اسكندر الأصبحي -
في الأزمنة الغابرة.. أو في هذا الزمان.. تجلى »الطريق« عنصراً أصيلاً بل وحاسماً في بعض الظواهر الحضرية في نشوء وتكوين المجتمعات العمرانية الحضرية والحضارية..
الولايات المتحدة الأمريكية التفتت منذ وقت مبكر إلى دور الطريق في نشوء مجتمعات جديدة فتبنت ذلك في سياساتها العامة.. حيث ظهرت على جانبي الطرق الطويلة تجمعات سكانية جديدة في شكل مدن كان الطريق عامل جذب أساسي لنشوئها إلى جانب عوامل أخرى تساعد على ذلك تتصل بالتنوع في التضاريس والمناخ وتوافر الموارد الطبيعية اللازمة..ولعلنا نلاحظ كيف أسهمت الطرق الحديثة في مجتمعنا اليمني في نشوء تجمعات سكانية جديدة على جانبي الطرق الطويلة بين المحافظات.. أخذت تنمو وتتسع وإن بقدر محدود ربما لأن ذلك يتم بتلقائية ودون تخطيط مدروس..
> > >
في اليمن القديم كان »الطريق« عنصراً حاسماً في نشوء وتطور حضارته.. مثلما كان تحول الطريق عاملاً مهماً أدى إلى انحسار دول الحضارة ا ليمنية القديمة »سبأ ومعين وقتبان وحضرموت«.. والتي كانت عواصمها على الأودية التي تنفرج على ما سمي برملة السبعتين أو صيهد وهي مأرب وقرناو وتمنع وشبوة.. فمدن الأودية التي كانت عواصم للدول المذكورة آنفاً في اليمن القديم نشأت على طريق القوافل التجارية التي سيطر عليها اليمنيون والمعروفة تاريخياً بطريق البخور وشهدت ازدهاراً كبيراً حتى كان تحول الطريق من البر إلى البحر بين حوضي البحر المتوسط والمحيط الهندي عندما تمكن البطالمة من اكتشاف أسرار الملاحة في البحر الأحمر ومواقيت حركة الرياح الموسمية في المحيط الهندي، وبدأوا في ممارسة التجارة ونقل البضائع وتبادلها عبر البحر دون وساطة اليمنيين الذين كانوا يسيطرون على الطريق البري الذي فقد وظيفته على نحو تدريجي.. وأخذ عطاؤه ينحسر مما أضعف من قوة الدول اليمنية التي قامت على الأودية »صيهد«.. وبالتالي أسهم في انحسارها لتتجلى قوة جديدة تمثلت في حمير التي أسست عاصمة لها في قلب المرتفعات بعيداً عن الصحراء والمعروفة بـ»ظفار«.. ولم تكن الحضارة الحميرية بمنأى عن الطريق الجديد حيث استفادت من التحول إلى الطريق البحري فأقامت موانئ على البحر الأحمر والبحر العربي وبنت أسطولاً بحرياً واستطاع اليمنيون الذين خبروا البحر والملاحة فيه أن يكونوا قوة تجارية ووسطاء في تجارة الشرق والغرب حينذاك..
كان حراكاً سكانياً قد أخذ يبرز باتجاه المرتفعات عندما ضعفت مدن الأودية التي فقدت مواردها والتي كانت تدرها الطريق البري.. فيما شهدت مدن القيعان على الهضبة اليمنية ازدهاراً وتوسعاً غير مألوف أثناء تجلي مدن الوديان الشرقية.
> > >
وحتى مطلع العصر الحديث كان العرب »سادة المحيط الهندي والمسيطرين على الخليج العربي والبحر العربي والبحر الأحمر بدون منازع، حيث اعتمدت العلاقات التجارية بين أوروبا من جهة وآسيا وأفريقيا من جهة أخرى، اعتماداً يكاد يكون كلياً على نشاطهم«.. غير أن حركة الكشوف البرتغالية البحرية قلبت الأوضاع التي كانت قائمة آنذاك، فقد أدى نجاح البرتغاليين في الوصول إلى الهند بحراً عن طريق رأس الرجاء الصالح أواخر القرن الخامس عشر الميلادي إلى تحول طريق التجارة العالمية بعيداً عن البحار العربية مما أدى إلى حرمان العرب من مصدر مهم من مصادر ثروتهم و»أحدث هزة عنيفة في بنائهم الاقتصادي، وأدى بالتالي إلى إحداث انهيار في نظمهم السياسية القائمة حينذاك«.
