جمال حمدي -
حصلت »الميثاق« على وثائق جديدة ومقالات للصحفي المصري الراحل جمال حمدي الذي جاء الى اليمن مطلع الستينيات لتغطية الاعتصامات العمالية في عدن ضد الاحتلال البريطاني، ولكنه فشل في الوصول الى عدن فدخل عن طريق الحديدة ومنها توجه الى تعز وهناك تم تكليفه من القيادة العسكرية المصرية في اليمن بمهمة عسكرية مقابل تسهيل دخوله الى الشطر الجنوبي وتلخصت المهمة في ادخال 18طناً من الاسلحة على ظهور الجمال وايصالها الى ثوار ردفان في العملية الشهيرة التي عرفت باسم »صلاح الدين«..وقد كتب جمال حمدي حلقات متسلسلة عن تلك المهمة نشرتها مجلة »روز اليوسف« التي كان يعمل لصالحها تحت ادارة الكاتب الكبير احسان عبدالقدوس، وقد تسنى للزميل عبدالولي المذابي زيارة منزله بالقاهرة والالتقاء بزوجته الصحفية المعروفة نرمين القويسني التي تكرمت مشكورة باعطاءه مذكرات لم تنشر من قبل كان قد كتبها الاستاذ جمال قبل وفاته.. ويشير فيها الى العديد من الاحداث الهامة، ننشرها فيما يلي كما خطها بيده.
لمحابشةالإنسان.. واحد من ثلاثة:
مستكين مستسلم لواقعه..معاين له..
ثائر متمرد ومنقلب عليه
وجميع محركي وأبطال هذه الأحداث.. في حالة تحدٍّ مستمر لواقعهم.. كل منهم أشبه بزخات المطر .. يندفع ويحفر مساره.. ملاحقاً ومشاركاً في عدد من الأحداث التي حددت بعض ملامح الواقع العربي في الستينيات.
كانوا جميعاً على موعد خلال شهري مايو ويونيو 1964م، إنها إرادة الله التي وفرت دقة الصدفة والتوقيت.. شيء أشبه بقصة دقيقة الإحكام صاغها قلم عبقري، أو سيناريو محكم البناء..إنها قصة القافلة.. أو الاختراقمن السويس.. إلى اليمن
أسرار تذاع لأول مرة:
في الثالث من يونيو 1964م.. اتصل مكتب رئيس وزراء بريطانيا سيراليك دوجلاس هيوم بالدكتور عبدالمنعم القيسوني- نائب رئيس الوزراء ووزير الاقتصاد المصري- الذي كان يقضي إجازة بلندن.. عقب رحلة عمل بجنيف ليبلغه رغبة رئيس الوزراء البريطاني في عقد لقاء ثنائي عاجل معه لبحث أمر بالغ الأهمية.
تم اللقاء بعد ساعات قليلة .. فاجأ سيراليك هيوم الدكتور عبدالمنعم القيسوني بمعلومات حول اختراق قوة مسلحة مصرية حدود اليمن الجنوبي (دولة الجنوب العربي) لمساعدة الثوار بمنطقة ردفان.
- لم يجد نائب رئيس الوزراء المصري الذي لا يملك أية معلومات حول هذا الموضوع إلا الإنكار التام.
انتهى الحوار والجدل بين رئيس الوزراء البريطاني ونائب رئيس الوزراء المصري الى مفاجأة ثانية.. تحددت في رغبة لندن المؤكدة في إجراء مفاوضات عاجلة مع القاهرة وأن الحكومة البريطانية قد أبلغت سفيرها بالقاهرة سير هارولد بيلي ليكون ممثلها في هذه المفاوضات، كسباً للوقت وانها تعرض على القاهرة »أجندة« لهذه المفاوضات تضم النقاط التالية:
1- اعتراف بريطانيا بحكومة الثورة بالجمهورية العربية اليمنية »كانت بريطانيا ترفض بعناد الاعتراف بحكومة الثورة في اليمن الشمالي، وتحرض بقية دول الغرب على عدم الاعتراف« ودعمت بكل إمكاناتها قوات القبائل التي حاربت الى جوار الإمام البدر ضد القوات اليمنية المصرية والتي شكلت في تلك الفترة عنصر إزعاج وتهديداً حقيقياً للقوات اليمنية والمصرية.
