أحمد الحبيشي - ينطوي المشهد الإعلامي في اليمن على إشكاليات وتحديات تجد إنعكاساً لها في أداء وسائل الإعلام الرسمية والحزبية والأهلية في بيئة سياسية وإعلامية لا يمكن عزلها عن مفاعيل المتغيرات النوعية على الصعد الوطنية والإقليمية والعربية التي تشهد تجاذبات بين الأفكار والمصالح والثقافات والعَلاقات الدولية على نحوٍ يتجاوز المسافات والحدود، وما يترتب على ذلك من ميولٍ موضوعية لإعلاء القيم الإنسانية المشتركة والتوجه نحو الاعتراف بضرورة الحرية والتعددية والتنوع والشراكة في تعزيز مصائر الدول والنظم السياسية والشعوب والمجتمعات، وتجنيبها مخاطر الحروب والفقر والاستبداد والتسلط وسوء توزيع الثروة واحتكار القوة والوصاية على المعرفة.
وبالنظر إلى التأثير المتزايد لدور وسائل الإعلام المختلفة في صياغة وعي ومواقف الأفراد والجماعات والشعوب والأمم إزاء ما يحيط بها من أحداثٍ ونزاعات وتجاذبات وتناقضات في الأفكار والمصالح في هذه الحقبة من تاريخ الحضارة البشرية التي يتكوّن على تربة منجزاتها الفكرية والعلمية والمادية عالم متكامل ومتناقض يصعب على أية دولة أو مجتمعٍ تجاوزه أو الانعزال عنه، بعد أن نجحت الثورة الصناعية الرابعة في تغيير صورة العالم الواقعي من خلال التقدم الهائل لتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات التي أحدثت انقلاباً جذرياً في أنماط الإنتاج والتسويق، بعد أن حطمت الحدود والحواجز، وفتحت المجال واسعاً لانتشار الأفكار والمعارف عبر المسافات التي كانت قبل ذلك أحد المصادر المحورية لشرعية الحكم وأساس سيادة الدولة الوطنية على أراضيها ومواطنيها، الأمر الذي جعل من وسائل الإعلام بما هي أدوات اتصال بين الدول والشعوب شريكاً في رسم السياسات ونشر المعرفة وتغيير الأفكار والقيم والآراء والمفاهيم واكتساب المهارات والمشاركة في المتغيرات وتوجيهها ، سواء على مستوى المجتمع المحلي أو المجتمع الدولي.
ولما كان الإنجاز الأبرز لثورة تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات يتمثل في ولادة الفضاء الاليكتروني ودمجه بالفضاء الطبيعي من خلال اندماج تقنيات الاتصال الرقمية بالموجات الفضائية، فقد أدى ذلك إلى ظهور تحولات بنيوية في العمليات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والثقافية والعسكرية لموازين القوى على المستوى الكوني، الأمر الذي أسهم بدوره في تغيير بُنية وسائل الاتصال ومضامينها وقدراتها، حيث أدى استخدام الأقمار الصناعية والقنوات الفضائية والألياف الضوئية إلى تمكين وسائل الإعلام من لعب دور فاعل في صناعة موازين القوى على المستويات المحلية أو العالمية ،إلى جانب القدرات الاقتصادية والعسكرية والمالية، وذلك من خلال الانتشار عابر الحدود للبث التلفزيوني والإذاعي الفضائي، والصحافة المقروءة، والصحافة الإليكترونية وشبكة الانترنت، بدون رقيب أو حسيب ، وبلغات ومضامين وأهداف وأبعاد سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية وأمنية واسعة ، في بيئة معرفية جديدة ، لم يعرفها العقل الإنساني سواء في عصور الأسلاف أو في العصر الحديث قبل ثورة تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، حيث أصبح العلماء المشتغلون في مجالات العلوم والاقتصاد والإعلام والسياسة الدولية يتعاملون مع أنماط معرفية جديدة مثل الجامعات الافتراضية ، التعليم الإليكتروني، التجارة الإليكترونية، الحكومة الإليكترونية، الإعلام الإليكتروني، الأرشيف الاليكتروني والحروب الإليكترونية).
