عارف الدوش - قبل السابع عشر من يوليو 1978م بأيام قليلة كانت "الأطراف المعنية في اليمن" من رجال سياسة وحكم ومراكز قوى مدنية وعسكرية وكل المحللين السياسيين والمتابعين لشئون الحكم في اليمن كل هؤلاء كانوا مجمعين على أن اليمن عبارة عن بركان يغلي فوهته العاصمة صنعاء بعد مقتل الرئيس أحمد حسين الغشمي في 24 يونيو 1978م بشكل دراماتيكي فتح كل الاحتمالات لمواجهة بين الشطرين واضطرابات في البلاد بشكل عام، فلم يجازف كبار القوم ولا رجال الخبرة والتجربة من الاقتراب من كرسي الرئاسة التي كانت عبارة عن كرة نار ملتهبة يومها وأصبح الاقتراب من كرسي الرئاسة يعني اقتراباً من الموت أو السير نحو القبر، حيث كان قد سبق اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي وجاء اغتيال الرئيس الغشمي ليزيد من احتقان الوضع السياسي، وكانت سلطة الدولة لا تتجاوز حدود العاصمة صنعاء أو مناطق محدودة من العاصمة. كما كانت هناك مآس تشطيرية تدمي القلوب خاصة إذا ما تذكرنا أنه أعقب اغتيال الرئيس الغشمي في صنعاء اغتيال الرئيس سالم ربيع علي (سالمين) في عدن الأمر الذي أدى إلى ارتفاع سخونة الأجواء بين "الشطرين" وكادت البلاد من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها أن تنفجر إلى شظايا، ورجال السياسة والحكم أيديهم على قلوبهم خوفاً على الوطن من الانفجار والتشظي وكان الجميع يتحسسون رؤوسهم في كل لحظة وساعة.
وفي تلك الأيام المشحونة بالخطر أختار القدر أحد أبناء اليمن إنه الرائد علي عبد الله صالح قائد لواء تعز - قائد معسكر خالد بن الوليد من بين كل القادة واصطفاه من بين كل السياسيين ورجال الحكم ليتسلم مقاليد الحكم حماية لليمن من الأخطار المحدقة بها فما كان من رجال السياسة والحكم والقادة وأهل الحل والعقد في البلاد المتواجدين في مجلس الشعب التأسيسي وخارجه إلا أن استجابوا طائعين لاختيار واصطفاء القدر لأن وراء ذلك حكمة بالغة أثبتتها الأيام والسنوات فيما بعد وهو ما أكدته مصادر التاريخ والذين عاصروا تلك الأيام العصيبة حيث تشير تلك المصادر إلى أن قادة "الأطراف المعنية" حينذاك أجروا اتصالات بالأخ الرائد علي عبد الله صالح قائد لواء تعز - قائد معسكر خالد بن الوليد وطلب منه من كانوا مجتمعين في العاصمة صنعاء يناقشون وضع اليمن والخروج من المحنة أن يتولى مقاليد الحكم في البلاد لإخراجها من محنتها.
ويقول الأخ الرئيس عن ذلك الطلب وتلك المشاركة في ذلك الاجتماع الهام: "ولما وصلت إلى هناك سألتهم عما حصل فرووا لي القصة وأدركت للمرة الأولى حقيقة ما حدث، وشاركت في الاجتماع وسألتهم ما العمل ؟ وما هي الإجراءات؟".
من الفقرة السابقة يتضح لنا أن مشاركة الأخ الرئيس في الاجتماع سالف الذكر كانت فاعلة ولم تكن مجرد حضور للاستماع وهو ما تدل عليه تساؤلاته عن ما يمكن أن يتم عمله وما هي الإجراءات التي يلزم اتخاذها لإخراج البلاد من الأزمة العصيبة التي كانت تمر بها، ونلاحظ انه لم يطلب القيام بعمل معين، لكنه تسأل وترك الأمر للتشاور وتبادل الرأي.
