الخميس, 08-يوليو-2010
الميثاق نت - احمد الحبيشي احمد الحبيشي -
لحظة حرية: لليمن.. لا لعلي عبدالله صالح (49)

قيم منسيَّة في منطقة رمادية
احمد الحبيشي
ربما كان ما تقدم جزءاً بسيطاًَ من الخطوط والظلال المتداخلة في البقاع الرمادية لصورة التشطير .. وربما كانت تلك البقاع الرمادية تدل بوضوح على أن ثمة محركاً مشتركاً للاتجاهين اليميني واليساري في ايديولوجيا التشطير ، وهو الجهل بالواقع اليمني والعجز عن معرفة المحددات الداخلية والخارجية التي تحرك مفاعيله، فيما كان كل من الاتجاهين يتحرك – ايضاً – نحو هدف واحد هو المجهول..بمعنى أن الاتجاه اليميني في ايديولوجيا التشطير كان يشترك مع الاتجاه اليساري في الجهل بالواقع ويهرب معه إلى المجهول !!.
في هذا السياق شهدت السبعينات إستقطابات داخلية حادة وصلت ذروتها باندلاع حرب مباشرة عام 1972م ، و حدوث مواجهات مسلحة غير مباشرة عن طريق المعارضات المسلحة.

في زمن غير منسي من التاريخ الحديث للتشطير ، وحينما كانت الدولتان الشطريتان تقيمان في اللاوعي، تولت الأيديولوجيا مهمة مصادرة السياسة وتأميم الوعي في آن واحد .. فأصبح الدور الوظيفي للمجال السياسي تابعاً للأيديولوجيا السائدة في كل من الدولتين اللتين تموضعتا خارج السياق الموضوعي لجغرافيا الوطن الواحد وضمير الانسان الحيّ .. بمعنى أن الثقافة السياسية فقدت مضمونها الوطني الذي يجعل منها ضميراً حياً للوطن المجزأ ومرآة صافية لوجهه الشرعي الواحد!!
وفي زمن غير منسي – أيضاً – إندلعت حرب فبراير 1979م بين الشطرين لتقدم دليلاً إضافياً على عجز ثنائية التشطير والأيديولوجيا عن الخروج من مأزقها الذي يتمثّل بدوره في العجز عن إيجاد حل سحري يمنع وقوع الحروب الشطرية والأزمات الدورية ، ويحافظ على التجزئة الكيانية في آن واحد.
ومما له دلالة عميقة أن تكون حرب فبراير 1979م آخر المحطات الخطرة لتلك الثنائية ، حيث انتهت تلك الحرب بتحولات نوعية في مجرى العلاقات بين الدولتين الشطريتين من جهة ، وكذلك في مجرى العلاقة بين الممارسة السياسية والثقافة السياسية من جهة آخرى .
ولا نبالغ حين نقول أن سياسة الرئيس علي عبد الله صالح أسهمت – منذ وصوله إلى الحكم عام 1978 في إعادة تشغيل مفاعيل العمل الوطني بهدي مبادئ وأهداف الثورة اليمنية التي اعاد الاعتبار لتاريخها وجدد زخمها من خلال إطفاء بؤر الحروب الأهلية وطي صفحات الصراعات الداخلية ، والحرص على الانفتاح والتسامح والقبول بالآخر ، والبحث عن القواسم المشتركة والسعي لتغليب قيم الحوار على ما عداها من القيم السائدة ، الأمر الذي أفسح الطريق لتأسيس ثقافة سياسية مستقلة عن هيمنة الأيديولوجيا وسلطتها ، ومنقطعة عن ثقافة الطاعة والخضوع التي تجيز قطع أعناق الروافض وملاحقة واضطهاد المخالفين !!
