د/ طارق أحمد المنصوب - جامعة إب -
< لقد مثلت مرحلة حكم الرئيس علي عبدالله صالح التي بدأت بانتخابه في 17 يوليو 1978م - بحسب شهادة كثير من معاصريه: المؤيدين منهم والمعارضين - الفترة الأطول في تاريخنا الحديث والمعاصر، وربما الأهم من حيث حجم الإنجازات، وأيضاً من حيث التحديات التي واجهتها ومازالت تواجهها؛ فلا يمكن إنكار أنه عانى طيلة فترة توليه السلطة، كما استفاد كثيراً من تراكم التجارب السياسية التي مر بها مجتمعنا..
بداية نشير إلى أن ما حدث في 17 يوليو 1978م، قد شكل كما يشير أستاذنا (عبد الملك سعيد عبده)، حدثاً فارقاً في تاريخ بلادنا قديماً وحديثاً؛ فلقد كانت تلك المرة الأولى التي يتم فيها ترشيح واختيار الرئيس عن طريق مجلس الشعب التأسيسي، بدلاً من الاستناد إلى الأمر الواقع أو الفعل الانقلابي أو الشرعية الثورية التي تميزت بها جميع تجاربنا السياسية السابقة، كما أن الجيش الذي كان يمثل القوة الرئيسية في المجتمع، منحه الثقة للمضي قدماً قصد تجاوز الأزمات السياسية والوضعية الحرجة التي كانت البلاد تمر بها، ويذلك جمع الرئيس علي عبد الله صالح بين يديه الشرعية الدستورية «أي الانتخاب»، وشرعية الأمر الواقع «أي الشرعية الفعلية المستمدة من دعم المؤسسة العسكرية». والملفت للنظر أنه وعلى الرغم من أن الإعلان الدستوري كان يحدد منصب رئيس الدولة في شخص القائد العام للقوات المسلحة (علي الشيبة)، إلا أن مجلس الشعب التأسيسي، وفي جلسته المنعقدة يوم 17 يوليو 1978م، صوت على اختيار المقدم علي عبد الله صالح، رئيس هيئة الأركان آنذاك، ليكون رئيساً، وبواقع 75% من عدد أعضائه، بينما عارض الباقون، أو امتنعوا عن التصويت، ويعود ذلك، في نظر (نصر طه مصطفى)، إلى أن القائد العام للقوات المسلحة «…كان من النوع الذي لا يحب أن يرمي بنفسه في أتون معمعة لا يبدو منها إلا نهاية دموية بشعة…»، خاصة بعد النهاية الدموية التي عرفها الرئيس الأسبق أحمد حسين الغشمي (رحمه الله)، ولذا فقد اتجهت الأنظار إلى الشخص الثاني، الذي كان مهيأً، بحكم موقعه في قيادة الجيش، أي رئيس هيئة الأركان، للترشح لمنصب الرئاسة.