بوسعنا القول ان ثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات نجحت خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين في نقل وتحويل مركز الثقل النوعي والكمي للعمل من مجال الإنتاج الصناعي إلى مجال الإنتاج الاليكتروني، وتجديد مُدخلات الصناعة إذ غدت تعتمد على المواد الخفيفة بدلاً من المواد الثقيلة ، فيما تغيرت الوسائط المنظمة للعلاقة بين الإنتاج والتسويق والاستهلاك بواسطة إحلال إدارة المعلومات محل إدارة العمليات والأشياء ، وما ترتب على ذلك من تحولاتٍ جذرية في معايير الأرباح بوصفها المصدر الرئيسي لتراكم الثروة، خصوصًا بعد أن أسهمت التجارة الاليكترونية في تحقيق التحول من فائض القيمة الذي اكتشفته الماركسية إلى القيمة المضافة التي استولدتها العولمة!!
أما بنية العمل والملكية فقد تبدلتا على نحوٍ مدهش ، حيث اتسع الطابع الإجتماعي للملكية على نطاق عالمي من خلال أسواق الأسهم والتجارة الاليكترونية ، بطريقة أكثر فعالية من صيغة«الاشتراكية والثورة البروليتارية» التي كانت الماركسية تراهن عليها، فيما تراجع دور الطبقة العاملة التي تلعب دور القوة المحركة للعمل في ظل المعطيات التقنية للثورة الصناعية وأصبح العمل اليوم يعتمد على قوة محركة جديدة هي العاملون الذين يقرأون المعطيات الرمزية والرقمية والمعلوماتية على شاشات أجهزة الحاسوب ، ثم يقومون بتحويلها إلى صورٍ وأصواتٍ وأوامر ورسائل وقرارات وتعليمات تنتقل بسرعة الضوء من مواقع الإدارة إلى مواقع الإنتاج والتسويق داخل البلد الواحد وعلى مستوى الكوكب الأرضي بأسره.
تبدو صورة الحضور العربي واليمني على تخوم الألفية الثالثة قاتمة ومضطربة ، مقابل الحضور الفاعل لأممٍ وشعوب وثقافات أخرى نجحت في اختراق مشهد النظام العالمي الذي تحوّل إلى نظام كوني بلا حدود ، على نحوٍ يصعب تجاهله والإنعزال عنه أو مقاومته ورفضه ، فيما أصبح معيار الدخول إليه والحضور الفاعل فيه هو مدى القدرة على امتلاك الحيوية الذهنية والفكرية، والاستفادة من الفتوحات المعرفية والمنجزات التقنية التي يتشكل على أساسها العالم الجديد في الزمن الجديد.
لا ريب في أنّ العقدين الأخيرين من القرن العشرين المنصرم شكلا محطة هامة على تخوم الألفية الثالثة التي دشّنت بداية انتقال الحضارة الحديثة من زمن الثورة الصناعية التي حققت خلال ثلاثمائة عام ما لم تحققه حضارات البشرية خلال آلاف السنين إلى زمن الفتوحات اللامتناهية لثورة الاتصال والمعلومات التي نقلت الحضارة الصناعية الحديثة من العالمية إلى العولمة. والأسوأ من ذلك أنّ العالم العربي شهد خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي فشل كافة مشاريع التغيير المفترضة التي بشرت بها وقادتها تيارات فكرية وطنية أو قومية أو إسلامية ، وقد تزامن دخول هذه المشاريع مأزق الركود والتراجع مع بدايات انتقال الحضارة المعاصرة من العالمية إلى العولمة ومن الحداثة إلى ما بعد الحداثة ومن النظام الدولي إلى النظام الكوني . وقد سبق لي في مقالات سابقة تسليط الضوء على المشهد العربي عندما انتقل العرب من القرن العشرين إلى القرن الحادي والعشرين حيث كان نظامهم الإقليمي يشهد بدايات تحلله وتفككه على إثر غزو العراق للكويت، وانتشار القواعد العسكرية الأجنبية فوق أراضيه ، فيما وجد العالم العربي نفسه بعد دخول الألفية الثالثة الميلادية مكشوفًا بالكامل أمام تحديات العولمة وعالم ما بعد الحداثة.