وبقدر ما أسهمت توجهات حقبة الرئيس علي عبد الله صالح في تأسيس ثقافة سياسية جديدة، بقدر ما أصبحت هذه الثقافة عنصراً فاعلاً في بنية الثقافة الوطنية التي نهضت لتخليص سؤال الوحدة من سلطة الأيديولوجيا ، فقد تميزت هذه الحقبة بإصرار الرئيس علي عبد الله صالح المتواصل على ممارسة تعب البحث عن اجوبة جديدة على الأسئلة التي تطرحها الحياة المعاصرة بكل متغيراتها وتناقضاتها ، بعيداً عن الأجوبة الجاهزة والحلول المعلبة ، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه المهمة تبرز على الدوام في الظروف الإستثنائية التي تشهد متغيراتٍ عاصفة ومتسارعة، وجراحاً غائرة ، وعوامل كبحٍ لا يُمكن تجاوزها بدون التخلص من قوالب التفكير المألوفة ، وطرائق العمل القديمة .
وكما أن الظروف تتغير باستمرار ، فإن الحقيقة تظل نسبية وليست نهائية ، والوصول إلى الحقيقة ليس سهلاً ولا بسيطاً .. ولذلك فإن النخب التي تعتقد أن الحقيقة النهائية في أيديها ، ولا ينبغي التعب من أجل البحث عنها يومياً ،بل يكفي تناولها من الملفات الجاهزة ، أو تقارير الأجهزة أوالكتب القديمة أوالوثائق الحزبية أو الشعارات الشعبوية ، إن النخب التي تعتقد بذلك، لا شك في أنها تخاطر بفقدان مقدرتها على التجدد والاستمرار ، وتغامر بضياع مستقبلها السياسي وبعدم قدرتها على أن تكون طليعة سياسية في المجتمع . ولأنه ليس كذلك فإن الرئيس علي عبد الله صالح تصرف طوال تلك الحقبة التي أشرنا إليها ، على نحو أضحى فيه مسكوناً بهموم البحث المستمر عن الحقيقة ، ومحاولة إعادة إكتشاف واقع بحاجة مستمرة إلى المزيد من الكشف .
من نافل القول أن الرئيس علي عبدالله صالح دأب على التواصل الحي مع العديد من قادة الشطر الجنوبي والقوى السياسية ورموز المجتمع المدني وممثلي الفعاليات السياسية والاقتصادية والإجتماعية والثقافية في البلاد ، وذلك بهدف التشاور والتنسيق والتعرف على وجهات النظر المختلفة ، والتفاعل مع ما يراه ممكناً وضرورياً من الرؤي والتصورات .. وقد جسد الرئيس بهذا السلوك التزاماً غير مسبوق بقواعد الممارسة الديمقراطية تجاه المجتمع ، حيث لا فرق بين مؤيديه ومعارضيه وخصومه ، بمن فيهم أولئك الذين قاوموه بالسلاح منذ وصوله إلى الحكم عام 1978 م .
بهذا السلوك أسهم الرئيس علي عبد الله صالح بقسطه في تأسيس ثقافة سياسية جديدة ، يستحيل بدونها معافاة جراح الصراع السياسي السابقة ، وصياغة مشروع وطني للتغيير يجسد روح وأهداف الثورة اليمنية ، ويتجاوز رواسب المشاريع القديمة التي تميزت بالإفراط في افتراض تمثيل الحقيقة ، والاستغراق في إجترار ثقافة الإلغاء والإقصاء التي كانت على الدوام نقيضاً للحرية وصنواً للاستبداد وعدواً للمعرفة ، بعد أن أفرطت في فرض وصايتها على العقل والحقيقة من خلال إضفاء القداسة على الأيديولوجيا السياسية بمختلف طبعاتها وتلاوينها الدينية والطبقية والقومية على حد سواء .
ما من شك في أن التيارات السياسية والفكرية في اليمن تكاد أن تكون امتداداً لتيارات مماثلة لها في الساحة العربية التي شهدت تجارب مأزومة ومشوهة أفرزتها المشاريع القديمة بعد ان طبقت على الصعيدين النظري والعملي أفكاراً وشعارات قومية واشتراكية وإسلامية..والحال ان المشاريع القديمة التي نقصدها كانت قد وصلت الى سدة الحكم في بعض البل دان العربية بوسائل إنقلابية أساسها الاعتماد على عنصر القوة ثم خسرت في نهاية المطاف وهجها وبريقها.
