؤسسها عام 1066م, حيث تولى قيادتها من بعده نجله المتزوج من السيدة أروى بنت أحمد التي أصبحت أول ملكة يمنية في التاريخ الميلادي الوسيط، بعد أن أشركها زوجها في حكم البلاد بسبب ما كانت تتمتع به من علم بأصول الدين، وقوة في الشخصية، وانفتاح على مختلف الفرق والمدراس الكلامية والمذاهب الفقهية.
شهدت اليمن في ظل الدولة الموحدة استقراراً سياسياً ساعد على تحقق تقدم ملموس في المجالات العلمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإحياء التقاليد السياسية التاريخية القديمة للمجتمع اليمني، وخاصة تلك التي تتعلق بالشورى والزراعة وتنظيم الري والتجارة والحرف المهنية.. كما أنتعشت في البلاد حركة فكرية وثقافية تجسدت بظهور تيارات فكرية للفرق الإسلامية المختلفة وأبرزها المعتزلة، حيث أمكن لليمن بفضل تنوع وتعدد هذه التيارات الفكرية أن يسهم بدور فعال في إغناء الفكر الإسلامي والثقافة العربية. وقد استمرت هذه الدولة الموحدة إلى أن توفيت الملكة أروى بنت أحمد عام 1138م، حيث خلفها في الحكم نهج منغلق تسبّب في تفكُّك أوصال المجتمع اليمني، ودخوله نفق الإنقطاع الحضاري نتيجة لإحياء الصراعات المذهبية التي كانت تشكل محتوى الدويلات اليمنية غير الموحدة، وتستمد مقومات وجودها من نزعات التشدد والتعصُّب والظلم والتعسف التي أصابت الشعوب العربية بعد انتقال مركز الدولة الإسلامية إلى الأتراك العثمانيين، وما ترتب على ذلك من تمزق المجتمع العربي وتفاقم الركود الاقتصادي والثقافي، ووقوع أجزاء عديدة من البلاد العربية تحت سيطرة القوى الاستعمارية الأوروبية في وقت لاحق، على نحوما سنأتي اليه عندما سنناقش تكفير الشيخ عبدالعزيز الدبعي للأحزاب القومية والاشتراكية اليسارية ومطالبتها بالتوبة، على هامش الملتقى السلفي العام سيئ الصيت الذي انعقد في العاصمة صنعاء اواخر مايو 2009م.
وتشير وقائع وأحداث التاريخ الى أن بلادنا شهدت خلال قرون متلاحقة قيام عدد من الدويلات المذهبية وآخرها المملكة المتوكلية في مطلع القرن العشرين الماضي، والتي تأسست في ظروف تاريخية نوعية برز فيها دور العامل الوطني الممزوج بالعامل المذهبي على أثر تزايد مخاطر التهديدات الاستعمارية الأوروبية من ناحية، واحتدام الصراع على الإمامة بين أكثر من إمام ادعى لنفسه النقاء السلالي والأصالة العقائدية ونزاهة المقصد من ناحية اخرى، إلى أن تمت مبايعة يحيى بن محمد حميد الدين إماماً على اليمن بلقب المنصور بالله المتوكل عام 1917م، بعد نجاحه في مقاومة الأتراك وتوقيع صلح دعان مع دفع الزكاة والخراج والدعاء للخليفة العثماني في خطب الجمعة بمساجد اليمن على نحو ما كان يعمله ملوك الطوائف في اطراف دولة الخلافة، وصولاً إلى تأسيس المملكة المتوكلية اليمنية التي استمرت حتى يوم السادس والعشرين من سبتمبر 1962م.