وهكذا نجد أن الأخ الرئيس في تلك اللحظة التي لم يكن وقتها قد تسلم مقاليد الحكم في البلاد كان ميالاً للحوار والتشاور وتبادل الرأي وهذا الأمر تجلى بوضوح في كل مواقف الأخ الرئيس فيما بعد وقد تحدث عنه ولمسه كل من عمل معه منذ اللحظة الأولى التي قادته فيها الأقدار واختارته الأطراف المعنية من رجال الحكم والسياسة وأهل الحل والعقد بالانتخاب في مجلس الشعب التأسيسي رئيساً للجمهورية وقائداً عاماً للقوات المسلحة في الـ17 من يوليو 1978م وزاد ذلك التجلي وضوحاً وإشراقاً عقب توليه مقاليد السلطة مباشرة. بعد أن راهن كثيرون بأن الأخ الرئيس علي عبد الله صالح لن يجلس على كرسي الرئاسة إلا أياماً أو شهوراً، لكن القدر كان وراء الاصطفاء والاختيار الذي كان تم قبل ذلك فالرجل حمل كفنه بين يديه وتقدم بشجاعة الفارس لتحمل المسئولية غير هياب من المصير الذي ينتظره فكتبت له الحياة.
وفي ظل أجواء الخوف والتوجس خوفا على البلاد والعباد ومن وسط شبح الاغتيالات والانقلابات الذي يخيم على اليمن كلها استطاع الأخ الرئيس أن يأتي بفكر جديد إلى ذلك الواقع المشحون بالترقب والحذر والخوف وملخص هذا الفكر هو التحلي بالشجاعة والميل الشديد للحوار والتشاور وتبادل الرأي وبذلك أحدث انقلاباً في الفكر والممارسة عندما حمل مشروعاً جديداً لم يحمله قائد يمني قبله ومن خلال قراءة تاريخ الرجل الحافل يتضح أنه كان يحمل طموحات عظيمة ولدية القناعة الكاملة بها وبالتالي توفرت فيه مواهب القدرة على تنفيذها.
ولهذا جاء أول خطاب للأخ الرئيس أمام مجلس الشعب التأسيسي عقب انتخابه رئيسا للجمهورية وقائدا عاما للقوات المسلحة في 17 يوليو 1978م كاشفاً عن توجهات الرئيس الجديد فقد أعلن أنه يمد يده نظيفة إلى الجميع من أجل بناء الوطن ومن أجل سعادة شعبنا الحبيب وأمنه وسيادته. وقال: "لن نفرق بين مواطن ومواطن إلا من حيث السلوك والممارسة" وطالب بأن تتكاتف وتتعاضد معه أيدي الجميع دون استثناء وأكد أنه جاء "من اجل اليمن وسعادة الشعب".
حقاً إنها بدايات تمهد لما بعدها ويعتبر أول خطاب للأخ الرئيس بمثابة دعوة للوحدة الوطنية. كما عبر الأخ الرئيس عن الإصرار على مواصلة مسيرة التنمية الشاملة في إطار من الحرية والديمقراطية. وهنا نجد أن الأخ الرئيس ربط بين تحقيق التنمية الشاملة والحرية والديمقراطية وبين بدايات مشروعه السياسي الجديد الذي ركز فيه على الوحدة الوطنية والديمقراطية والحرية وبناء الإنسان منطلقاً فيه من رؤيته التي استلهمت منطلقاتها من أهداف ومبادئ الثورة اليمنية التي تربى في كنفها وناضل عملياً من أجل ترسيخها.
وإذا عدنا إلى البيان الرئاسي للأخ الرئيس الصادر عام 1979، أي بعد عام واحد لتوليه مقاليد الحكم سنجده يقول حول الديمقراطية: "نرى اليوم أنه لا بد أن نقفز بهذه الخطوة دفعة واحدة للأمام من خلال ممارسة الشعب اليمني حقه في التعبير عن إرادته في اختيار من يمثله عن طريق الانتخابات الحرة المباشرة النزيهة التي لا تخضع لأي تأثيرات مهما كان نوعها، وإننا على يقين من أن شعبنا قادر على أن يمارس حقه في الديمقراطية على أكمل وجه".