لم تتوقف الآثار السلبية لهذه التجارب الخاسرة على إضعاف حيوية المجتمع العربي وتهميش قواه الحية ، بل إمتدت لتصيب بدائها العضال مختلف النخب الحاكمة في تلك البلدان التي نكبت بتجارب شمولية فاشلة ، وعجزت عن تقديم نموذج قابل للإستمرار والتجدد وإنتهت الى إفلاس سياسي وفكري وثقافي تكونت على تربته الهشة أزمات وإنهيارات مدوية ، مقابل بروز مخاطر وتحديات قوية ، لا يمكن مواجهتها بدون إمتلاك مشروع جديد للتغيير يقوم بالدرجة الاولى على قاعدة تحرير السياسة من ثقافة الاستبداد والإلغاء والادعاء باحتكار الحقيقة.
في هذا السياق تفاعل البعد الثقافي الجديد لحقبة الرئيس علي عبد الله صالح مع الابعاد التي جسدها قيام إتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين في السبعينات كرد فعل لمشروع توطين التجزئة وتبريرها بواسطة تلفيق ايديولوجيا ثورية أو دينية تلفيقية..ومن نافل القول أن اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين وجد في مناخ المرحلة الجديدة حوافز قوية لتعظيم مساهمة الثقافة الوطنية والمثقفين الوطنيين في الفصل بين سؤال الوحدة وطوق الأيديولوجيا وقد شهدت فترة الثمانينات من القرن العشرين المنصرم تعاظماً ملحوظاً لنشاط حملة الفكر والثقافة والأدب المنضويين في إطار اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين الذي كان أول نواة موحدة للمجتمع المدني المستقل عن حكومتي الشطرين ، وأول منظمة اجتماعية غير حكومية تمثل ضمير اليمن الثقافي الوطني في ظل دولتين شطريتين .. حيث حرص الاتحاد على تفعيل الدور الوظيفي للثقافة الوطنية في مواجهة واقع التشطير، وجسد ذلك عملياً في بنيته التنظيمية وأهدافه ووسائله ، باتجاه الاستجابة لتحديات الوحدة .
ولم يكن من قبيل الصدفة أن يجد اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيون في نهج الرئيس علي عبدالله صالح بعد وصوله الى الحكم بيئة مثالية لتجسيد أهدافه ، فقد عجز الإتحاد منذ تأسيسه عام 1973م عن عقد اجتماعات هيئاته القيادية المنتخبة في صنعاء بحسب نظامه الداخلي الذي نص على أن الوطن كله - لا التجزئة - هو ساحة نشاطه ، وأن تنعقد اجتماعاته ومؤتمراته في عدن وصنعاء بالتناوب.. ولم يتمكن الإتحاد من فتح مقر له في صنعاء وعقد اجتماعات هيئاته القيادية فيها بصورة منتظمة إلاّ في فترة حكم الرئيس علي عبدالله صالح الذي لم يكتف بتمكينه من ذلك فقط ، بل وبتخصيص موازنة سنوية لمناشطه وفعالياته الإبداعية الوحدوية .
ولذلك فقد كان طبيعيا أن يلعب هذا الاتحاد ، وأن تلعب الثقافة الوطنية من خلاله ، دوراً حيوياً في دعم ومؤازرة مبادرة الرئيس علي عبد الله صالح الوحدوية التاريخية التي عرضها على قيادة الشطر الجنوبي من الوطن في أواخر الثمانينات ، وتوجت بالتوقيع على اتفاق 30 نوفمبر 1989م ، واتفاق 22 ابريل 1990 الملحق بمشروع دستور دولة الوحدة ، وصولاً الى إعلان قيام الجمهورية اليمنية والتحول نحو الديمقراطية في الثاني والعشرين من مايو 1990م العظيم .