والثابت أن الموقع الجغرافي الاستراتيجي لليمن كهمزة وصل بين بلدان البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر والمحيط الهندي، جعله في العصر الحديث هدفاً لحملات التوسع والإحتلال من قبل الدول الاستعمارية الأوربية الكبرى مثل البرتغال وهولندا وايطاليا وتركيا وبريطانيا، حيث نجحت الأخيرة في الإنفراد باحتلال عدن في 19 يناير عام 1839م، والاحتفاظ بها لفترة طويلة امتدت حتى 30 نوفمبر 1967م، فرضت خلالها هيمنتها الكاملة على باقي أجزاء الجنوب اليمني التي كانت خارج السيطرة المباشرة لدولة الخلافة العثمانية والدولة القاسمية والمتوكلية في أنٍ واحد، وفي هذا الاتجاه استكمل الاستعمار البريطاني احتلاله للجنوب اليمني بتوقيع معاهدات صداقة وحماية مع السلاطين وحكام الامارات والمشيخات المجزأة، والتي أصبحت بموجب تلك المعاهدات محميات بريطانية.
أسهم هذا الوضع في ولادة شعور وطني بالأخطار التي تهدد السيادة الوطنية والمصير الوطني، وأفسح الطريق أمام بروز الإرهاصات الأولى للقضية الوطنية في ظل وضع متميز بالتخلف الشديد والعزلة الخانقة والانقطاع الحضاري، غير أن طموح حكام بعض المناطق اليمنية في تكريس سلطتهم على الكيانات الاقطاعية التي كانوا يحكمونها، وبناء دويلاتهم الإنعزالية فيها، أدى إلى تمكين القوى الاستعمارية من استغلال الخلافات المذهبية والنزعات القبلية، وتأجيجها باتجاه تحويلها إلى صراعات طائفية ومناطقية تضعف وحدة المجتمع اليمني من جهة، وتمهد لطمس الهوية اليمنية من جهة أخرى.
من نافل القول: ان القوى الاستعمارية سعت الى تغذية طموح بعض الزعامات المحلية لإقامة دويلات مستقلة على نحوما حدث عند ما تحالف الإمام محمد على الأدريسي مع الاستعمار الإيطالي الذي كان ينظر إلى تهامة كمجال حيوي للمستعمرة الإيطالية (إريتريا)، وفيما بعد عندما تحالف الإدريسي مع الاستعمار البريطاني الذي احتل ميناء الحديدة وسلمها له عام 1921م، بعد توقيع معاهدة حماية وصداقة معه بهدف توسيع المجال الجغرافي للدويلة الإدريسية، والحيلولة دون قيام دولة مركزية موحدة على الأرض اليمنية التي كانت تابعة للدولة العثمانية, بيد أن حكم آل حميد الدين نجح في تصفية الدولة الإدريسية من تهامة والحديدة، وفي وقت لاحق من حرض، وحصرها داخل عسير، وهوعمل تاريخي أسهم في توسيع نطاق الجغرافيا السياسية للدولة اليمنية، وكان له تأثير هام على اهتمام نظام آل حميد الدين بعد ذلك بجنوب اليمن, والحال أن العملية الوطنية التاريخية التي بدأها شعبنا اليمني منذ الربع الأخير للقرن التاسع عشر، سارت في اتجاه ثابت استهدف القضاء على الحكم التركي في المناطق الشمالية من اليمن، ودرء مخاطر الوجود الاستعماري البريطاني بأفق التطلع إلى بناء دولة مركزية موحدة, وعلى أساس هذا الاتجاه تطورت هذه العملية ابتداءً من ثلاثينيات القرن العشرين، وشكلت المحتوى الرئيسي للحركة الوطنية الشعبية المعاصرة في اليمن، والتي وصلت ذروتها في الخمسينيات والستينيات، وتوجت بقيام ثورة 26سبتمبر 1962م وثورة 14 أكتوبرم1963، وتحقيق الاستقلال الوطني في 30 نوفمبر 1967، وميلاد الدولتين الوطنيتين اللتين أقتسمتا الوطن حتى الثاني والعشرين من مايو1990م.