2- الإيقاف الفوري لكل أعمال التدخل وخاصة العمليات التخريبية داخل الجمهورية العربية اليمنية ودولة الجنوب العربي، وعلى كلتا الحكومتين المعنيتين في الشمال والجنوب اليمني الالتزام التام بهذا المبدأ.
3- وضع مسودة اتفاق يحدد طبيعة العلاقات السياسية والاقتصادية والحدودية بين حكومتي اليمن الشمالي والجنوبي، وايضاً أوضاع القوات المسلحة المصرية داخل الجمهورية العربية اليمنية، تمهيداً لعرضها على الحكومتين المعنيتين لإقرارها والتوقيع عليها.
4- ما يستجد من قضايا ترى حكومة القاهرة ان يضمها جدول أعمال المفاوضات.
مرة ثانية.. مضت ساعات حتى وصل الدكتور عبدالمنعم القيسوني الى مطار القاهرة، ومن هناك اتجه مباشرة الى منزل الرئيس جمال عبدالناصر ليبلغه برسالة لندن، وتفاصيل ما شهده في اللقاء مع رئيس الوزراء البريطاني.
أجرى الرئيس جمال عبدالناصر عدة اتصالات ليستكشف الأبعاد الحقيقية التي دفعت بالمفاجأة التي فجرتها لندن، وما تعكسه هذه المفاجأة بالدرجة الأولى من التحول المباغت من عناد بريطانيا في عدم الاعتراف بحكومة الثورة في الجمهورية العربية اليمنية، رغم ضغط الحكومة الامريكية للقبول بالاعتراف بهذه الحكومة.
وبدأت تصل الرئيس جمال عبدالناصر سلسلة من المعلومات تلخصت في التالي:
- أشارت تقارير الاستماع الى أن إذاعات لندن واسرائيل وعدن والجنوب العربي أذاعت في نشراتها الاخبارية المتتالية اعتباراً من اليوم الأول من شهر يونيو سلسلة من الأخبار حول اختراق قوة مسلحة مصرية يقودها ضابط مخابرات مصري برتبة (كولونيل) حدود الجمهورية العربية اليمنية الى داخل الجنوب اليمني.
- وقد أفادت أخبار أخرى بثتها نفس الإذاعات فيما بعد، بأن هذه القوة المسلحة في طريقها الى منطقة ردفان.
- وأوردت تقارير أخرى التالي:
- ان وكالات الانباء العالمية نقلت عن مندوبيها في عدن في 31 مايو 1964م، ان القوات البريطانية قد أرغمت الألوف من العائلات اليمنية على الجلاء من المناطق المزروعة في الوديان التي تتخلل جبال ردفان، كإجراء انتقامي ضد الثوار في محاولة أخيرة لحملهم على الاستسلام بعد أن يشعروا بوطأة الجوع والحرمان.
وتقدر السلطات البريطانية عدد الذين يعيشون في ردفان بحوالى 14 ألف عائلة.
وقد برر البريجادير هيو بلاكر قائد العملية في منطقة ردفان، عمليات الانتقام الجديدة بقوله: »إن حرب ردفان تعد حرباً سياسية ولاشك في أن الضغط الاقتصادي هو أمضى سلاح ضد رجال القبائل الثائرة«.
وأضاف:»إن سلاح الطيران البريطاني يرسل كل يوم تقريباً قاذفات قنابل من طراز (شاكلتون) للتحليق فوق جبال ردفان وإلقاء منشورات باللغة العربية تحذر أهالي المنطقة تقول: فليكن معلوماً لكم أنه في سبيل إقرار القانون، أعلن ان الاقليم الذي تعيشون فيه منطقة تحركات عسكرية، ويتعين عليكم من أجل سلامتكم أن تغادروا الاقليم مصطحبين معكم أطفالكم«.
وفي نفس الوقت تواصل المقاتلات النفاثة من طراز (هنتر) ضرب مواقع الثوار بالصواريخ والمدافع الرشاشة تعاونها المدفعية البرية.
وقد طار (اليوم) الى منطقة ردفان ليجل فيشر- وكيل وزارة المستعمرات البريطانية- حيث زار الخطوط الأمامية للقتال وسيزور أيضاً محمية بيحان القريبة من الحدود اليمنية الشمالية، وسيجري ايضاً في عدن محادثات قررت الهيئات الوطنية مقاطعتها.
