أحمد الحبيشي - ارتبط صعود الصحوة الجديدة للإسلام السياسي في اليمن والسعودية بانتشار ظواهر التشدد في ممارسة التدين السني الحنبلي الوهابي لجهة تعظيم ما يسميه بعض المحللين (إسلام المظاهر) أو (الإسلام القشري) مثل: إعفاء اللحية، وتحريم إسبال الثياب، وتكفير الغناء والموسيقى والفنون والرسوم والتصوير،والتحريض على معاداة غير المسلمين وكراهيتهم ، حيث درج الصحويون على ربط هذه المسائل بعقيدة ( الولاء والبراء) التي يعتبرونها ركناً من أركان الدين الإسلامي.
والثابت أن عقيدة الولاء والبراء كانت وما زالت بمثابة الايديولوجيا الجديدة للإسلام السياسي الإخواني الصحوي في اليمن والسعودية وسائر البلدان العربية، قبل أن تتحول إلى عقيدة سياسية ودينية للجماعات الجهادية السلفية الإرهابية وفي مقدمتها تنظيم (القاعدة) على نحو ما أوضحه القائد الثاني والمنظر الايديولوجي لهذا التنظيم الإرهابي الدكتور أيمن الظواهري، في كتابه الشهير (الولاء والبراء عقيدة منقولة وواقع مفقود) الذي زعم فيه أن الولاء والبراء فريضة الهية لايكون إيمان المسلم إلا بها .
بوسع من يقرأ كتاب الظواهري عن الولاء والبراء أن يلاحظ تطابقاً تاماً بين أفكاره بهذا الشأن و أفكار شيوخ الحركة الصحوية في اليمن والسعودية وأبرزهم محمد بن عقلا الشعيبي، وربيع بن هادي المدخلي، وعلي الخضير وناصر الفهد و محمد سرور بن نايف زين العابدين وعبدالمجيد الزنداني وياسين عبدالعزيز وعبدالله صعتر وعبدالوهاب الديلمي وغالب عبدالكافي القرشي وغيرهم ممن لا يتسع الحيز لذكر أسمائهم .
وبحسب هذه الايديولوجيا التي يسترشد بها الصحويون ، تعد علاقات الصداقة بين الدول والشعوب والمجتمعات الاسلامية مع غير المسلمين كفرا وخروجا صريحا عن الدين ، ويندرج ضمن الكفر والخروج عن أول الدين إكرام غير المسلمين عندما يزورون ديار الاسلام أو يعيشون فيها بدعوى أنهم ضيوف مستأمنون ، كما لا يتجوز المشاركة في أفراحهم والتعزية في أحزانهم سواء في ما يسميه الصحويون ( دار الكفر ) أو ( دار الاسلام ) !!
لا يكتفي الصحويون بهذا القدر من تعريف عقيدة الولاء والبراء ، بل إنهم يذهبون الى أبعد من ذلك ، حيث يحرمون الالتزام بتنفيذ أحكام القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة والقوانين المدنية التي تساوي في العقوبات بين المسلمين وغير المسلمين وبين الرجال والنساء . كما يحرم الصحويون التعاملات بين المسلمين وغير المسلمين من خلال مواثيق واتفاقيات دولية لم يتحدث عنها الفقهاء الأسلاف . كما أنهم يحرمون أيضا الاشادة بما وصل اليه غير المسلمين من تقدم تكنولوجي وحضاري ، ويدخلون في فسطاط الكفر كل من يدعو الى الحوار معهم ، ويأخذ من علومهم ونظمهم وكل من لا يعلن البراء منهم من خلال إظهار العداوة والبغضاء والكراهية لغير المسلمين ، وتجنب توجيه التحية لهم أو مصافحتهم ، ورفض تقليدهم في اللباس والعيش والسكن !!
وانطلاقا من مفهوم الحركة الصحوية الاخوانية للولاء والبراء بما هي الايديولوجيا الجديدة للاسلام السياسي لا يعترف الصحويون السلفيون( بشقيهم المدني السلمي والجهادي الارهابي ) بالولاء الوطني ، بل أنهم يستبدلونه بالولاء الديني العقدي الذي يتذرعون به في تحريضهم على خروج الشباب إلى الأقطار الأخرى لقتال غير المسلمين تحت مسمى الجهاد في سبيل الله !