.. وكانت اليمن قد تأثرت بصورة بالغة نتيجة تحول طريق التجارة العالمية.. وقد شكلت الجهود البرتغالية في عملية الكشوف الجغرافية فيما وراء البحار في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي، ومن ثم احتكار التجارة الشرقية عقب وصولهم إلى الهند البداية الفعلية للمحاولات الاستعمارية الأوروبية التي استمرت بلا انقطاع على أيدي البرتغاليين والهولنديين والإنجليز والفرنسيين وغيرهم للسيطرة على مقدرات العرب وشعوب الشرق عموماً واستغلالها والتحكم فيها حتى ستينيات القرن الماضي.
وفي أوائل القرن التاسع عشر أخذت بريطانيا تولي الساحل الجنوبي لشبه الجزيرة العربية اهتماماً متزايداً »من ناحية إمكانية اتخاذ أحد المراكز الواقعة عليه لتكون محطة أو مخزناً للفحم لتزود السفن البريطانية، وبدا لها موقع عدن الممتاز في منتصف المسافة بين موراي والسويس إلى جانب وقوعها على خليجها المتميز بهدوئه والذي يتيح لها إمكانية استقبال السفن وتأمينها تأميناً كاملاً أثناء القيام بعمليات التفريغ والشحن خلال فصول السنة« مغرياً للسيطرة على عدن.. وفي كتابه »عدن والسياسة البريطانية في البحر الأحمر 1839-1918م« يقول الدكتور فاروق عثمان أباظة: »لكي تحقق بريطانيا أهدافها الاقتصادية والاستراتيجية والقومية، وجدت لزاماً عليها أن تفرض سيطرتها على عدن بعد أن أكدت تقارير خبرائها من رجال البحرية الهندية البريطانية، وتقارير قناصلها في بلاد الشرق، والرغبة الملحة لدى حكومة الهند البريطانية، ضرورة السيطرة على هذا الميناء الحيوي المهم، وكانت دوافعها تتلخص في استخدام عدن محطة لتموين السفن البريطانية بالفحم والمياه والمؤن اللازمة، واتخاذ عدن مراكز لوقف توسع محمد علي وتصفية نفوذه في الجزيرة العربية حتى لا يهدد طريقي مواصلاتها إلى الهند عبر الخليج العربي والبحر الأحمر.. ثم الاستحواذ على التجارة اليمنية بوجه عام، واحتكار تجارة البن اليمني المربحة بوجه خاص، وتحطيم المنافسة الأمريكية بعد أن بدت خطورتها، وأخيراً اتخاذ عدن قاعدة دفاعية أمامية فيما وراء نطاق حدودها لمواجهة المنافسة الضارية من قبل روسيا القيصرية التي كانت تسعى للوثوب على المصالح البريطانية عبر إيران، ومن قبل فرنسا التي كانت تتسلل لتحقيق غاياتها بضرب بريطانيا في الشرق عبر مصر، هذا فضلاً عن الدور الذي كانت تلعبه النمسا أيضاً في ذلك الحين على نحو ما ورد بتصريحات بعض المسئولين البريطانيين، ولهذا فلم يكن أمام بريطانيا بداً من الاسراع للسيطرة على عدن التي ستحقق عن طريقها كل هذه الأهداف التي تتعلق بالمصالح البريطانية الاقتصادية والاستراتيجية والقومية في بلاد الشرق في ذلك الحين«.
تمكن الاستعمار البريطاني من احتلال عدن في 19 يناير 1839م، ولم تتمكن المقاومة اليمنية الأولى من دحره ومكث فيها موسعاً نفوذه إلى أجزاء واسعة من اليمن حتى كان الكفاح الوطني المسلح ضد الاستعمار في 14 أكتوبر 1963م الذي استمر حتى إعلان الاستقلال في 30 نوفمبر 1967م.
كان عام 1869م قد شهد تحولاً جديداً في الطريق البحري بإفتتاح قناة السويس التي تصل البحرين الأحمر والأبيض مما زاد من أهمية ميناء عدن.