وأخيراً بوسعنا القول ان الرئيس علي عبد الله صالح ما كان لينجح في تكليل العقد الأول من فترة حكمه بمبادرته الوحدوية التاريخية " التي عرضها على قيادة الشطر الجنوبي من الوطن في نوفمبر 1989 م ، وتدشين عقده الثاني بميلاد الجمهورية اليمنية والتحول نحو الديمقراطية في 22 مايو 1990 ، لولا إدراكه المبكر والواعي لأهمية تخليص السياسة من سلطة الأيديولوجيا، وتجنيب البلاد من مخاطر تحويل البلاد إلى ساحة مكشوفة للإستقطابات الدولية والأقليمية .
ومما له دلالة عميقة أن يكتسب يوم الثاني والعشرون من مايو 1990م أبعاداً وطنية وعالمية جعلته واحداً من أبرز الأحداث الوطنية اليمنية في هذه الحقبة الراهنة من عصرنا الحافل بالمتغيرات والانعطافات الكبرى، وذلك من خلال ارتباط ميلاد الجمهورية اليمنية الموحدة ، بالتحول نحو الديمقراطية التعددية التي تشكل اليوم محتوى المسار الراهن لتطور المجتمع المدني في عصرنا.
ولما كانت التعددية الحزبية وحرية الصحافة وحرية الفكر وحرية التعبير تُعد من أبرز سمات التوجه السياسي للجمهورية اليمنية الموحدة، فقد كان من الضروري أن يخوض شعبنا من خلال نهج التوجه الديمقراطي اختبارات شاقة لإثبات أصالة انتمائه إلى تحولات عصرنا الجديد، وتجنيب مسار تطوره اللاحق من المخاطر الناجمة عن اختلال العَلاقة بين السلطة والمجتمع، وهو الاختلال الذي تجسد في كثيرٍ من البقع السوداء التي طفت فوق سطح الحياة البشرية، حين أدى غياب الحرية إلى سيادة الشمولية الاستبدادية، واغتراب المجتمع عن السلطة، واغتراب الإنسان عن الحضارة، وما رافق ذلك الاغتراب من انتهاك لحقوق الإنسان وتشويه صورة الحياة.
صحيح أنّ الوحدة والديمقراطية تشكلان نتاجاً موضوعياً للثورة اليمنية (26 سبتمبر - 14 أكتوبر) التي قادتها الحركة الوطنية اليمنية بما هي عملية ثورية تاريخية استهدفت إخراج وتخليص شعبنا ومجتمعنا من أنفاق التخلف والعزلة والاستبداد والاستعمار والتجزئة التي كرستها عهود الإمامة والاستعمار وركائزه السلاطينية البائدة.. لكنّه من الصحيح أيضاً أنّ الثورة اليمنية لم تكن تعنى شيئاً في حياة شعبنا بدون وصولها إلى النقطة التي تمكن الإنسان اليمني من استعادة حضوره في ميدان الإبداع الحضاري ، بعد حقبة طويلة من الانقطاع في ظل النظام الإمامي والحكم الاستعماري الأنجلو سلاطيني اللذين تسببا في تعطيل قدرات شعبنا وإرهاقه بالآلام والمواجع والكوابح الثقيلة، وعزله عن عالم الدول المتحضرة.
من نافل القول إنّ العودة إلى ميدان إبداع الحضارة لا تعني العودة إلى النقطة التي تجمدت عندها الحضارات الغابرة ، بقدر ما تعني العودة للمساهمة في آخر نقطة وصلت إليها الحضارة البشرية المعاصرة، ولا ريب في أنّ عودةٍ كهذه - إلى ميدان إبداع الحضارة - من شأنها أن تضع على عاتق شعبنا مهمات صعبة يُعد إنجازها شرطاً للحاق بحركة العصر، وشرطاً للخروج من أنفاق ودهاليز الماضي المظلمة.
الثابت أنّ الإبداع الحضاري المعاصر لا يقوم بغير الحرية التي كانت وستظل صنواً لتطور الحضارة البشرية منذ أقدم العصور، حيث أثبت التاريخ أنّ انهيار كثير من الحضارات والدول القوية، ارتبط على الدوام بطغيان الشمولية والاستبداد، والابتعاد عن قيم الحرية ومصادرة الدور الطليعي للعقل والتفكير النقدي.