ولاريب في ان نشر فكرة الولاء للعقيدة على حساب الولاء الوطني، يفسر لنا تعاطف شريحة كبيرة من المواطنين والشبان اليمنيين والسعوديين مع الحركات الجهادية في شتى أقطار الأرض، حتى وإن كانت الأرض التي يستهدفونها هي الأراضي اليمنية والسعودية ذاتها!
فالصحويون لا يؤمنون بمبدأ الولاء للوطن إنطلاقاً من آيديولوجيا الولاء والبراء التي استبعدت القضايا الوطنية من الخطاب الإعلامي الصحوي العربي واليمني والسعودي، حيث يتم تعبئة الناس ضد الدولة الوطنية، وتحريضهم على إضعافها والتمرد عليها في سبيل بناء الدولة الدينية، وإقامة نظام الخلافة الذي يعتبر هدفاً استراتيجياً للاسلام السياسي منذ انبعاثه الجديد على يد جماعة الاخوان المسلمين كرد فعل على إلغاء نظام الخلافة وإقامة النظام الجمهوري في تركيا ، بعد قيام الثورة التركية بقيادة كمال اتاتورك والتي كانت بدورها نتيجة طبيعية لتحلل نظام الخلافة وهزيمته في الحرب العالمية الأولى.
تأسيساً على ذلك يرى الشيخ الزنداني بحسب ما قاله في الحوار الذي أجرته معه صحيفة ( الوسط ) ونشرته في عددها رقم 233 الصادر يوم الاربعاء 1 أبريل 2009م ان الكيان الاسلامي لا يعرف الحدود بين البلدان الاسلامية ، حيث يحق للمجاهدين التطوع لقتال العدو الكافر إذا عجزت الجيوش الاسلامية الرسمية عن أداء هذا الواجب (الشرعي) أو امتنعت عن القيام به ، بمعنى عدم الاعتراف بالسيادة الوطنية للدول والحكومات الاسلامية على أراضيها وحدودها.
من جانبه لا يعترف الشيخ سلمان العودة بحقيقة الوطن ، حيث يقول في كتابه ( رسالة من وراء القضبان) :
(ولست أبغي سوى الإسلام لي وطنا
الشام فيه وباكستان سياني
وحيثما ذكر اسم الله في بلد
عددت أرجاءه من لب أوطاني )
ثم يضيف قائلاً :
( لا يوجد شيء اسمه قضية أو قضايا وطنية ..قضيتنا قضية الإسلام والمسلمين في كل مكان، ينبغي أن تزول فكرة الحواجز والحدود والسدود والموانع التي جعلت المسلم لا ينتصر لأخيه أو لا يسمع صوته أو لا يستجيب أو لا ينصره ظالما كان أو مظلوما كما أمر النبي عليه الصلاة والسلام ) .
ولئن كان خطر الايديولوجيا الجديدة للاسلام السياسي الصحوي يكمن في عدم الاعتراف بفكرة الوطن الذي يستبدله الصحويون بفكرة الكيان الاسلامي ، فإن خطورة هذه الايديولوجيا تتسع حين يخرج الصحويون كل المسلمين الذين يخالفونهم الرأي والفكر من دائرة الاسلام ويرمونهم بالكفر والشرك ، حيث لا يسقط عنهم حق الانتماء الى الدين بل وحق المواطنة الاسلامية أيضاً.. وهو ما يمكن الاستدلال عليه من كتيب للشيخ سفر الحوالي بعنوان ( الأقلية حين تتحكم بالاغلبية ) الذي قال فيه : ( لا نؤمن بالوطنية ولا بالقومية .. بل كلها عصبية جاهلية وضعها الرسول تحت قدميه .. وفي هذه البلاد يولد الشيعي ويموت شيعياً من دون أن يحاسبه أحد بحجة أنه مواطن لم يتعد على قوانين الدولة ولم يقصر في واجب ما يسميها العلمانيون المواطنة.. أما ما يعتقده أهل السنة في الشيعة وغيرهم قاتلهم الله ، وما يجب عليهم من بيان الحق ودعوة الأمة الى العقيدة الصحيحة فهذا واجب ديني تجاه كل من يعيش في دار الاسلام ولا يجوز للحكومة الاسلامية إسقاطه بحجة ما يسمى احترام حقوق المواطنة المتساوية بين أتباع المذاهب الاسلامية المختلفة كما يروق للبعض إطلاقه على الفرق الضالة والمشركة ).