الانتقال إلى الساحل
من خلال العرض السابق رأينا الدور الذي يشكله الطريق.. وكيف شكلت الأودية الشرقية على طريق القوافل منطقة جذب سكاني ونشوء حضارات اليمن القديم.. وبتحول الطريق التجاري الدولي من البر إلى البحر كان الانتقال إلى الهضبة التي ازدهرت مدنها.. ثم ما تلى ذلك من تحولات وأحداث تاريخية انعكست على الحراك السكاني والهجرة والاستيطان.. والآن.. في ضوء الوضع السكاني القائم اليوم وتحدياته.. هل يبدو الانتقال السكاني إلى الساحل اليمني أمراً لابد منه؟
عندما نتأمل في الوضع السكاني كما هو قائم في بلادنا حالياً تبرز أمامنا المشكلة السكانية بأبعادها المتمثلة في النمو السكاني المتزايد سنوياً بمعدل 3.02٪ وفي التوزيع السكاني الذي يعاني من التركز في المرتفعات ومن التشتت في نفس الوقت، ومن انحسار الهجرة الخارجية التي ألفتها اليمن تاريخياً كبيئة منجبة للسكان كانت الهجرات الخارجية حلاً عندما يفيض الوطن بسكان سواءً في الهجرات القديمة المنقطعة أو في الهجرات المؤقتة التي شهدها القرن الماضي حتى مطلع التسعينيات منه.
مجتمعنا اليمني يعيش حالة من الانفجار السكاني منذ الثمانينيات لاتزال على أشدها.. فكل خمس دقائق تستقبل اليمن ستة مواليد جدد.. أي أن هناك نحو 600 ألف نسمة يُضافون إلى إجمالي عدد سكان الجمهورية سنوياً.. وهذه الزيادة تضاهي تقريباً إجمالي عدد سكان محافظة عدن.. ولك ان تتخيل ما الذي تحتاجه مثل هذه الزيادة التي تبلغ أكثر من مليون نسمة كل عامين.. والواقع أن استمرار النمو السكاني المرتفع يجعل من التنمية شبه مستحيلة حيث تشكل هذه الزيادة السكانية ضغوطاً كبيرة على الموارد الاقتصادية، وتأتي على إيجابيات برامج التنمية فلا تجعل أثرها واضحاً في رفع مستوى المعيشة.. ويترتب على استمرار النمو السكاني المرتفع هذا أيضاً تفاقم العديد من المشكلات كتزايد ضغوط الطلب على الخدمات والاحتياجات الأساسية وخاصة التعليم والصحة والغذاء والسكن.. فضلاً عن تزايد ضغوط العرض في سوق العمل وارتفاع نسبة البطالة والإعالة والفقر.
وإلى جانب النمو السكاني المرتفع هناك مشكلة التوزيع السكاني والتي تعد معوقاً استراتيجياً للتنمية.. ووفقاً للإحصاء السكاني 2004م يتبدى التوزيع السكاني غير المتوازن حيث يتركز السكان بصورة كثيفة في أربع محافظات هي تعز والحديدة وإب وأمانة العاصمة وتضم جميعها حوالي نصف سكان الجمهورية (42.8٪) فيما بقية المحافظات وعددها 17 محافظة تضم (57.2٪) من إجمالي عدد سكان الجمهورية.
ومقابل هذا التركيز السكاني غير المتوازن هناك التشتت السكاني.. حيث تبدو التجمعات السكانية القزمية الذي يبدو أكثر وضوحاً في المحافظات ذات الطبيعة الجبلية.. فثمة مايزيد عن 106 ألف تجمع سكاني متناثرة معظمها في المرتفعات متوسط حجم هذه التجمعات القزمية لايزيد عن 150 نسمة.
وقد أخذت شحة المياه في بعض المناطق تلقي بظلالها الكئيبة وتتهدد حياة واستقرار غير قليل من المجتمعات الحضرية والمحلية.. فحسب ان ارتفاع عدد السكان بوتيرة عالية يؤثر على قدرات وإمكانات الموارد الطبيعية في تلبية احتياجات السكان.
التفكير الاستراتيجي
في البحث عن بدائل حلول للمشكلة السكانية بأبعادها المختلفة.. وما يترتب عليها من تحديات، لابد من التفكير الاستراتيجي في بدائل تستوعب المستقبل..