لا نقصد من خلال ما تقدم اجراء مقارنة مفتعلة بين دور الإيديولوجيا الدينية في عملية تشكيل الدولة اليمنية أواخر القرن الميلادي الأول، وتأجيج المنازعات الدموية في الساحة اليمنية، وتعريضها لخطر التدخل الخارجي من جهة، وبين دور الأيديولوجيا اليمينية واليسارية في التعامل مع إشكاليات الإجابة على سؤال الوحدة اليمنية في أواخر القرن العشرين الميلادي من جهة أخرى. أما هدفنا من الإشارة إلى هذا الدور فهومقاربة إشكاليات المجال السياسي والمجال الأيديولوجي في مختلف مراحل تاريخ المجتمع اليمني، ودراسة تأثيرها على الوحدة الوطنية، خاصة عندما يؤدي توظيف الأيديولوجيا لتبرير الأوضاع السائدة وإعادة إنتاجها إلى ردود فعل عنيفة، على نحوما حصل في العصور الوسطى عند ظهور حركات تمرد، انتهت بتأسيس دويلات يمنية في الأطراف، بعيداً عن السلطة المركزية، أوفي أحسن الأحوال بقيام حركات تبشر بتأسيس دولة مركزية جديدة على غرار ما حدث في الدولة الرسولية والدولة الهادورية والدولة الصليحية، وصولاً إلى الدولة القاسمية التي سبقت الدولة المتوكلية.
وما من شك في أن هذه المقارنة التاريخية ضرورية لنقد التبسيطات والتعميمات الساذجة التي روجت لها الأيديولوجيا اليمينية واليسارية، في السبعينيات والثمانينيات على نحو كان الوطن يبدو فيه وكأنه موزع بين متاريس وخنادق إيديولوجية وسياسية لا تحتمل التعايش إلا بسياجات عازلة وفاصلة، وغير ذلك من التعميمات التي أسقطت مفاهيم مستخلصة من سياقات ثقافية وتاريخية معينة، على واقع آخر لم يتعرض بعد للتحليل الشامل، ولم يمتلك الأدوات المعرفية اللازمة لممارسة هذا التحليل على أساس المنهج النقدي العلمي.
ان سؤال الوحدة اليمنية هو سؤال معاصر بامتياز، إذ ارتبط باشكاليات الهوية الوطنية في العصر الحديث، بما هو عصر الرأسمالية كأداة للسيطرة على الأسواق وطرق الملاحة الدولية، وما ترتب على ذلك من صراع على النفوذ والمصالح القوية بين الدول الاستعمارية من جهة، وصراع بين هذه الدول وحركات التحرر الوطني من جهة أخرى, بمعنى أن الهوية الوطنية لم تكن مُحركاً لاحداث التاريخ الإسلامي وصراعاته الداخلية في عصر إقتصاد الخراج، حيث كانت الهوية الإسلامية تجمع المسلمين في دولة الخلافة، فيما كان الصراع على السلطة والثروة هوالمحرك الرئيسي للصراع على النفوذ والحروب الداخلية بين الإقطاعيين وملاك الأراضي، والتي أسفرت عن نشوء دول ملوك الطوائف والعشائر على أطراف دولة الخلافة الاسلامية من المغرب العربي غرباً إلى مصر والشام شمالاً، ومن اليمن جنوباً إلى بلاد فارس وماوراء النهرين شرقاً, وقد كانت تلك الدول والممالك المستقلة عن مركز الخلافة الإسلامية تؤسس شرعيتها على معادلة الدين والآيديولوجيا المذهبية, فهي من ناحية تتقاسم الهوية الاسلامية والإيمان بالدين الإسلامي مع مركز دولة الخلافة وبقية دول ملوك الطوائف والعشائر، فيما تستخدم –من ناحية أخرى– آيديولوجيا دينية مذهبية لإضفاء الشرعية والتميُّز على استقلالها!!