وقد أتم فيشر زيارته للقاعدة البريطانية ولمنطقة العمليات العسكرية التي تخوضها القوات البريطانية ضد ثوار ردفان وشاهد في ردفان ستار النيران الذي أقامته المدفعية البريطانية ضد (الذئاب الحمر) بعد أن أصابوا جنديين بريطانيين أمس في وادي تيم.. وايضاً مهاجمة ثلاثة مواقع بريطانية بالقرب من القاعدة البريطانية بالثمير واستمر الاشتباك لساعات، وأعلن ليجل فيشر في اليوم التالي (الاول من يونيو) في مؤتمر صحفي.. ان لبريطانيا مصلحة استراتيجية في قاعدة عدن لأنها مركز انطلاق مهم جداً بالنسبة لالتزامات نحو الكومنولث بصفة عامة، ونحو ماليزيا بصفة خاصة.
وسئل فيشر متى تتوقع أن تنتهي المعارك العنيفة الدائرة في ردفان منذ شهر؟ قال: من الصعب جداً التنبؤ بموعد ذلك، ولن تنتهي المعارك العسكرية الا إذا أبدى الثوار استعدادهم للتفاوض.
وسئل عن موعد استقلال اليمن الجنوبي؟ فأجاب: إن موضوع الاستقلال وموعده سيكون بين الموضوعات التي سيناقشها مؤتمر لندن يوم 9 يونيو، لكنه سيكون آخر فقرة في جدول أعمال المؤتمر.
وفي 11 يونيو أفاد تقرير آخر بما يلي: تكشفت في لندن أمس مناورة أخرى جديدة من المناورات التي اشتدت أخيراً ضد الجمهورية العربية المتحدة.
منذ تقدم عشرون من نواب المحافظين بطلب إلى حكومتهم يقول: ان على الحكومة البريطانية ان تعمل بأية طريقة لضمان انسحاب القوات المصرية من اليمن.
وجاء هذا الطلب في أعقاب ما صرح به سيراليك دوجلاس هيوم- رئيس وزراء بريطانيا في مجلس العموم: من أن بريطانيا تسعى للتفاوض مع الرئيس جمال عبدالناصر حول الموقف على الحدود مع اليمن.
وقال هيوم أيضاً: إننا إذا لم نتمكن من الوصول الى تسوية فلن يكون أمام القوات البريطانية من حل آخر إلا الخروج الى الميدان »لتنفيذ التزاماتنا« ومساعدة الذين علينا واجب نحوهم.
وأفاد نفس التقرير .. بأن قحطان الشعبي- ممثل الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل- قد أعلن أن الطائرات البريطانية تقوم بغارات مستمرة على منطقة ردفان وأنها هدمت 85 قرية من قرى المنطقة وأحرقت جميع المزروعات.. ونفى قحطان الشعبي ما ادعته بريطانيا من وجود ضباط وجنود من اليمن والجمهورية العربية المتحدة في الجنوب المحتل لمساعدة الثوار.
وكانت المخابرات العامة المصرية قد بعثت بتقرير الى الرئيس جمال عبدالناصر ضم معلومات حول اختراق قافلة مكونة من مائة وعشرين جملاً حدود اليمن الجنوبي باتجاه ردفان لمساعدة الثوار وان القافلة تحمل ما زنته ثمانية عشر طناً من الاسلحة والذخائر تشمل مدافع (بلانتسيد) ومدافع براوننج رشاشة وعدد ثلاثمائة بندقية لا نفيلد وألغام مضادة للدبابات والعربات المدرعة، وصناديق تضم الملايين من طلقات البنادق والرشاشات وان هذه الاسلحة جزء من العتاد البريطاني الذي استولت عليه الحكومة المصرية من القاعدة البريطانية من قناة السويس عقب فشل العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، وان هذه العملية تتم تحت اشراف جهاز العملية (صلاح الدين) التابع للمخابرات العامة المصرية، وهو الجهاز الذي يعمل على دعم ثورة القبائل المسلحة في الجنوب اليمني والربط بين الثورة المسلحة والتنظيمات السياسية بعدن.