الانتقال إلى الساحل واحد من البدائل التي تتبناها »استراتيجية اليمن 2025«.. وفي هذا السياق تتبنى الدولة »برنامج تنمية مدن الموانئ« الذي يجري تنفيذه منذ بضع سنوات.. ويأتي إنجاز الطريق على امتداد الساحل اليمني ضمن هذا الاتجاه..
وقد يكون الطريق في بعض وظائفه الاجتماعية عنصراً حيوياً وحاسماً في نشوء المجتمعات العمرانية الجديدة- كما أشرنا في بداية هذه المقالة- غير أنه ليس العنصر الوحيد في هذه المسألة.. وهناك يستوجب على التفكير الاستراتيجي أن ينشط ويبدع.. ففي التجارب الإنسانية في هذا المجال ما يقتضي دراستها.. مثلاً مدينة أكسفورد في بريطانيا أساسها كان جامعة أكسفورد التي شكلت جذباً سكانياً في البداية.. أيضاً التجربة الأمريكية التي تستند إلى الطرق كعامل أو نواة أساسية لمجتمعات جديدة.. تجربة مصر في المجتمعات الجديدة.. المدن الصناعية في السعودية.. وغيرها.. هناك عوامل شتى في نشوء وتطور المجتمعات العمرانية الجديدة من بين أهمها الأرض والمناخ والمياه والخدمات.. وقبل ذلك وبعده المشروع الاستراتيجي الكبير الذي يوفر العمل وترتبط فرص عمل أخرى..
هناك مناطق فراغ سكاني في الداخل اليمني ومناطق فراغ في الساحل اليمني والجزر اليمنية.. أعتقد أن التفكير الاستراتيجي والعمل الاستراتيجي عليه أن يلتفت إليها دراسة علمية باتجاه أن تكون مناطق جذب لمجتمعات عمرانية جديدة.. منها ما يمكن أن تكون زراعية ومنها ما يمكن أن تكون صناعية وسياحية وسوى ذلك.. وهي ما ينبغي أن يُوجه إليها القدر الأكبر من الاستثمارات الحكومية والخاصة والمشتركة..
وأحسب أن »إعادة النظر في التقسيم الإداري الحالي وفق أسس علمية واقتصادية واجتماعية ملائمة وتطور التشريعات المنظمة لذلك« والذي يتبناه فخامة رئىس الجمهورية في برنامجه الذي نال به ثقة الشعب في انتخابات سبتمبر الماضي.. أحسب أن هذا الاتجاه يتضمن في أبعاده الاستراتيجية شيئاً من معالم الطريق إلى المجتمعات العمرانية الجديدة.. وفي السياق ذاته يأتي أيضاً برنامج رئىس الجمهورية في توزيع الأراضي الزراعية لشباب الخريجين.. إلى ذلك فإن برنامج المحليات يشير إلى هذا المنحى على نحوٍ ما كما تتبدى في هذا الهدف الذي تضمنه البرنامج وهو: »ترسيخ الوظيفة العامة المتميزة للمحافظات والمديريات في الزراعة والتربية الحيوانية والسياحة والصناعات الحرفية وغيرها في إطار التنوع الجغرافي التي تتميز بها الوحدات الإدارية«.
> > >
مجتمعات عمرانية جديدة في الداخل والساحل.. زراعية أو صناعية أو سياحية أو كل ذلك وسواه.. هي المستقبل.. لمواجهة المشكلة السكانية سواءً في ما يتعلق الزيادة السكانية المرتفعة أو في ما يترتب على التشتت السكاني من مشكلات ونقص الموارد الطبيعية وعلى رأسها المياه.. وفق ذلك التنمية المنشودة على نحو أكثر استدامة وارتفاعاً كبيراً في معدلها..
وبعد..
. فإن الطريق إلى المجتمعات العمرانية الجديدة.. يقتضي الإحاطة بمعالمه.. من خلاله مجموعة علمية تتولى دراسة هذا الموضوع من شتى جوانبه.. فشيء من معالمه تتجلى في حركة الإنجاز وفي البرامج المستقبلية.. وفيما تفرضه تحديات التنمية وتحديات المستقبل.. ويظل على التفكير الاستراتيجي بحث ودراسة الموضوع على نحو شامل ومتكامل.. رؤية وعملاً مستقبلياً..