الأحد, 26-سبتمبر-2010
الميثاق نت -  الدكتور‮/‬حسن‮ ‬محمد‮ ‬مكي -
في صباح يوم الاربعاء 26سبتمبر 1962م، وهو اليوم الذي انطلقت في ساعته الاخيرة الرصاصات الاولى ممهدة الطريق لقيام الجمهورية، كنت في القصر مع القاضي عبدالرحمن السياغي والدكتور عدنان ترسيسي نقوم بمراجعة العديد من مشاريع المراسيم التي كنا مكلفين من الإمام الجديد محمد البدر بدراستها واقتراح صيغها.. وبعد انتهائي من الاجتماع مع القاضي السياغي همس السلال في أذني بضرورة مغادرة القصر في هذا الوقت، وكأنه يعطيني مؤشراً أن العد التنازلي لقيام الثورة قد بدأ، وينبغي الاشارة هنا الى أن السلال قد قام بدور كبير في إنقاذ الحركة‮ ‬الوطنية‮ ‬على‮ ‬مستويين‮ ‬بالغي‮ ‬الأهمية‮.‬
الأول: يتصل بقيادة الثورة، لأن تنظيم الضباط الأحرار كان مقتنعاً أنه في حاجة ماسة الى واجهة عسكرية كبيرة معروفة تقود العملية بكاملها وتقدم للناس لتحظى بالقبول، وكأنهم يقتدون في ذلك بما فعل جمال عبدالناصر حين قدم في بداية الثورة المصرية شخصية عسكرية كبيرة معروفة،‮ ‬أي‮ ‬اللواء‮ ‬محمد‮ ‬نجيب،‮ ‬وكانت‮ ‬الأنظار‮ ‬تتجه‮ ‬الى‮ ‬العميد‮ ‬حمود‮ ‬الجائفي‮ ‬الذي‮ ‬كان‮ ‬المرشح‮ ‬الاول‮ ‬لقيادة‮ ‬الثورة‮ ‬في‮ ‬حين‮ ‬أن‮ ‬السلال‮ ‬كان‮ ‬بديلاً‮ ‬ثانياً‮ ‬بسبب‮ ‬أن‮ ‬الكثير‮ ‬من‮ ‬الضباط‮ ‬كان‮ ‬بالكاد‮ ‬يتقبله‮.‬
وحين اعتذر الجائفي ورفض رفضاً باتاً المشاركة في التحرك وتولي قيادة الثورة، أقدم السلال بشجاعة على قبول المغامرة، وتحمل مسؤولية قيادة الثورة في وقت ضيق وحرج للغاية، على الرغم من عدم استجابة تنظيم الضباط الاحرار لمطالبته بالحصول على معلومات كافية عن هذا التنظيم‮ ‬وعن‮ ‬خططه‮ ‬للقيام‮ ‬بالثورة‮.‬
أما المستوى الثاني والأهم بدلالاته الاستراتيجية فهو أن السلال قد تحرك من داره الى مقر القيادة في الكلية الحربية في وقت كانت فيه القوى العسكرية التي فجرت الرصاصات الاولى في أمس الحاجة الى الذخيرة، بعد أن بدأت ذخائر الثوار تنفد، وبدأ الخوف يدبُّ في نفوس الضباط الثائرين لعدم وجود مصدر للحصول على الذخائر، وهنا تحمل السلال المسؤولية التاريخية بعقلية القائد الجريء ليوفر للثورة اليمنية أحد أهم أسباب النجاح، حين أصدر أوامره الى أمير مفرزة قصر السلاح بفتح الأبواب والسماح بنقل الذخائر الى مقر القيادة بحجة التصدي لأعداء الإمام البدر (كان جميع الموالين للإمام البدر يتوقعون أن يتحرك أنصار عمه الحسن لمعارضة تولي البدر والمطالبة بأن يتولى الحسن الإمامة)، وحتى يتجاوز السلال امتناع قائد مفرزة قصر السلاح عن تسليم الذخائر للثائرين باعتباره ممن لا يؤيدون الثورة، ذيّل أمر تسليم الذخائر بتوقيع قائد الحرس الملكي، وهي الوظيفة التي كان يتولاها رسمياً، وهكذا كان السلال يستخدم صفته الرسمية ليقنع أنصار الإمام بتسليم ذخائر يستخدمها من يتولون الاجهاز النهائي على النظام الإمامي الملكي.