تأسيساً على ذلك، يمكن القول: إن بروز ظاهرة الإيديولوجيا في سؤال الوحدة اليمنية المعاصر، يرجع إلى وجود دولتين مستقلتين تقاسمتا الهوية اليمنية منذ أواخر الستينيات غداة استقلال الشطر الجنوبي من الوطن في الثلاثين من نوفمبر 1967 حتى 22مايو1990م, وقد ارتبط ظهور تلك الدولتين بدخول اليمن مرحلة خطيرة من الاستقطابات الإيديولوجية الحادة، والصراعات السياسية المتواصلة، والحروب الأهلية الدامية، وصولاً الى المواجهات المسلحة بين الشطرين، الأمر الذي الحق ضرراً جسيماً بالمصالح الوطنية العليا للشعب اليمني، وأفسح المجال لقيام كل من الدولتين بتقنين عدد من الإجراءات والضوابط والقيود التي تمس الحريات العامة والحقوق المدنية للمواطنين، وتصادر حرية تنقل الأفراد والمنتجات الوطنية والمطبوعات والصحف والمجلات والكتب اليمنية بين الشطرين، فيما جرى بصورة متبادلة إحاطة تلك الأوضاع الشاذة بمناخ متوتر اتسم بالنزوع الى إضفاء الطابع الإيديولوجي الصرف على التمايزات الشطرية.
مما له دلالة ظهور تصورات دوغمائية وغير واقعية لتحقيق الوحدة من مواقع التفكير القديم، واشتركت هذه التصورات والمفاهيم في إنتاج ثقافة سياسية مشوّهة زعمت بوجود نظامين اجتماعيين متمايزين ومتوازيين لا يمكن أن يلتقيا إلا بتكريس أحدهما، ونشرت الأوهام حول ضرورة العمل من أجل إنضاج الشروط التي تمكن كل نظام من نفي الآخر وإلغائه, ولم يكن هذا التفكير الذي عمل على تعريف الوحدة بواسطة نفيها حكراً على شطر دون الآخر، بل انه كان سمة مشتركة للتفكير السياسي القديم في كل من الشطرين إزاء قضية وحدة الوطن.
صحيح أن كلاً من الكيانين –الدولتين– قام بتصميم منظومة من الأدوات والمخططات التنظيمية والسياسية والاقتصادية اللازمة لبلوغ هذا الهدف بشكل منفرد، لكنهما لم يسلما معاً من مثالب نزعات الاحتكار والإلغاء والإقصاء، وربما كانت تلك الأزمة تندرج ضمن إشكاليات أساليب التلقين الذي عانى منه –طويلاً– وعينا الإيديولوجي من جرّاء تعطيل أوتسطيح دور العقل كأداة للتفكير. وقد كان هناك ما يشبه الفراغ الثقافي الذي كرسته عوامل عديدة من بينها ضعف مستوى تطور الثقافة الوطنية والإنتاج الثقافي في اليمن، بالإضافة إلى ما كانت تعانيه الثقافة العربية عموماً في السبعينيات من تشوهات واختلالات.
ولعل ذلك الوضع كان سبباً في أن يكون التفكير مغترباً عن تربته الثقافية وإشكالياتها، ومفتقراً إلى مرجعيته المعرفية التي لا يمكن أن تتوفر إلا على خلفية من الثقافة الرفيعة، فيما كانت النتيجة الموضوعية لكل ذلك، تكريس إغتراب محتوى التفكير عن الحياة الواقعية، وحصره في دائرة التأملات والأحلام والأوهام الإيديولوجية المجردة، والنزوع الى الإنفراد والإلغاء والتجريبية وتعسُّف الحقائق، وما ترتب على ذلك من تناقضات ومواجهات ومصادمات دورية طالت الأمن والاستقرار في الشطرين معاً، وفي كل منهما على حده أيضاً.. فقد عانى الشطر الجنوبي من الصراعات الداخلية على السلطة حتى منتصف الثمانينيات، فيما عانى الشطر الشمالي من صراعات مماثلة حتى مطلع الثمانينيات.