الاستقرار السياسي
وبصورة عامة، يمكن ملاحظة أن تجربة الأخ الرئيس في الحكم، وفي بناء أسس الدولة اليمنية الحديثة، قبل إعادة تحقيق الوحدة، وبعدها، تميزت بسمتين أساسيتين، كما مرت بمرحلتين هما: 1- مرحلة القطيعة: جهوده لتحقيق الاستقرار السياسي وتثبيت دعائم الدولة الحديثة.. أي القطيعة مع جميع التجارب السياسية التي عرفها مجتمعنا وبداية تشكل عهد جديد، وهي مرحلة تحقق فيها الاستقرار السياسي نسبياً، مقارنة بالتجارب السابقة، وتم فيها استئناف العمل الوطني من أجل استكمال بناء مؤسسات الدولة الحديثة. وهذا يؤكد العلاقة الجدلية التي تربط بين الاستقرار والتحديث السياسي، فالاستقرار السياسي له دور كبير في الاتجاه صوب التحديث والتنمية وبناء الدولة الحديثة، كما أن الإصلاح السياسي أيضاً قد يكون عاملاً مهماً من عوامل تحقق الاستقرار السياسي. والتجربة اليمنية في هذا المجال لم تشذ كثيراً عن باقي تجارب التحديث السياسي في باقي المجتمعات العربية والغربية. إذاً، ونتيجة لتحقق شرط الاستقرار السياسي شهد مجتمعنا نهضة تنموية حقيقية، على مختلف الأصعدة والمستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، ويمكن الإشارة إلى أبرز التطورات التي عرفها مجتمعنا على المستوى السياسي خلال هذه المرحلة، في التالي: - تمكنت السلطة من إحداث تحولات جوهرية في المؤسسات السياسية الموجودة، حيث استطاعت تحويل مجلس الشعب التأسيسي المعين بالكامل إلى مجلس شورى ينتخب ثلثا أعضائه مباشرة من قبل الشعب، بينما يتم تعيين الثلث الأخير من طرف الرئيس، وقد عكست تجربة الانتخابات المباشرة، التي عرفها المجتمع اليمني لأول مرة في يوليو عام 1988م، مدى الاستقرار السياسي الذي تحقق في هذه المرحلة، وقدرة السلطة على ضبط الأوضاع السياسية. - قيام مجلس الشورى المنتخب بإعادة انتخاب الرئيس علي عبد الله صالح، لمدة خمس سنوات تالية، في يوليو 1988م، وقد عد ذلك مؤشراً على الثقة التي كانت تحظى بها السياسات العامة للسلطة، كما كان يعني تشبث مختلف القوى السياسية والقوى الحية في المجتمع بالمشروع الوطني الرامي إلى بناء الدولة اليمنية الحديثة. - على صعيد التنظيم السياسي، تشكل المؤتمر الشعبي العام، بعد سلسلة من الحوارات الوطنية الشاملة لجميع مكونات المجتمع والقوى السياسية التي وجدت في الساحة السياسية اليمنية، وقد تمكن من عقد مؤتمراته العامة الاعتيادية بانتظام وفي مواعيدها المقررة، حيث عقد مؤتمره التأسيسي في 24 أغسطس 1982م، والثاني في 21 أغسطس 1984م، والثالث في تعز 1986م، والرابع في نوفمبر 1988م.
مجلس استشاري
- كما تم تعيين مجلس استشاري مكون من خمسة عشر عضواً، في العام 1989م، يختص بدراسة القضايا الداخلية والخارجية ذات العلاقة بالمصلحة الوطنية العليا للبلاد، وهو مجلس معين بالكامل من رئيس الجمهورية، وتوصياته كانت استشارية وغير ملزمة. - وارتبط بهذه التجربة، أيضاً، التوسع في تكوين النقابات العمالية، والنقابات المهنية، والتخصصية والجمعيات الحرفية، والجمعيات التعاونية في القطاع الزراعي. وقد بلغ عدد النقابات والاتحادات المهنية، حتى نهاية العام 1989م، 17 نقابة واتحاداً، وتأسست خمس جمعيات نسائية، وخمس جمعيات ثقافية واجتماعية، و24 جمعية حرفية، وبلغ عدد الجمعيات التعاونية 100 جمعية، وإجمالاً تجاوز عدد المنظمات الجماهيرية 300 منظمة.