وهكذا يعلن الأخ الرئيس بعد عام واحد من توليه مقاليد الحكم بدون مواربة إيمانه القوي بالحوار والتشاور ليكشف أنه أستوعب معطيات الواقع وتحول هذا الاستيعاب إلى إيمان حقيقي وممارسة من خلال الاعتراف بالآخر وقبوله والإقرار بحقه في التعبير عن آرائه وإرادته بحرية من خلال الديمقراطية.
انطلاقاً من ذلك تمكن الأخ الرئيس من توحيد كافة القوى وألوان الطيف السياسي في مشروع وطني واحد ينبذ التعصب والمناطقية والقبلية والطائفية ولقي خطاب الأخ الرئيس في الذكرى الـ17 للثورة سبتمبر بعد عام واحد على توليه مقاليد السلطة لقي اهتمام كبير من قبل الأوساط السياسية والمثقفين والمواطنين باعتباره ثورة في دعوته المباشرة إلى ضرورة تحقيق الوحدة الوطنية بين أفراد المجتمع وخلق أجواء من الثقة والاستقرار والاطمئنان والأمان.
وهكذا برزت قضية الوحدة الوطنية بصورة واضحة في ذلك الخطاب باعتبارها من القضايا التي ظلت تشغله منذ اليوم الأول لتسلمه مقاليد الحكم في البلاد ولم يقف ذلك الخطاب الهام عند تلك القضية بل أكد على تحقيق العدالة الاجتماعية باعتبار العدل أساس الحكم والعدالة الاجتماعية تحقق لكل مواطن أن يطلق إمكانياته وقدراته من أجل البناء وفي سبيل المجتمع.
وجاء خطاب فخامة الرئيس عام 1981م في العيد الـ19 لثورة سبتمبر الخالدة ليطرح من جديد مفاهيم تعرض لها في أول خطاب له أمام مجلس الشعب التأسيسي في الـ17 من يوليو عام 78م، لكنه هذه المرة سلط مزيداً من الأضواء على مفاهيم الحرية والديمقراطية حيث قال: "عندما نتحدث عن الحرية والديمقراطية إننا نعني ما نقول إذ أن الحرية هي مسؤولية يمارسها المواطن في القول والعمل والفكر ويعيشها في حياته اليومية لا رقيب على حرية الفرد إلا ضميره ولا قيود على الحرية بمفهومها الوطني الشامل إلا ما تفرضه المصلحة الوطنية". وأضاف: "إن الديمقراطية التي نعنيها هي الديمقراطية التي يعيشها ويمارسها شعبنا. الديمقراطية من خلال مشاركة الإنسان في حمل المسؤولية لا تسلط فيها لفرد أو أسرة أو جماعة أو تنظيم مهما كان شكله أو اتجاهه".
وهنا نجد الأخ الرئيس يربط بإحكام بين الديمقراطية والحرية والوحدة الوطنية وتوحيد الجبهة الداخلية، ولأول مرة فتح الأخ الرئيس النوافذ والأبواب ومنح مساحات واسعة من الحرية والديمقراطية على أن لا تتعارض مع الوحدة الوطنية والمصلحة الوطنية العليا للبلاد ورهن حرية الفرد بحرية المجتمع.
وإذا كانت البدايات، أي بدايات، صعبة فإن شجاعة الأخ الرئيس علي عبد الله صالح وميله الشديد للحوار وتواضعه الجم وحرصه على استشارة الآخرين والاستماع إليهم والاهتمام بهم - وهي صفات تحلى بها وشهد له بها كل من عمل معه منذ البدايات الأولى- كانت هي السر وراء نجاحه الكبير والمتميز ومكنته من صنع تجربة وطنية متميزة في ظل مناخات كانت تتجاذب فيها القوى السياسية الدولية المؤثرة في حركة التطور العالمي من الشرق والغرب.
