محمد علي عناش -
انفصام الشخصية من الحالات المرضية الشائعة التي تصيب الأفراد فتجعلهم غير طبيعيين وغير متزنين في مواقفهم وأقوالهم وسلوكهم، وهو مرض ذهان يجعل الشخص المصاب به أشلاء متناثرة من الافكار والمعتقدات والاوهام والأحلام، ويعيش في عالم من التخيلات منفصلاً عن الواقع والعالم الخارجي.. ومختزلاً الكل في شخصه وذاته، وقد تتطور هذه الحالة إلى محاكمة كل ما حوله وكل الظواهر من خلال جزئيات بسيطة منتهجاً سلوكاً عنفياً وعدوانياً في سبيلها.. ظل الشيخ عبدالمجيد الزنداني طوال مراحله التاريخية وتفاعلاته الفكرية والسياسية والتي غالباً ما كانت تأخذ شكلاً صراعياً وتحريضياً وإلغائياً، يتنقل ما بين مربعين رجل الدين ورجل السياسة، مع تغليب واضح للسياسي بكل ما يتمتع به السياسي من صفات وأهداف وطموحات، مع اختلاف شكلي وظاهري في أن طموحات الشيخ تسوق عبر فتاوى دينية وبيانات علماء، وتتحصن خلف نصوص مقدسة من القرآن والسنة، يسقط عليها بعداً واحداً في تفسيرها وقراءتها الامر الذي جعله متناقضاً في تصريحاته ومواقفه التي ظل يتحكم فيها عامل الدين وعامل السياسة حسب ما تفرضه الظروف واتجاهها وقوتها. فهو مع الرئيس داخل القصر وضده في الخارج، وهو مع المعتصمين في مطالبهم وضد الدولة المدنية وهو مع المشترك وضد المشترك العلماني والحوثيين الروافض، هو مع الديمقراطية والانتخابات الرئاسية والبرلمانية ولابد من دولة دينية وخلافة اسلامية شوروية، هو مع نظام الحكم الاسلامي في تركيا ومتحفظاً عليه شرعاً ومنهجاً بنسبة 95%، وأمام هذه الاشلاء المتناثرة من المواقف والأفكار تكتشف أنه في الحقيقة ليس الا مع ذاته، هذه الذات التي يجب أن تعمم وتختزل وتكون المثال والنموذج للأمة العربية والاسلامية بشكل عام.. فبعد أقل من ثلاثة أيام من اجتماعه مع رئيس الجمهورية وتوقيعه على بيان العلماء الذي يدعو جميع الاطراف الى الحوار وضبط النفس وتحكيم صوت العقل والحكمة وتجنيب البلاد ويلات الفتن حل ضيفاً على ساحة جامعة صنعاء، حينها خطب في الساحة محرضاً الشباب ومحفزاً لهم على الاستقرار على ما هم عليه من اعتصام الذي وصفه بالجهاد وهم بالمجاهدين، لكنه أبداً لم يحث على الحوار وتغليب المصلحة الوطنية، لأنه لم يكن يرى المصلحة الوطنية الا في سقوط النظام وتنحي الرئيس، وهو ما أكده لاحقاً عندما قال إنه لا سبيل لتجنيب البلاد الفتن الا بسرعة التنحي والامتثال لإرادة الشعب، نعم قال الشعب قاصداً بذلك المعتصمين في الساحات وبقدر ما يتضمنه هذا الاختزال من دغدغة لمشاعر الشباب، وتحريض بعدم القبول بأي مبادرة أو حوار، بقدر ما يتضمنه من نزعة تمييزية وإلغائية مقيتة بحق كل من هم خارج الساحات سواءً من المؤيدين للنظام، أو الفئة الصامتة التي انحازت الى حضن الوطن وخيار الأمن والاستقرار، هذه الفئة التي كان رد فعلها هو اسقاط شرعية الثورة شعبياً وجماهيرياً، خاصة بعد حادثة جامع النهدين الاجرامية انتصاراً للوطن والأمن والاستقرار، وإيماناً مطلقاً بالحوار والانتقال السلمي للسلطة عبر الانتخابات الحرة والنزيهة وتجسيد السلوك الحضاري في الممارسة الديمقراطية.. لقد تجسد هذا المنزع الإلغائي في موقف آخر تجلت فيه فصامية الشيخ وتناقضاته في أعلى