في هذا السياق تضاءلت حوافز التفكير بالآليات والتصورات التي تساعد على تعويض العالم العربي ما خسره من فرصٍ تاريخية ضائعة خلال القرن العشرين المنصرم ، وتمكنه من تجاوز فجوة التخلف والركود والانقطاع الحضاري والعودة إلى ميدان إبداع الحضارة.. حيث أصبح العرب مثقلين بهموم إضافية ذات طابع مركزي ومحوري. فالإسلام الذي نشره العرب في مختلف بقاع العالم وصنعوا به حضارتهم ، يتعرض للتشويه والتشكيك بصورةٍ مزدوجة، حيث يتم تقديمه من قبل الجماعات الإسلاموية المتطرفة على نحوٍ متشدد ومنغلق ودموي بخلاف تعاليمه السمحاء وقيمه الإنسانية ورصيده الحضاري المنفتح ، فيما تسعى القوى اليمينية والعنصرية في الغرب للتحريض ضد الإسلام والعرب والمسلمين على خلفية أحداث 11 سبتمبر 2001م ، وغيرها من أعمال الإرهاب التي ترتكبها جماعات ضالة ومتعصبة تحت يافطة الجهاد الإسلامي!!
أما الإرهاب الذي ارتبط بهجمات 11 سبتمبر 2001م على رموز السيادة الكونية والقوة الاقتصادية والجبروت العسكري في قلعة العولمة ومعقل ثورة تكنولوجيا الإتصال والمعلومات، فقد تمكن من تحويل بدايات الألفية الثالثة الجديدة ، إلى ساحة مواجهة مفتوحة بين العولمة وما قبلها.. وتعميق الفجوة بين حضارة القرن الحادي والعشرين وبقايا حضارات القرون السابقة.. وتقويض الأنساق والتصورات الطوباوية والتهويمات الأيديولوجية (الدينية والقومية) الموروثة عن الحقب السابقة للألفية الثالثة الجديدة. ومع بدء وإتساع المواجهة التي فجرتها أحداث 11 سبتمبر 2001م ، وجد العالم العربي نفسه في قلب هذه المواجهة الساخنة ، خصوصًا وأنّ الذين تورطوا في تلك الاعتداءات المشينة تخطيطًا وتمويلاً وتنفيذًا، جاؤوا منه، وحملوا هويته وثقافته، وتظاهروا بتبني قضاياه!!
من نافل القول ان العالم العربي وبضمنه اليمن بحاجة الى تأهيل أوضاعه للالتحاق بالعصر الجديد والاندماج في العالم الكوني.. ولا يمكن تحقيق ذلك من دون الديمقراطية وإصلاح أوضاع التعليم والثقافة والإعلام ، وتبرئة الإسلام من تهمة الإرهاب وتحريره من وصاية أشباه الإكليروس، وما يترتب على ذلك من قطيعة مع رواسب الثقافة السياسية الإقصائية ،ونقدٍ للتأويلات السلفية المتحجرة للدين ، وتقويض التوظيف السياسي للإسلام الذي أصبح اليوم اسلاما سياسيا ً تتصارع على تربته قوى الثروة والسلطة ، ويستخدمه السياسيون غطاءً (شرعياً) للصراع على العروش والثروات والنفوذ،وممارسة أساليب قذرة تبررها دهاليز ومواخير السياسة ولاتجيزها قيم الدين!!
لقد تأخر العالم العربي واليمن جزء منه كثيراً في حسم هذه القضايا طوال القرن الماضي، وعجز عن اكتشاف حقيقة الأوهام التي أصابته بالإخفاق في الإجابة عل أسئلة النهضة، بما في ذلك الفشل الذريع للمشاريع السياسية (القومية والدينية) التي وعدت الناس بالحرية والسيادة والاستقلال والتنمية والعدالة والنهضة في عصر متدفق بالحيوية والفعالية والإنجاز والتجاوز.. وبتأثير ذلك الانسداد وصل العالم العربي إلى مأزقه الحالي، وهو بطبيعة الحال مأزق النخب السياسية والفكرية والدينية والحزبية والتقليدية القديمة التي لم تدرك حتى الآن أنها أضحت جزءًا من إرث الماضي، وعقبة أمام الاندماج بالعصر والحضارة والحداثة.