وان المشير عبدالحكيم عامر كان قد وافق على إنشاء هذا الجهاز بناءً على مذكرة أعدها ضابط المخابرات المصري فخري عامر بعد أن زادت عمليات تسلل عملاء المخابرات البريطانية الى اليمن الشمالي، وقيامهم بزرع ألغام ضد الأفراد والسيارات، والأهم معاملة بريطانيا بالمثل بسبب استمرارها في دعم قوات الإمام البدر سياسياً وعسكرياً، ومن ثم التخفيف من ضغط هذه القوات على عمليات القوات المسلحة اليمنية والمصرية وخطوط مواصلاتها وإمداداتها خاصة بعد تهديد هذه القبائل الدائم لطريق صنعاء - الحديدة.
وأن المشير عبدالحكيم عامر قد شدد ضمن تأشيرة الموافقة على إنشاء هذا الجهاز بعدم إشراك أي من العسكريين حتى رتبة جندي في عمليات التسلل الى داخل الجنوب اليمني المحتل، ولهذا فقد اخترقت هذه القافلة حدود اليمن الجنوبي المحتل تحت حراسة ما يزيد على مائتين من ثوار ردفان وقيادة صحفي مصري يدعى جمال حمدي.
وصدرت الأوامر بتوجه عزت سليمان- نائب مدير المخابرات العامة المصرية- الى مدينة تعز باليمن الشمالي حيث يوجد مقر جهاز العملية (صلاح الدين).
من تعز توجه عزت سليمان بطائرة مدنية يمنية خاصة كان يقودها الطيار المصري أحمد فؤاد وبصحبته فخري عامر، وسالم البيض، وعلي ناصر من قادة الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني، وتوجهت الجماعة الى القيادة المصرية بمدينة البيضاء اليمنية بعد هبوط طائرتهم بمطار ذي ناعم الذي يبعد مسافة كيلو متر من مدينة البيضاء.
وفي تمام الساعة الخامسة من صباح يوم 24 يونيو 1964م، تم اللقاء داخل القيادة المصرية بمدينة البيضاء بين الجماعة والصحفي المصري جمال حمدي الذي كان قد قضى فقط سبع عشرة ساعة منذ وصوله الى أرض اليمن الشمالي ونجاح مهمته داخل أرض اليمن الجنوبي بمناطق يافع السفلى والعليا وردفان والتي استغرقت ستة وعشرين يوماًَ.
عادت الطائرة المدنية اليمنية الى مدينة تعز بعد ساعات قليلة من هذا اللقاء حاملةً نفس الجماعة ومعهم الصحفي الذي قام فور وصوله بكتابة تقرير من سبعين صفحة فولسكاب حول مهمته الناجحة في قيادة قافلة السلاح.. أو تحديداً عملية مهمة »الاختراق«.
اخترقت أشعة الشمس الأولى في تكاسل ندفاً من السحاب المتناثر في سماء فجر اليوم الأول من يناير عام 1964م وقد انتشرت في خطوط ترسم مع الأفق لوحة جمالية متداخلة الألوان، البنفسجي ، الأزرق، الارجواني، البرتقالي، والذهبي.
تصافح هذه اللحظة أو اللوحة الرائعة وجه الشيخ راجح بن غالب لبوزة القطيبي وخمسة من رفاقه كانوا جميعاً قد قطعوا المسافة بين منطقة ردفان حيث يقيمون والحدود التي تفصل بين اليمن الشمالي والجنوبي عند جبال البورمان.
إنها المرة الأولى على امتداد ما يزيد عن ستة وأربعين عاماً هي عمر الشيخ راجح بن غالب، التي تلمس قدماه منطقة الحدود رغم كثرة أسفاره للعمل بين ردفان وعدن والضالع، وتتصاعد الأفكار الى رأس الشيخ وتندفع الانفعالات الى صدره، وقد غمرته فرحة هائلة وهو يرى أرض اليمن الشمالي سهلة ممتدة من موقعه فوق جبال البورمان.
لقد حقق الرجل حلمه واخترق الحدود المصطنعة بين اليمن الشمالي والجنوبي، وها هو يقف في انتظار وصول بقية رجاله على دفعات حتى ينفذوا جميعاً ما تعاهدوا عليه، وهو القتال بين صفوف القوات اليمنية والمصرية ضد فلول حكم الأئمة باليمن الشمالي.