هم الديمقراطية
وعلى الرغم من كثرة الانتخابات التي عرفتها الساحة الوطنية، خلال هذه المرحلة: المجالس البلدية 1979م، والتعاونيات، والمؤتمر الشعبي 1981م، والبلديات 1982م، والمجالس المحلية وتوسيع المؤتمر الشعبي العام 1985م، ومجلس الشورى 1988م، وانتخابات النقابات والاتحادات .. فان الديمقراطية، بالمعنى المتعارف عليه، بقيت هي نقطة الضعف الأبرز في مستوى الأداء السياسي خلال هذه الفترة، وذلك بسبب غياب العلنية وتحريم التعددية الحزبية والتضييق على حرية الصحافة. لكن تبقى هذه الممارسات «الديمقراطية»، بالرغم من قصورها وعدم اكتمالها، كانت أفضل من عدمها فقد هيأت المواطنين لمرحلة التعددية والعلنية، التي سيتم الإعلان عنها بمناسبة إعادة توحيد دولتي شطري اليمن عام 1990م. وهكذا يمكن القول: إن هذه المرحلة عرفت ممارسة الصراع بواسطة السياسة، أي بواسطة الحلول الوسطى المتزايدة والمتنامية، وقد عكست هذه السياسة نفسها على الاستقرار السياسي الذي عرفته الساحة الوطنية لأطول فترة في تاريخ اليمن الحديث، فالرئيس علي عبد الله صالح انتهج سياسة تقوم على التسامح والحوار مع الآخرين، وخلق التوازن بين مختلف القوى الشعبية والسياسية، وكذا تمثيل مختلف مكونات المجتمع في مختلف مستويات اتخاذ القرار السياسي. كما عكست هذه المرحلة إمكانية التدرج في عملية التطور والتحديث السياسي، وهو ما جعل هذه التجربة التي جرت في مجتمعنا موضع تقدير كثير من المحللين السياسيين والباحثين.
منجز الوحدة
وبعد إعادة تحقيق الوحدة اليمنية حقق مجتمعنا بقيادة الأخ الرئيس علي عبد الله صالح، عدداً من الإصلاحات على كافة المستويات السياسية والقانونية، هيأت البيئة الضرورية لخلق مناخاتٍ مناسبة للاستقرار السياسي وتحقيق التنمية الاقتصادية، وبناء الدولة الحديثة، منها: أولاً: على المستوى السياسي، والإداري: حقق مجتمعنا عدداً من المنجزات السياسية والإدارية منها: الالتزام بالتعددية السياسية والحزبية، ودورية الانتخابات التنافسية؛ إذ جرت عدد من الانتخابات البرلمانية (لأعوام 93، 97، 2003م)، والرئاسية (أعوام 99، 2006م)، والمحلية (أعوام 2001، 2006م)، وتعزيز الحريات الصحفية وحق التعبير وإبداء الرأي (صدور ما يقرب من 200 أو أكثر من الصحف الرسمية والحزبية والمستقلة)، وتعزيز مجال حماية واحترام حقوق الإنسان، وتعزيز مشاركة المرأة سياسياً واقتصادياً، وفي الحياة العامة، واتخاذ التدابير التي تعزز استقلال القضاء وحياديته خلال الاستحقاقات الانتخابية، وفي الفصل في القضايا دون تدخل السلطتين التنفيذية والتشريعية، كما عرف تطبيق الإصلاحات الإدارية مثل: تطبيق نظام البصمة الوظيفية، والمسح الوظيفي لمعالجة معضلة الإزدواج الوظيفي، وتطبيق المرحلتين الأولى والثانية من الاستراتيجية الوطنية للمرتبات والأجور.. إلى جانب الالتزام بإصلاحات سياسية أخرى منها: انتخاب المحافظين ومديري المديريات، وتعديل قانون السلطة المحلية لاستيعاب تلك الإصلاحات، وقد صدرت مبادرة رئاسية لتعديل كثير من بنود الدستور وإدخال إصلاحات سياسية وإدارية وقانونية في 25 سبتمبر 2007م.