بوسعنا القول إنّ ثمّة سقوطاً مدوياً حدث لكثيرٍ من المشاريع المعاصرة التي كانت تدعي انتسابها إلى حضارة العصر بعد أن عجزت عن تأكيد حضورها الحقيقي والفاعل في ميدان إبداع الحضارة.. أما السبب الرئيسي في سقوط تلك المشاريع فقد كان يتمثل في تجاهلها لأهم سنن التطور في حياة المجتمع البشري، وهي الحرية بما هي واحدة من أهم حقوق الإنسان.
وبقدر ما تبدو القوى التي تهيمن على ميدان إبداع الحضارة قويةً بما تمتلكه من نظم وتشريعات ومؤسسات تستمد حيويتها من طاقة الحرية التي تتجدد في أعماقها، بقدر ما تبدو حضارتها مهددة أيضاً بأخطار يصعب السيطرة عليها، إن هي استمرت تقود عالماً لم تكتمل حريته بعد.
بهذا المعنى لايغدو تصحيح الاختلالات والتشوّهات من أبرز واجبات القوى التي تتفوق في ميدان إبداع الحضارة وتحتكر الحرية والاستقلال لنفسها فقط، ولكن تصحيح مثل هذه الاختلالات والتشوّهات هو أيضا ًواجب كافة قوى المجتمع البشري المعنية بمستقبل الحضارة الإنسانية ومستقبل العالم.
في سياق تاريخي كهذا يمكن للحرية أن تستعيد حضورها بوصفها القوة الدافعة لمجرى الحضارة المعاصرة.. وفوق كل ذلك تستعيد الحرية قيمها المنسية بوصفها أهم سنن التطور التي يستحيل بدونها ضمان إنقاذ المسار اللاحق لحضارة الألفية الثالثة من آلام وتشوّهات وتناقضات الأزمنة الغابرة والعصور الخوالي.. وبتعبير أدق إنقاذ الحضارة المعاصرة من الموت، والحيلولة دون فنائها والتحاقها بالحضارات الميتة التي أضحت مجرد تاريخ مكتوب بسطور هامدة في بطون كتب الحوليات القديمة.
حقاً لقد تحرر شعبنا من النظام الإمامي الاستبدادي والحكم الاستعماري الأنجلو سلاطيني.. بيد أنّ هذه الحرية التي تعمّدت بالدماء والتضحيات الجسيمة لم تكن مكتملة.. والذين يقولون بغير ذلك منافقون.. لأننا كنا نمارس إرادة الكفاح من أجل الحرية في ظل عالم مضطرب، وحضارة مأزومة.. ولذلك فقد كان طبيعياً أن يفتقد كفاحنا من أجل الحرية كثيراً مما كان يفتقده عالمنا وحضارتنا من مبادئ وقيم الحرية.
لقد انتفض التاريخ ليخلص حضارتنا وعالمنا من التشوّهات والتناقضات التي أرهقت البشرية وكادت أن توصلها إلى حافة الفناء الشامل بفعل الأوهام التي حادت عن سنن التطور حين تمّ فرض سلطة الأفكار والأيديولوجيات على عقول الناس بواسطة سلطة الدولة، فيما تم تحويل دور الإنسان في الحياة إلى مجرد خادم وحارس لتلك الأفكار والأيديولوجيات التي كانت تمارس سلطتها على العقل باسم الثورة أو الدين أو القومية أو الطبقية. ويحق لنا القول إنّ شعبنا اختار لنفسه موقعاً لائقاً في قلب انتفاضة التاريخ الأخيرة.. فهو من جهة استعاد الوجه الشرعي لوطنه الذي كان مشطوراً.. كما أنّه من جهةٍ ثانية وضع أقدامه على الطريق الصحيح الذي يؤمن له استكمال شروط حريته .. بمعنى أن تكون استعادة حرية الإنسان اليمني جزءاً أصيلاً من نسيج عملية استعادة حرية الإنسان في العالم.