ويشد الشيخ عضلات جسده ليقاوم رعشات الانفعال والفرحة، ويقف منتصباً في قوة الى جوار رفاقه الخمسة، والريح من حولهم تصفر بنغمات خفيفة، ثم تساقطت قطرات مطر هين لتعلق بشعيرات ذقن الشيخ، كما تناثرت فوق ساحة وجهه لتندمج مع نقاط دمع طفرت من عيني راجح بن غالب، مرة أخرى شد الشيخ على عضلات جسده في مواجهة زخات المطر الخفيف وكأنه تمثال من الصخر نحت وتشكل من نفس صخور جبال البورمان التي يقف فوق قمتها، ويلتفت الشيخ في بطء ناظراً خلفه الى جبال ووديان يافع السفلى والعليا، الارض التي قطعها ورفاقه، وكأنه يحاول اختراقها بنظرة ليعرف حال بقية مجموعات رجاله.
تمضي ساعات قليلة من نهار نفس اليوم ليكتمل الشمل، وتدق أقدام ثلاثمائة من رجال ردفان أرض الثورة في اليمن الشمالي.
لقد قُدّر لهذا العربي البدوي البسيط راجح بن غالب لبوزة القطيبي- من شيوخ قبائل ردفان- أن يحطم لأول مرة القاعدة التي حكمت لعشرات السنين العلاقات بين أئمة اليمن الشمالي والسلطات الاستعمارية البريطانية الحاكمة للجنوب اليمني، تلك القاعدة التي قضت بألاّ تدخل من قبل أي من الطرفين في شؤون الآخرين، ومن ثم شكلت سياجاً يحمي مصالح بريطانيا بجنوب اليمن وايضاً يحيط نفس السياج بالسجن الكبير الذي أقامه الإمام أحمد بن حميدالدين فوق أرض الشمال اليمني.
ويصل الثلاثمائة من رجال ردفان الى منطقتي حجة والمحابشة ليقاتلوا لمدة تصل إلى ثلاثة أشهر في شجاعة واستبسال بين صفوف القوات المسلحة اليمنية والمصرية ويشاركوا في عدد من المعارك الضارية، مما دفع بالقيادة المصرية الى إهداء كل منهم بندقية ماركة (حكيم) تقديراً لبطولتهم.
أصابت منطقة ردفان هزة أشبه بالزلزال.. قبائلها.. أفرادها.. عندما عاد الشيخ راجح بن غالب وجماعته الثلاثمائة غير منقوصة يحمل كل فرد منها بندقية (حكيم) بخلاف سلاحه الذي اصطحبه معه الى أرض الثورة في اليمن الشمالي، وامتدت آثار الهزة الى بقية المناطق المجاورة لردفان، فالأخبار تسري كانتشار النار في الهشيم، تنقلها الأفواه من فرد لفرد بسرعة البرق، أمر يفرضه بطء ورتابة الحياة البدائية ورغم انتشار أجهزة المذياع (الترانزستور)، فبلا جدال ان أخبارهم الداخلية تقف في المقدمة.
تضاربت المشاعر وردود الأفعال بين أفراد القبائل على امتداد مساحات واسعة من أرض اليمن الجنوبي، الغالبة تقاذفتها أحاسيس متناقضة بين فرحة غامرة، وهلع من بطش وانتقام المستعمر البريطاني كما حدث عندما انفجرت ثورة قبائل يافع بقيادة السلطان العيدروس عام 1958م.
الجميع يهمس بكلمات قليلة: ان راجح بن غالب لبوزة وجماعته قد حققوا المعجزة، وترجموا نداءات الثورة حول الحرية والقومية والوحدة العربية التي طالما بثتها إذاعات القاهرة وصنعاء.
وفي نفس الوقت تحرك الآلاف من أبناء القبائل عملاء المخابرات البريطانية محاولين اقتناص المزيد من المعلومات والتفاصيل.
جلس الشيخ راجح بن غالب لبوزة داخل ردهة داره وقد اتكأ بمرفقه فوق فخذه مسنداً ذقنه فوق كفه، وبين الحين والحين يمشط شعر ذقنه بأصابع يده، وهو يستمع في اهتمام وتدقيق لكل ما يقال من بعض رفاق رحلته الى الشمال اليمني الذين التفوا حوله في دائرة وقد أجلس كل منهم بندقيته ماركة (حكيم) في حجره كالطفل الرضيع.