أول انتخابات للمحافظين
ولعل أحدث تلك المنجزات مما يضاف إلى الرصيد الحافل بالتطورات والإصلاحات السياسية والديمقراطية ما عرفه مجتمعنا يوم السابع عشر من مايو 2008م؛ إذ شهدت بلادنا تدشين تجربة ديمقراطية وسياسية جديدة تمخضت عن انتخاب أمين العاصمة ومحافظي المحافظات، لأول مرة في تاريخ أمتنا الحديث والمعاصر من طرف ممثلي الشعب في المجالس المحلية، لتساهم في توسيع مجال الديمقراطية والمشاركة الشعبية في صنع القرار على المستوى المحلي، وتحديد الاختيارات السياسية والتنموية من أجل تعزيز اللامركزية في التخطيط والتنفيذ للتنمية، وتشجيع الرقابة الشعبية على الحكم على الصعيد المحلي، تنفيذاً للوعود الانتخابية التي أعلنها مرشح المؤتمر الشعبي العام في الانتخابات الرئاسية 2006م في برنامجه الانتخابي الذي نال بموجبه موافقة الشعب وثقته لمواصلة مسيرة الحكم الرشيد وتحقيق الإنجازات الحضارية، ورفع سقف الآمال والطموحات الوطنية والتصدي لكافة التحديات السياسية والتنموية التي تجابه مجتمعنا وتجربته الوحدوية والسياسية الرائدة. ثانياً: على المستوى القانوني: تعززت الترسانة القانونية بصدور أو مناقشة عدد من القوانين أوتعديل بعضها: تعديل الدستور ليتضمن النص على «حرية التجارة والاستثمار وبما يخدم الاقتصاد اليمني» (م10 من الدستور المعدل سنة 2001م)، وقانون الاستثمار وتعديلاته، وصدور قانون السلطة المحلية، والاستراتيجية الوطنية للحكم المحلي، وقانون الذمة المالية، وصدور قانون مكافحة الفساد، وقانون المناقصات والمزايدات الحكومية، وقانون استقلال الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، والإعلان عن انضمام بلادنا إلى المبادرة الدولية للشفافية في مجال الصناعات الاستخراجية. ولتنفيذ تلك القوانين والسياسات فقد التزمت الحكومة بتشكيل الهيئات المعنية. 2- مرحلة الاستمرارية: وعودة الصراع السياسي لقد ظل عدم الاستقرار، وتجدد الصراع السياسي بين القوى السياسية سمة غالبة لمعظم التجارب السياسية السابقة، وهذا عكس نفسه على جهود التحديث السياسي وبناء الدولة الحديثة التي ظلت تراوح مكانها، خلال مراحل زمنية كبيرة، كما كانت حالة الفراغ السياسي هي السائدة طيلة فترات مهمة من المراحل السابقة، خاصة في ظل حظر ومنع الحزبية والتنظيم السياسي، أو إقصاء وغياب أو تغييب باقي أطراف المنظومة السياسية والشعبية في بلادنا في صنع القرارات السياسية المصيرية. بمعنى آخر، إن هذه المرحلة عرفت تجدد وعودة واستمرار الصراع السياسي بشكله الأكثر عنفاً، وربما الأسوأ أثراً نفسياً نتيجة رفع مطالب الانفصال وعودة التشطير، وهذا ما نخشاه على تجربتنا ودولتنا الحديثة، فهذه الحالة تبقى بيئة غير ملائمة بالمرة لنجاح أي مجهود في مسار الإصلاح والتنمية والتحديث السياسي وبناء الدولة الحديثة. ونؤكد كذلك، أن أحداث العنف والفتنة التي عادت من جديد في بعض محافظات الوطن، شمالاً وجنوباً سوف تقف حائلاً أمام تحقيق مزيد من المنجزات في إطار تثبيت دعائم الدولة اليمنية الحديثة، وتعزيز البناء الديمقراطي والتنموي في بلادنا، وربما تزيد من قاعدة التذمر الشعبي من السياسات المتبعة والحلول المطروحة، وهذه مناسبة تاريخية تقتضي من فخامة الأخ الرئيس حكمة كبيرة في التعامل مع هذه الأحداث، ودراسة أسبابها، وتحديد سبل التغلب عليها من أجل قطع دابر الفتنة وسد باب الذرائع في وجه أي فصيل سياسي أو أي طرف داخلي أو خارجي يتربص بوحدتنا ودولتنا اليمنية. ولعل تجربته وخبرته السياسية كافية وكفيلة برسم معالم الحل العادل لجميع مشاكل الوطن اليمني الكبير.