وبين هذا وذاك.. تدفقت المفاهيم النظرية والتصورات السياسية والإيديولوجية المتناظرة والمتناقضة، لتؤسِّس وعياً مشوهاً يفتقر إلى شروط المعرفة المعاصرة لواقع التجزئة في الظروف الوطنية والعالمية الجديدة والمتغيرة، ويتجاهل تحت ضغط سلطة التجزئة والصراع الداخلي على السلطة ضرورة إغناء وتطوير شروط المعرفة لسؤال الوحدة اليمينة الذي صاغه الخطاب السياسي الوحدوي للحركة الوطنية اليمنية المعاصرة، وكان له دور هام في تشكيل الوعي الوطني المعاصر للشعب اليمني سواء في مرحلة استيقاظه الأولى، أوفي مرحلة نهوضه وتبلوره بعد قيام ثورتي 26سبتمبر و14 اكتوبر, وكان تعاطي هذه الأنماط من المفاهيم النظرية والتصورات السياسية والإيديولوجية يتم في ظل نقص حاد لأدوات التحليل المعرفي، الأمر الذي جعل التأثير السلبي لهذا التعاطي غير محصور في حدود تسطيح الوعي النظري، بل امتد ليشمل تراكماً طويلاً من العمليات السلبية على مستوى الوعي، تمخضت عنها ولادة مشوهة لفكر سياسي ينطوي على أزمة عقل وأزمة ثقافة في آن واحد عند الإجابة على سؤال الوحدة اليمنية.
إن قولنا بوجود أزمة عقل.. وأزمة ثقافة في الحياة الفكرية والسياسية التي شهدت تعاطي تلك المفاهيم والتصورات والشعارات ينطلق من الفرضية التي تقول بأن للفكر جانبين: أولهما: أن الفكر محتوى، وثانيهما: أنه أيضاً أداة، بمعنى أنه عقل يقوم بانتاج المفاهيم والتصورات ومختلف أشكال التفكير والوعي, أما المعادل الموضوعي الذي يربط بين جانبي الفكر، فهوالبيئة السياسية والاجتماعية والثقافية التي ينتمي إليها، لأن عملية التفكير تتم داخل ثقافة سياسية معينة وبواسطتها.. أي التفكير بواسطة مرجع معرفي من أبرز محدداته موقف الإنسان في المجتمع ونظرته إلى العالم ورؤيته للمستقبل.. وبوسعنا القول: ان تزامن ظهور الدولتين الشطريتين السابقتين مع دخول سؤال الوحدة اليمنية دائرة (أوهام الآيديولوجيا) لم يؤد فقط الى محاصرة هذا السؤال وتكبيله بقيود الآيديولوجيا، بل أدى إلى إفراغ سؤال الوحدة من أي مضمون تاريخي معاصر على الرغم مما قد يتصوره البعض ظاهرياً.. لأن سؤال الوحدة دخل على يد الآيديولوجيا مأزقه المحتوم في كل من الدولتين الشطريتين حيث ساد الاعتقاد بأن الحقيقة يحتكرها كل منهما منفرداً، وينفيها كل منهما عن الآخر منفرداً أيضاً!
هكذا تولى الخطاب السياسي والآيديولوجي القديم أواخر الستينيات وخلال السبعينيات والثمانينيات وظيفة تبرير وجود نظامين اجتماعيين متمايزين، أوتبرير وجود نظام سياسي شطري يجد هويته في حراسة الدين في الدنيا، مقابل نظام شطري آخر يجد هويته في الطبقة الإجتماعية التي يدافع عن قضيتها بحسب ذلك الخطاب.. وهكذا أيضاً كانت التجزئة تقوم بتعريف الوحدة وتعريف شروط قيامها.. كما أصبحت التجزئة أيضاً هي التي تقوم بتوظيف المفهوم الآيديولوجي للوحدة بهدف خلق نقيضه، أي تبرير وتكريس الدولة الشطرية على نحوما فعله كهنة النسخة الوهّابية للمذهب الملكي السُّني حين عارضوا اتفافية الوحدة، وقاوموا دستورها الذي استفتي عليه الشعب رغم تحريضهم على مقاطعته، ومطالبتهم بتطبيق (نظام الحاكمية)، بمعنى الحكم الالهي الذي يزعم فيه الحاكم بأنه ظل الله على الأرض.. بيد أن ذلك الخطاب لم يكن قادراً على إعادة تعريف الثقافة الوطنية التي شكلت رافعاً قوياً للخطاب السياسي الوطني الشعبي الوحدوي في مواجهة هيمنة الآيديولوجيا على الإجابة التي كان يتطلبها سؤال الوحدة.. وهوما سنأتي اليه في الحلقة القادمة بإذن الله.
|