ما من شك في أن إطلالة بسيطة على الجهاز المفاهيمي لعقيدة الولاء والبراء في منظور الصحوة الجديدة للاسلام السياسي، سوف تساعد على إعادة اكتشاف مفاعيل البيئة الثقافية التي ساهمت الحركة الصحوية في تشكيلها وتغذيتها بالأفكار التكفيرية التي مهدت الطريق لتأصيل ثقافة العنف والارهاب في اليمن والسعودية على تربة التزاوج بين الفكر الاخواني القطبي والفكر الوهابي السلفي، وكلاهما ينطويان على نزعة تكفيرية بامتياز .
وكان المفكر والداعية الاسلامي السعودي الشيخ حسن بن فرحان المالكي قد أصدر كتاباً بعنوان (محمد بن عبدالوهاب داعية وليس نبياً) وجه فيه نقداً شديداً لجذور الحركات التكفيرية في الفكر الوهابي ، مشيرا الى ان النقاد بالغوا في نقد الداعية الإخواني سيد قطب لأنهم وجدوا في (متشابه) كلامه ما يوحي بالتكفير، لكن الشيخ محمد بن عبد الوهاب قام بتوسيع دائرة التكفير في (صريح) كلامه لا متشابهه، واعترف بأنه يقاتل «كفاراً» ينطقون بالشهادتين ويصلون ويصومون ويحجون ويعتمرون ويزكون ! !؟ علماً بأن هؤلاء الذين يعتبرهم الشيخ محمد بن عبدالوهاب كفاراً هم مسلمون يخالفونه في آرائه وأفكاره.
ويشدد الشيخ حسن بن فرحان المالكي على ضرورة ( بيان أخطاء الشيخ محمد بن عبدالوهاب في جانب التكفير، لأن المجتمع السعودي علماؤه وطلاب العلم فيه تربوا على فتاوى الشيخ وعلماء الدعوة الذين كانوا يميلون إلى تكفير المسلمين، ولابد أن يتأثر بعضهم بهذا الجانب، وقد رأينا فتاوى لبعضهم في الحكم بردة بعض الناس الى درجة تبادل التكفير بين علماء الدعوة أنفسهم عندما اختلف أولاد الأمير فيصل بن تركي (عبد الله وسعود) رحمهم الله، فكان مع كل أمير علماء يكفرون الطائفة الأخرى ) !!!
وقد رصد الشيخ المالكي في كتاب (الدرر السنية) للشيخ محمد بن عبدالوهاب مجلدين كبيرين بعنوان (الجهاد)، كلاهما في جهاد المسلمين، وليس فيهما حرف واحد في جهاد الكفار الأصليين من اليهود والنصارى، مع أن بلاد المسلمين المجاورة في الخليج والعراق والشام كان فيها مستعمرون محتلون غير مسلمين!!!؟؟
ويذهب المالكي الى تعريف (الفوضى التكفيرية) بوصفها ((نتيجة طبيعية وحتمية من نتائج منهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي توسع في التكفير، حتى وجدت كل طائفة في كلامه ما يؤيد وجهة نظرها. بل أن حركة الحرم ومنفذي التفجيرات الارهابية في العليا والمحيا وغيرها من المدن السعودية ما هم إلا نتيجة لمنهج الشيخ في التكفير )) !!.
سبق لي القول في مقالات سابقة نشرتها في هذه الصحيفة أن الاسلام السياسي شهد تحولا خطيرا بعد التزاوج الذي تم بين الاخوان المسلمين والمؤسسة الدينية غير الرسمية في المملكة العربية السعودية على تربة الصدام بين جمال عبدالناصر وثورة 23 يوليو من جهة، وبين التنظيم الدولي للاخوان المسلمين بعد فرار الاخوان الى السعودية عقب فشل محاولة اغتيال جمال عبدالناصر التي خطط لها الجهاز السري الخاص للاخوان ونفذها في ميدان المنشية بالاسكندرية عام 1954م ، ما أدى الى صدور قرار من مجلس قيادة ثورة 23 يوليو بحل تنظيم الاخوان وهجرة قياداته وكوادره الى السعودية ، الأمر الذي أسفر عن إعادة بناء الايديولوجيا الجديدة للاسلام السياسي على تربة تكفير المجتمع العربي والاسلامي والنظام الدولي وتقسيم العالم الواقعي الى فسطاط للإيمان وآخر للكفار وغيره ذلك من الأفكار المتطرفة التي تبلورت في كتاب «معالم على الطريق» للمفكر الاخواني سيد قطب ، ثم تبلورت في ما تُسمى الصحوة الاسلامية والفكر الصحوي ، خصوصاً بعد اختلاط الايديولوجيا الجديدة للإسلام السياسي بمخرجات فقه عصر الانحطاط والفكر الوهابي التكفيري في بيئة الجهاد الأفغاني التي لا يجب إنكار وتبرئة الإخوان ودور التنظيم الدولي للإخوان المسلمين في صناعة تلك البيئة الجهادية التي ألحقت كوارث خطيرة بالعالم العربي والإسلامي وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية التي جعل الإخوان المسلمون من أراضيها ومؤسساتها الخيرية منشأ ً للايديولوجيا الجديدة للإسلام السياسي. ولعل ذلك يفسر المعاني العميقة للتصريح الشهير الذي أصدره الأمير نائف بن عبدالعزيز عام 2004 وتداولته على نطاق واسع وسائل الاعلام السعودية والعربية والعالمية ، والذي أتهم فيه الإخوان المسلمين بأنهم أصل المصائب في العالم العربي والإسلامي .