وكان مخطط القيام بالثورة يقوم على ركيزتين، تتمثل الأولى في تنفيذ عملية استشهادية مباشرة يقوم بها العميد حسين السكري باغتيال الإمام، وكان الهدف من هذه العملية إرباك النظام الإمامي والتمهيد للتخلص منه بقتل رأس النظام وقائده الإمام محمد البدر، لكن محاولة السكري فشلت، وقيل ان حرس البدر بادره بإطلاق النار عليه بعد أن تعطلت بندقيته، اما الركيزة الثانية فقد كانت تحرك الضباط الاحرار للهجوم على القصر الملكي (دار البشائر)، وبعد أن انتظرت قيادة الثورة ان ينفذ السكري ما كان قد كلف به دون أن يبلغها ما يفيد بأنه نجح في تنفيذ مهمته، تحركت القوات التي استطاعت القيادة تحريكها بعد ساعة واحدة من تلك المحاولة غير الناجعة، وكنت في تلك الساعة قد عدت الى دار الضيافة بعد أن أخبرني السلال بسرعة مغادرة القصر، وتمددت على السرير واضعاً مسدسي تحت رأسي انتظر ما سيحدث ولم تمض سوى دقائق حتى سمعت دوي أول قذيفة اطلقت لتقطع صمت الليل وسكونه وتأكدت حينذاك أن شرارة الثورة اليمنية قد اندلعت، وأن عصراً جديداً قد بدأ بتلك الطلقة التي تقطع صمت الزمن وتضع نهاية لنظام حكم لم يعد له مكان في عالم يتغير من حوله وهو سادر في غفلته وجموده، وتوالت طلقات المدافع واشتد قصف الضباط للقصر في ليلة مقمرة، إذ كان القمر بدراً يضيئ الطريق الجديد الذي اختطه الثوار لمستقبل اليمن، وانطلقت الدبابات باتجاه دار البشائر، وكان من ضمن الاسباب التي سهلت تقدم الدبابات ان الخبرة العسكرية للكثير من حرس النظام الإمامي في مواجهة الاسلحة الحديثة كانت محدودة، وكان من اسباب هزيمة البدر اعتقاده ومن يدافعون عنه من الحرس الملكي التقليدي ان الدبابات والمدرعات آلة عسكرية جبارة تدك كل شيء أمامها، وانه يستحيل مقاومتها، وعدم تعودهم على مواجهتها، وقناعتهم بأن الافراد لا يستطيعون التصدي لها، ولذا آثروا عدم اعتراض أي من دبابات الثورة باستثناء تلك التي تعطلت أمام بوابة القصر، وتم رش الوقود عليها وإحراقها على الرغم من أن الكثير من الحرس كان قد تدرب على استخدام البازوكا في التصدي للدبابات، ولذلك لم يصدر البدر أوامره ببذل أي جهد منسق ومنظم لمقاومة الثورة، وكانت المقاومة التي أبداها بعض أنصار النظام مبعثرة وغير فاعلة، والغريب أن أجهزة الهاتف ظلت تعمل ولم يتم قطعها بدليل أن البدر ظل يواصل الاتصال الهاتفي من قصره دار البشائر، ومن خارجه بعد أن خرج منه ، وأذكر أننا تفاجأنا به يتصل بعدنان ترسيسي في الرابعة من بعد ظهر يوم الخميس 27سبتمبر الى دار الضيافة وتحدث معه، كما طلب التحدث اليَّ، وحين أجبته قال لي: طمئن الأجانب الموجودين في دار الضيافة وقل لهم إن ما حدث محاولة قام بها مجموعة صغيرة من شباب طائش سيتم القضاء عليهم سريعاً وستعود الأمور الى طبيعتها، وأعتقد أن الاتصال تم بعد أن هرب البدر من قصره في حين كنا قد اقتنعنا بأنه دُُفن تحت أنقاض قصره »دار البشائر« حسبما كانت إذاعة صنعاء تردد وكانت دهشتي شديدة لبقاء الهاتف يعمل، ولعل الضباط لم يهتموا بقطع الهاتف لأنه كان غير موجود في منازل الكثيرين منهم، ولم يكن يتوافر الا‮ ‬في‮ ‬بيوت‮ ‬بعض‮ ‬المسؤولين‮ ‬وبعض‮ ‬المؤسسات‮ ‬الحكومية‮.‬