ما من شكٍ في أنّ مأزق العالم العربي في نهاية القرن العشرين والألفية الثانية جاء محصلة لتراكم مريع من الإخفاقات والتراجعات التي تتالت منذ قرون طويلة، تمتد إلى ظهور السلفية المتشددة التي مارست مختلف أشكال العداء للعقل، وحاربت الفلسفة والعلوم الطبيعية والترجمة، واضطهدت الفلاسفة وعلماء الكيمياء والفيزياء والطب والرياضيات والمنطق، وأحرقت كتبهم الثمينة، الأمر الذي مهّد لتراجع مساهمة العرب والمسلمين في إنتاج العلوم والآداب والفلسفة والفنون، وغروب شمس الحضارة العربية والإسلامية. وزاد من خطورة هذا المأزق أنّه تزامن مع انتقال الحضارة الحديثة في نهاية الألفية الثانية وبدايات الألفية الثالثة، من الحداثة إلى ما بعد الحداثة.. ومن العالمية إلى العولمة. ويمكن القول إنّ التدفق الإعلامي الهائل عبر الأقمار الاصطناعية انطوى على مضامين وأساليب وأهداف متعددة منذ انطلاقة البث الفضائي في مطلع التسعينات.. وبقدر ما أسهم هذا التدفق المفتوح في إحداث حراكٍ في السياسات العملية على مستوى النظم الإعلامية ، بقدر ما أسهم أيضا في تجديد طرائق عمل وسائل الإعلام العربية التي حاولت الاستجابة لتحديات البيئة الإعلامية العالمية الجديدة.
والحال أنّ التدفق الإعلامي العابر للحدود تسبب في إضعاف قدرة اليمن والدول العربية على التحكم في قنوات الاتصال بين مجتمعاتها من جهة والإعلام الخارجي بشقيه المرئي والمقروء من جهةٍ أخرى، حيث لم يعد بمقدور أية دولة فرض القيود والحواجز التي تنظم أو تحول دون وصول المعلومات من الخارج إلى داخل حدودها الوطنية، بعد أن أتاح بث المعلومات والرسائل الإعلامية عبر الأقمار الاصطناعية والفضاء الاليكتروني إمكانيات بلا حدود لاختراق الأجواء والأراضي والبحار، ووصولها مباشرة من خلال قنوات البث الفضائي التلفزيوني والصحافة الإليكترونية ومحركات البحث ومنتديات الحوار المباشر على شبكة الإنترنت، وما يترتب على ذلك من تنامي الميول نحو التعدد والتنوع في المجالين السياسي والثقافي للمجتمعات العربية التي كانت تخضع لنظم إعلامية شمولية ومغلقة.
في هذا السياق تزامنت استجابة النظام السياسي في اليمن (سلطة ومعارضة) لتحديات البيئة الإعلامية العالمية الجديدة مع تحقيق الوحدة اليمنية والتحول نحو الديمقراطية التعددية بإرادة سياسية وطنية داخلية في مايو 1990م، ما أدى إلى إخضاع هذه الاستجابة لتناقضات ومصاعب التحول السريع نحو الديمقراطية التعددية على خلفية مثقلة برواسب الثقافة السياسية الأحادية الاقصائية التي تركت آثاراً سلبية، وظلالاً قاتمة على عملية التحول نحو الديمقراطية خلال المرحلة الانتقالية التي كانت طافحة بالأزمات والتجاذبات والاستقطابات السياسية والحزبية، ثم وصلت ذروتها باندلاع حرب 1994م التي أفرزت آلاماً وجراحاً ومشكلات ما زالت الحياة السياسية تُعاني منها حتى الآن. حيث أنّ التحول نحو التعددية في البيئة السياسية والإعلامية اليمنية كان خياراً وطنياً داخلياً فرضه الوضع الجديد بعد تحقيق الوحدة في الثاني والعشرين من مايو 1990م ، بمعنى أنّ التحول نحو القبول بالتعددية والتنوع لم يوفر استجابة واعية ومتكاملة لتحديات البيئة الإعلامية العالمية الجديدة التي خلقتها ثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات، وما نجم عنها من ضغوط خارجية موضوعية تحفز على الانتقال السلس من الأُحادية الشمولية إلى القبول بالتعددية والتنوع.
لكنَّه من الصحيح أيضاً أنّ ارتباط التحول نحو التعددية في البيئة السياسية اليمنية بتحقيق الوحدة والديمقراطية، بقدر ما جاء كاستجابة فورية وفوقية وسريعة لمتطلبات البيئة السياسية اليمنية الجديدة بعد الوحدة مباشرة، بقدر ما جعل هذه الاستجابة لا تمتلك أي استراتيجية واضحة ومتكاملة للتعامل مع تحديات البيئة الإعلامية العالمية الجديدة، وهو ما يفسر عجز الممارسة الإعلامية في ظل الديمقراطية التعددية عن التحرر من رواسب الثقافة السياسية للبيئة الإعلامية الشمولية والموروثة عن النظام الإعلامي القديم في شطري اليمن قبل الوحدة ، سواء من حيث الأداء أو المضمون أو خاصية التلقي ، وهذا ما سنتطرق له في الجزء الثاني من هذا المقال. |