من نافل القول أن المملكة العربية السعودية دفعت ثمنا كبيرا من جراء انتشار الفكر الضال والثقافة المتطرفة في المجتمع السعودي من خلال المناهج الدراسية والمدارس الدينية وتكايا المساجد والجمعيات الخيرية والتجمعات والمخيمات الصيفية ومدارس تحفيظ القرآن ، بالإضافة إلى نمط الحياة المتشددة الذي يحاول المتطرفون تسويقه وفرضه بالقوة تحت واجهة حماية الفضيلة وردع المنكرات، عبر تحريم الغناء والموسيقى والألعاب الرياضية والسينما ومختلف الفنون، وصولاً إلى تكفير المجتمع والدولة وممارسة الإرهاب والعنف ضد مؤسسات الدولة والتجمعات السكنية والمواطنين الأبرياء.
ومن يتابع المشهد السياسي والثقافي والإعلامي في السعودية سيلاحظ بكل وضوح أن الأفكار المتطرفة تتراجع في بلد المنشأ، وأن الحوار مع تنظيم (القاعدة) الذي يدعو اليه بعض الصحويين في اليمن ليس جديداً أو إختراعا يمنياً.. فقد كان شيوخ الحركة الصحوية في السعودية سباقين في ذلك، بيد أنهم فوجئوا بموقف رافض وحازم من الحكومة السعودية التي رفضت الحوار مع الارهاب واستبدلته بما تسمى بلجان المناصحة التي كانت وما زالت تتحاور مع أعضاء وأتباع القاعدة من المتورطين في جرائم إرهابية في السجون السعودية على غرار ما كان يفعله الأخ القاضي حمود الهتار مع الموقوفين في سجون الأمن السياسي.
وبمقدور كل من يقرأ الصحف السعودية اليومية، ملاحظة أنها أكثر جرأة وجدية في مواجهة هذه الثقافة في بلد المنشأ قياسا إلينا في اليمن. وكانت الصحف السعودية قد نشرت في مؤخراً آراء كوكبة من الأكاديميين والمثقفين والمفكرين بشأن حال الفكرالمتطرف في السعوديةوحال لجان المناصحةالتي أعادالقاضي الهتارإنتاجها في اليمن !!
وبوسعي القول استنادا الى معطيات نشرتها الصحف السعودية، إن حملة ( المناصحة) ظلت مقصورة على الموقوفين في السجون بتهمة اعتناق الفكر المتشدد. وهدفها تغيير قناعاتهم الناشئة عن بعض التأويلات لبعض النصوص الدينية التي يسوغون بها الأفكار التي يعتقدون بها والجرائم الارهابية التي ينفذونها. وقد لفت هذا التزايد في أعداد معتنقي هذا الفكر أنظار المسؤولين السعوديين في الجامعات والصحافة وأجهزة الأمن، ما جعلهم يدركون حقيقة أن وقف انتشار هذا الفكر الضال لا يتطلب ((مناصحة)) من وقع في الشرك فقط أو الحوار معه على طريقة القاضي حمود الهتار التي خدع الدولة بها قبل أن تظهر حقيقته العارية التي كشفت علاقته الفكرية بالتطرف والمتطرفين، بل لابد من تجفيف المنابع الحاضنة التي تولد الارهاب وتغذيه وتنشره في المجتمع وبين صغار السن خاصة. |