د. طارق المنصوب -
عندما استمعت إلى الكلمة "التاريخية" أو »الخطاب المهم« كما اسماه بعض المحللين، التي ألقاها فخامة الأخ الرئيس في جامعة عدن بمناسبة انعقاد الندوة العلمية حول:" الأبعاد السياسية والقانونية للاستحقاق الدستوري لدولة الوحدة"، تذكرت مقولة لبطرس بطرس غالي- الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، كنت قرأتها له منذ مدة طويلة في كتابه (جامعة الدول العربية وتسوية المنازعات المحلية، 1977م: ص179).. يقول فيها:" إن كثيراً من المنازعات العربية التي لم تتبلور أو تعرض أبعادها على الملأ، قد تمت تسويتها منذ نشأتها في ظل (الدبلوماسية السرية)، التي يتعذر الوصول إلى نص المحادثات التي جرت فيها، أو الوقوف على الوثائق التي أسفرت عنها. وبالتالي، فهذا النجاح في تسوية تلك المنازعات الناشئة، وعدم الإعلان عنها، حتى لا تنفجر مرة أخرى لمجرد أن توقف الرأي العام على كنهها، هذا النجاح لا يمكن أن نسجله أو ندرسه، بل إن الرؤساء والدبلوماسيين الذين قاموا بأدوار توفيقية جوهرية في سبيل تسوية تلك المنازعات، لم يتركوا لنا مذكرات قد تضيئ السبيل أمام الباحثين، حتى يستطيع الجيل الجديد أن يستفيد من تجاربهم، وظاهرة التقصير هذه لم تعالج حتى اليوم، لأن القيادات العربية من النادر أن تكتب مذكراتها".
إن الصعوبة في فهم مجريات بعض الأحداث السياسية التي كانت تقع في الساحة الوطنية أو حتى على الساحة العربية، تعود إلى أن كثيراً من صناع القرار السياسي العربي لا يتركون للتاريخ والمؤرخين كتابات أو مذكرات تصف الوقائع "كما حدثت بالفعل"، على عكس ما يفعله كثير من الساسة والقادة الغربيين الذين يكتبون مذكراتهم، ويتحدثون عن تجاربهم في ممارسة السلطة، والقضايا التي تعرضوا لها، والمؤثرات أو الضغوط التي تحكمت في توجيه سياساتهم وقراراتهم.
أما السياسة العربية وممارساتها فإنها تفتقر غالباً إلى الوضوح، وتغيب عنها الصراحة، لأن القائد العربي قلَّما يترك للتاريخ وللمؤرخين شيئاً ذا أهمية، مما يمكن الاستفادة منه في فهم وكتابة التاريخ، وتحليل الوقائع التاريخية كما حدثت بالفعل دون تزييف أو مغالطة، ودن سعي لطمس بعض الحقائق، أو تغيير بعض الوقائع، أو إخفاء بعض الأدوار، والمبالغة في إبراز بعضها الآخر، مما يمكن أن ينسب لهذا الطرف أو ذاك، سلباً أو إيجاباً.
مناسبة هذا الحديث، ما ورد في خطاب فخامة الأخ الرئيس، وما سرده من تفاصيل بعضها مما تحتضنه دفات كتب التاريخ الوطني، ربما ليس بنفس التفاصيل الدقيقة، ولا بنفس الوضوح والموضوعية؛ إذ كثيراً ما كانت تعوز الباحثين والمؤرخين بعض التفاصيل والأدلة والشواهد التاريخية أو الوثائقية، لمعرفة وترتيب بعض الأدوار ونسبتها إلى فاعليها الحقيقيين، وتعريف الرأي العام الوطني بحقيقة الأدوار التي لعبها كل طرف، ودوره في عملية إعادة أو إعاقة تحقيق الوحدة، وربما الأهداف والمكاسب الحقيقية التي سعى كل طرف إلى تحقيقها من وراء عملية التسريع بوتيرة الوحدة الوطنية، ثم الأسباب الحقيقية التي قادت إلى محاولة الانقلاب على دولة الوحدة اليمنية صيف 1994م، بعد عجز تلك الأطراف عن تحقيق أهدافها.
وبعضها الآخر، مما لم يتم ذكره أو الإشارة إليه، أو جرى طمسه عمداً من معظم وثائق محادثات الوحدة وأدبياتها، في عملية مدروسة ربما كان القصد منها العودة بعد فترة من الزمن للاستفادة منها في لعب أدوار بطولية، أو تزييف الوقائع، بغية استغلالها للمتاجرة بقضايانا الوطنية، وقضايا الجماهير المطلبية، معتمدة على فرضية سرعة نسيان الشعوب للوقائع، وعدم تذكر أجيال الحاضر وقائع الماضي، ولذا جاءت الإشارات والتفاصيل التي وردت في تلك المحاضرة أو الكلمة التاريخية لتلقي بضوئها على حقبة مهمة من تاريخ بلادنا، ولتكشف عن بعض الأسرار والوقائع التي لم تتضمنها، إما لظروف المرحلة التي حدثت فيها تلك الأحداث، أو لارتباطها ببعض القوى التي لم تكن ترغب في حدوث أي نوع من التقارب بين شطري اليمن وقيادتيه.
ولذا، يمكن على ضوء الحقائق الجديدة مقارنة الروايات السابقة والكتابات المختلفة، وإعادة كتابة التاريخ الوطني خلال الحقبة التاريخية التي أشارت إليها الكلمة... وهي بهذا تلقي على عاتق الباحثين والمهتمين مسئولية التنقيب والنبش في وثائقنا الوطنية لمقارنة تلك الرواية بما جاء في تلك الوثائق والمراجع التاريخية بغية إعادة كتابة التاريخ الوطني.. وسيكون لنا عودة - إن شاء الله تعالى - للحديث تفصيلاً عما جاء في تلك الكلمة لأهميته.
❊ عميد كلية التجارة بجامعة إب