وسجل التاريخ في أنصع صفحاته للرئيس علي عبد الله صالح أنه وضع عقداً اجتماعياً وسياسياً يمنياً وفي أساس هذا العقد الاجتماعي السياسي تحقيق الوحدة الوطنية وبناء الدولة اليمنية الحديثة فكان انعقاد المؤتمر الشعبي العام خلال الفترة من 24- 29 أغسطس 1982م وإقرار الميثاق الوطني دليل العمل الفكري والسياسي في صيغته النهائية بالإجماع ليصبح ميثاقاً وطنياً يلتزم به الجميع كونه جاء تعبيراً عن قناعات ورؤى كل ألوان الطيف السياسي في البلاد، وبذلك حقق فخامة الأخ الرئيس أول آماله الوطنية الكبرى في ملء الفراغ السياسي والتأليف بين القوى السياسية بكل ألوان الطيف السياسي وتخليصها من حالة التنافر لتلتقي حول الحد الأدنى من المبادئ والقواسم المشتركة وبلورة أهداف الثورة اليمنية واتخاذها معالم على طريق النهوض الوطني الشامل.
وبالعودة إلى خطابات وكلمات الأخ الرئيس علي عبد الله صالح منذ الـ17 من يوليو 1978م حتى 22 من مايو 1990م -يوم رفع علم الجمهورية اليمنية التي جاءت بإعلان التعددية السياسية وحرية التعبير والرأي والرأي الآخر- سيجد أي باحث منصف أن خطابات وكلمات وممارسة الأخ الرئيس وكل الممارسات العملية على ارض الواقع تؤكد على أهمية تحقيق الوحدة الوطنية من خلال ربطها بالديمقراطية والحرية وأن الوحدة الوطنية والديمقراطية والحرية لا يمكن لها أن تستقيم وتنتظم كفكر وممارسة إلا من خلال وثيقة فكرية وطنية وإطار سياسي فكان له ما دعا إليه وناضل من أجل تحقيقه إلى أن جاءت الوحدة اليمنية بالتعددية السياسية والحزبية.
وظل الأخ الرئيس يناضل من أجل ترسيخ قيم الحوار ونبذ التعصب والفرقة من خلال تأكيده وترديده باستمرار في خطاباته وكلماته بقوله: "إن أعظم وأبرز منجزات الثورة اليمنية هو استعادة الوطن لوحدته وقيام الجمهورية اليمنية وإننا نؤكد العزم على مواصلة بذل الجهود من أجل ترسيخ النهج الديمقراطي وتطويره وندعو الجميع في الوطن أحزاباً وأفراداً في السلطة والمعارضة إلى مزيد من التلاحم والتكاتف والوحدة الوطنية للنهوض بمسؤوليات بناء الوطن وتحقيق ازدهاره وتقدمة، وهذا يتطلب السمو في الصغائر ونبذ الخلافات الهامشية والتمسك بالثوابت الوطنية والتطلع الواثق نحو الغد بعيداً عن الانجرار للماضي وأساليبه العقيمة والاستفادة من الدروس والعبر التي أفرزتها الأحداث والتحولات على امتداد مسيرة الوطن منذ قيام الثورة فالوطن يتسع للجميع وهو ملك الجميع ومسؤولية بنائه والدفاع عن أمنه واستقراره وسيادته واستقلاله واجب الجميع دون استثناء".
ولأن الأخ الرئيس ظل في كل الأحوال والظروف يعيش لشعبه ووطنه فبادلته الجماهير الوفاء بالوفاء والولاء بالولاء وإنّ أبلغ تعبير عن عمق حبها والتفافها حول قيادته تمسكها به إعلانها انه لا تقبل بغيره رئيساً وقائداً وذهبت تجدد له الولاء والوفاء في كل دورة انتخابية.
|