ولا يفارقني قط مشهد تساقط القذائف على دار البشائر، إذ كان القليل منها يصيب القصر والأكثر يخطئه، وتوالى القصف حتى جاءت دبابات قليلة ومدرعة وهددت القصر عن قرب، والغريب أن الاطفال وطلبة المدرسة الداخلية الواقعة في ميدان شرارة »التحريرحالياً« على بعد حوالى مائة متر من القصر، خرجوا في الصباح الى الميدان وأحاطوا بمن يهاجمون القصر على الدبابات والمدرعات، وبدأت هتافاتهم تعلو، وجاءوا بالشاي والكدم (الخبز) من المدرسة لكي يتناول المهاجمون طعام الإفطار، وواصلوا التجمهر في الميدان على الرغم من عدم توقف إطلاق النار من بيوت كبار المسؤولين الحكوميين، لكن إعلان وفاة البدر أدى مفعوله السياسي التكتيكي بسرعة في انهيار النظام الإمامي، فقد بدأ أفراد أسرة الإمام وكبار أعوانه بالهرب الى الأرياف، واستخدموا الخدعة حيث تركوا حرسهم يواصلون إطلاق النار من البيوت حتى يظن الثوار أنهم لا يزالون في الداخل في حين كانوا قد خرجوا، وعندما وصل الضباط لاعتقالهم اكتشفوا انهم قد هربوا وهكذا هرب جميع أفراد الاسرة الإمامية في صنعاء ما عدا سيف الاسلام علي الذي ظل في بيته حتى اعتقاله وإعدامه، وجاء الى قيادة الثورة ما يفيد ان ابنه الحسن بن علي اتجه الى قرية جدر »غرب مطار الرحبة«، فلحقت به دبابة وجدت نفسها أمام المقاومة الشديدة مضطرة لنسف البيت الذي نزل فيه، ولم يكن رجال القبائل قد تعودوا على رؤية الدبابات تقذف حمماً من النار لا تقاوم، وكان معظم من وقع في الأسر من الأسرة المالكة في تعز، وقد أُعدِم عدد من أفراد أسرة الإمام بعد ان اتضحت واقعة ان البدر هرب ولم يمت، فقد خاف الضباط من أن يحدث لهم ما حدث للضباط الذين حاولوا الاطاحة بالإمبراطور هيلاسيلاسي الذي عاد الى الحكم وأعدم جميع الضباط المتورطين في محاولة الإطاحة به، كماعاد الى أذهانهم ما جرى لثوار 1948م في‮ ‬اليمن‮ ‬الذين‮ ‬لم‮ ‬ينجحوا‮ ‬في‮ ‬القضاء‮ ‬على‮ ‬ولي‮ ‬العهد‮ ‬أحمد‮ ‬حميد‮ ‬الدين،‮ ‬فعاد‮ ‬الى‮ ‬الحكم‮ ‬وقتل‮ ‬من‮ ‬قتل‮ ‬وسجن‮ ‬الكثيرين‮ ‬ونكّل‮ ‬بالثوار‮.‬
وبذلك انفتحت صفحة جديدة في تاريخ اليمن الحديث تأسس فيها نظام جمهوري فتح الباب واسعاً لخروج اليمن من عزلتها وتخلفها، وأتاح لها الالتحاق بعالمها المعاصر، ووضع نهاية لنظام إمامي تكلّس حتى لم يعد ينتمي الى العصر الذي يعيش فيه، وسرعان ماوجدت الجمهورية نفسها منذ الايام الاولى لقيامها أمام تحديات مرحلة جديدة من الدفاع عن نفسها في مواجهة الأخطار المحدقة بها والبدء ببناء يمن جديد متحرر من الجهل والفقر والمرض، ولكن سرعان ايضاً ما فرض على النظام الجمهوري الوليد ان يبدأ مسيرة التصدي لمحاولات إسقاطه وهو لايزال في المهد‮.. ‬وخاض‮ ‬الشعب‮ ‬اليمني‮ ‬معارك‮ ‬ضارية‮ ‬ليحافظ‮ ‬على‮ ‬النظام‮ ‬الجمهوري‮ ‬
تمت طباعة الخبر في: الخميس, 21-نوفمبر-2024 الساعة: 10:40 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-17591.htm