هكذا كان اختيار نهج التوجه الديمقراطي وسيلة شعبنا وقواه الحية لبلوغ آفاق الحرية، لكن طريق الحرية لا يكون مضموناً بدون تخليصه من غبار الأزمنة التي كانت الحرية فيها إما ناقصة ومشوّهة، أو غائبة. وقد أثبتت الانتخابات والموقف من نتائجها أنّ اختيار طريق الديمقراطية لا يتم بمجرد التعاطي مع خطاب سياسي وإعلامي منمق بعبارات الديمقراطية، بمعنى أنّ طريق الديمقراطية يبدأ بتعلم الديمقراطية والتخلص من رواسب الثقافة السياسية الشمولية وعاداتها وكل ما يتنافى مع مبادئ وقيم الديمقراطية ، وصولاً إلى الخلاص النهائي من كل ما من شأنه أن يقودنا إلى مغامرة الصدام مع سنن التطور، وهي مغامرة يكون الانتحار السياسي خاتمتها وهو بعض من عار التاريخ الذي لا نرغب لأحدٍ أن يتلطخ به في نهاية المطاف.
لا ريب في أنّ تعلُّم الديمقراطية يبدأ بتعلُّم قواعد ومبادئ العيش في ظل الديمقراطية التعددية والاستعداد لقبول اختلاف وتنوع الأفكار والإرادات والمصالح . ولما كان الاختلاف والتنوع والتعدد في الحياة الإنسانية من السنن الطبيعية لتطور المجتمع البشري ، فإنّ تعلم الديمقراطية يقتضي إضفاء النزعة الإنسانية على حياتنا في ظل التنوع والتعدد والاختلاف ، بعيداً عن سنن الغاب القائمة على التسلط والتصيّد والإبادة، وبعيداً عن سنن الاستبداد القائمة على الإنفراد والإلغاء والإقصاء والتخوين والتكفير والإرهاب والادعاء باحتكار الحقيقة .
والثابت أنّ إضفاء النزعة الإنسانية على حياتنا يتطلب قدراً أكبر من إعلاء شأن القيم الإنسانية واحترام حقوق الإنسان ، الأمر الذي لا يمكن تحقيقه بدون توفير الضمانات الكاملة لتمكين الإنسان من أن يكون حراً في اختياراته واستعداداته وميوله في الحياة.. بدءاً باختيار يقينه السياسي والفكري المستقل بطريقة حرة ، وانتهاءً باختيار حكامه وأسلوب مشاركته في إدارة شؤون المجتمع الذي يعيش فيه.
لقد علَّمنا التاريخ أنّ التطور الحر للفرد هو شرط للتطور الحر للجميع.. وعلّمنا التاريخ أيضاً أنّ هذه الحقيقة لا يمكن تجسيدها بدون توفير الرافعة التي تضمن في آن ٍ واحد ٍ تطور الفرد الحر وتطور المجتمع الحر . و قد تعلمت البشرية على امتداد حوادث التاريخ حقيقة أنّ هذه الرافعة كانت وستظل دائماً تتجسد في شكل ومحتوى العَلاقة بين الفرد والمجتمع من جهة،وبين المجتمع والدولة من جهةٍ أخرى ،الأمرالذي يستوجب مقاربة رصيد الرئيس علي عبدالله صالح في بناءالدولة الوطنية الحديثة طوال أكثر من 32 عاماً تولى خلالها قيادة الدولة قبل وبعد تحقيق وحدة الوطن والتحول نحو الديمقراطية التعددية،على النقيض من المشاريع والأفكار التي كانت ولازالت تدعو الى بناء دولة دينية شمولية استبدادية والتراجع عن النظام الجمهوري ، من خلال الدعوة الى إحياء نظام الخلافة أو نظام الامامة، على نحو ما سنأتي اليه في الحلقة القادمة بإذن الله .

تمت طباعة الخبر في: السبت, 23-نوفمبر-2024 الساعة: 02:55 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-16455.htm