محمد حسين العيدروس -
ثمة مثلٌ يقول: لا يرث الأبَ الابنُ العاقُّ، ولا ينال الجنة عاص" فإن كل الحقوق تسبقها الواجبات، وإن كنا ننادي بحق المواطنة لابد أولاً أن نترجم انتماءنا للوطن بتأدية شروط الولاء لكل ذرة منه، أما الذين ينسبون أنفسهم لوطن يعيثون فيه فساداً ويعبثون بأمنه، ويخربون بنيانه، فمثلهم كمثل الابن العاق الذي ينتسب لأبويه، لكن الله حرم عليه الاستمتاع بإرثهما، ومنع عنه فضل رحمته ونعيم جناته.. فلا يؤجر المرء إلاّ بأعمال صالحة.
ففي الوقت الذي يتشدق الجميع بالشعارات الوطنية، وكل يزايد على سواه، ويدعي النزاهة الأكبر، والأمانة الأوثق، كان الفعل خلافاً لكل الخطابات والبيانات والكتابات، وصار التهاتف على الفتن والشغب والتخريب وكل ما من شأنه إقلاق السكينة العامة، وإشاعة الفوضى هو أكثر ما يجود به كثيرون على الوطن، ويعتبرونه حباً ووفاءً وولاءً..!!.
وفي ضوء تلك الممارسات أصبح المواطن العادي البسيط في دهشة وحيرة من أمر تلك النخب السياسية والثقافية والمدنية التي تحاول طمس قيم المجتمع الأخلاقية والثقافية التي اكتنزها عبر تاريخه الحضاري الطويل، وإبدالها بسلوكيات بربرية تفسد الحياة الإنسانية، وتبدد آمال البشرية في الرقي والتقدم والمستقبل الكريم للأجيال.. فهذا المواطن الذي توارث أباً عن جد مأثورة "عز القبيلي بلاده ولو تجرع وباها" لا يصدق أن هناك من يدعي العزة في التفريط بالبلاد بذريعة التخلص من الغلاء أو الفساد ولا يكاد يتقبل أي تفسير لمنطق من يدعي أن التخريب وقطع الطرق والنهب والقتل وحرمان الطلاب من الدراسة الخ.. ومن يمارسه هم "المناضلون الشرفاء" وهم المواطنون الحقيقيون وليسوا المفسدين في الأرض..!.
وإن من المؤسف حقاً أن تسري ثقافة التواكل في أوساطنا الاجتماعية حتى أصبح هناك اعتقاد بأن أجهزة الدولة وعلى الأخص الأمنية هي المسئولة الأولى والأخيرة عن كل ما يدور حولنا من فوضى وعبث وثقافة همجية، كما لو أن الوطن لا يعني الآخرين، ومسئولية أمنه أمر يخص رجل الأمن وحده في الوقت الذي أبناؤنا هم أول ضحايا التضليل بما تم غرسه في أذهانهم من قيم غير سليمة تحفزهم على التمرد على كل القيم النبيلة وأولها أن لا كرامة لأحد بغير كرامة الوطن وعزته..!.
كيف يمكن لأحدنا أن يتصور أن بيته وماله وعرضه ستكون بأمان، إن انهار الأمن والسلام في المجتمع، وشاعت الفوضى وتولى زمام الأمور بعض الذين لا يهمهم أمن وطمأنينة الوطن..؟! كيف يتصور أحدنا أن اليمن سيكون استثناء عن جميع بلدان العالم التي أباحها المغامرون ودعاة الفوضى الخلاّقة للقتل والنهب والتخريب..!؟ وكيف يمكن للمرء أن يقتنع بالذئاب البشرية التي ارتكبت بالأمس المجازر وقتلت العلماء وهم في المساجد.. إلخ، وأصبح الأيتام والمعاقون والأرامل يدفعون ثمن جرائمها إلى اليوم..!؟.
إن هذا التنصل من المسئوليات الوطنية يضع الجميع أمام مسئوليات تاريخية غداً حين يدفع أبناؤنا الثمن باهظاً إذا ما ورثوا وطناً دامياً، مكبلاً بالهموم والتحديات.. وإنني لأتساءل هنا: أين دور بعض المجالس المحلية التي حملتها الجماهير أمانة المسئولية في إدارة شئونها ورعاية مصالحها..؟ لماذا آل أمرهم إلى الحديث بالوطنية من داخل المقايل أو من على المقاهي وأرصفة الشوارع في الوقت الذي يصول ويجول فيه تجار الفوضى في مناطقهم، والبعض ينفذ أعمالاً تخريبية ويشوه المظاهر الحضارية للمدن ويقلق السكينة العامة ويعطل مصالح المواطنين؟.
إن الوطنية لا تعني بأي شكل من الأشكال التبجح بالخطابات الحماسية، بقدر ما تعني العمل المخلص في خدمة الوطن وابنائه، وهي أيضاً لا تنكر الحق الطبيعي للجميع في الاختلاف سياسياً وفكرياً، أو معارضة النظام لكنها في نفس الوقت لا تبيح لأحد تقديم المصالح الحزبية أو الفئوية أو الشخصية على المصالح العامة للمجتمع باختلاف أطيافه، لأن الشعوب هي المالك الحقيقي لأوطانها وليست الأنظمة التي تتعاقب على السلطة، وبالتالي لا يمكن التفريط بملكيتها وحقوقها في الأمن والاستقرار والحياة الكريمة تحت ذريعة الوعود الخيالية والشعارات الرنانة.
إن الحياة الديمقراطية أتاحت أمام الجميع فرصاً رحبة جداً لتداول الحكم، ولم تقيد ذلك الطموح بأي شروط مستحيلة، بل ربطته بإرادة الجماهير صاحبة ملكية الوطن.
وكان الأولى بمن يدعي الوصاية على الجماهير وينتحل اسمها في خطاباته وبياناته أن يدخل المعترك الانتخابي وينتزع الحكم بالإرادة الشعبية إن كان صادقاً في إدعائه، بدلاً من مغامرات التثوير والتحريض والفوضى الخلاقة.
أما من يدعي ذلك زوراً ويتهرب من الاحتكام للإرادة الشعبية فبالتأكيد أن الجماهير التي رفضت منحه ثقتها هي نفسها التي ستهب للدفاع عن ملكيتها الوطنية من الاغتصاب بأيدي قلة من الانتهازيين والمخربين.