مستوياتها.. ففي حين أنه قال من حق كل طرف أن يقيم ساحات للاعتصامات شريطة أن لا تكون متقاربة، درءاً للفتنة لم تصدر عنه أية إدانة لزحف شباب ساحة الجامعة الى ملعب مدينة الثورة وما نتج عنه من ضحايا وأعمال عنف وتخريب. إن الأمن والاستقرار والسلم الاجتماعي والسلوك الحضاري الذي يفهمه ويؤمن به الزنداني، توضحه بجلاء الصورة الحية التي ظهر فيها بين حشود كبيرة من المسلحين من مليشيات جامعة الايمان ورجال القبائل، لم تكن صورة مدبلجة عن الزنداني أو صورة لأحد أمراء الجهاد في جبال تورابورا أو قندهار، وإنما صورة حقيقية للشيخ الزنداني في منطقة أرحب اليمنية، كان يخطب في ذلك الحشد من أنصاره، وأتباعه، يؤجج في أرواحهم غريزة العدوان، ويهيئهم كقتلة لكن بدم بارد دون أن ينتابهم أي شعور بالذنب أو الخطيئة، لذا بدوا في حالة حماسية عالية، وفي حالة استعداد تام لحرب أو غزوة مقدسة. كان هذا الموقف انقلاباً بكل ما تحمله الكلمة من معنى على الأمن والاستقرار وعلى قيم السلم والتعايش وعلى الحكمة اليمنية، كان تنميطاً أفغانستانياً هنا في اليمن، واستنساخ توأمة طالبانية في جبالها ووديانها. وهنا يؤكد علماء النفس وعلماء الاجتماع أن مرض فصام الشخصية الذي يصيب الافراد ويحولهم الى عدوانيين وغير متصالحين مع الآخرين، قد يتعداه الى المجتمعات، عندما تؤسر الذات الجمعية في عالم خاص من الأفكار والرؤى والمعتقدات والأحلام، وتنفصل عن العالم الخارجي. تظهر الروح الشريرة في شكل عنف وإرهاب جماعي وحروب الهويات القاتلة والدفاع عن المقدس.. انقلابات الشيخ الزنداني ومواقفه المتناقضة لم تنتهِ عند حد، فها هو في آخر محاضراته ينقلب على الشباب أنفسهم، مصرحاً بأنه ضد الدولة المدنية ومتهماً الدولة المدنية بأنها تقف ضد الدين.. وعلى الرغم أن الزنداني كشف عن مشروعه القروسطي، مستهدفاً أساس ما خرج الشباب من أجله، وجوهر وعمق الثورة والمشروع المدني، الا أن الشباب لم يكن لهم موقف مناهض ولم يدافعوا عن مشروعهم وأحلامهم، فما معنى ذلك؟ وكيف نفسر حالة الصمت هذه؟ الا أننا أمام حالة فصام جماعي، وفجوة معرفية عميقة، أمام حالة انفصال عن الواقع والدال والمدلول، وعن إرادة مأسورة وعقل هائم في عوالم من الأحلام السرابية.. أمام حالة وهم كبير عشناه ومازلنا نعيشه. فماذا أبقى لهم الزنداني وقد سلبهم أعز ما يحلمون به، فكان صمتهم علامة الرضا وعلامة الاستلاب النفسي والمعرفي بعد خمسة أشهر من التدجين العنيف والممنهج..لذا أعلنها الزنداني دون مبالاة انه ضد الدولة المدنية لإدراكه أنه لن يكون هناك رد فعل منظم من الساحة، بعد أن وصل الشباب الى هذه الحالة من الاستلاب والعدمية. لكن المفاجأة التي أرعبته، هو أن الذين هم خارج الساحات هم من يتصدون له معرفياً، ومنهجياً، بعد أن توهم ان كل القوى اليسارية والتقدمية قد تم تحييدها وتدجينها وحشرها في زقاقات تدخل من يرتادها في غيبوبة تامة. إن من هم خارج الساحات هم القوى الليبرالية الحقيقية وهم القوة الثالثة والفرز الناضج طوال هذه الفترة، هم يدافعون عن الدولة المدنية، لأنها عمق مشروعهم وجوهر تطلعاتهم وأحلامهم المعاصرة، هم من تجاوز وعيهم القضايا التي بات يثيرها الزنداني منذ عقود وشغل العالم بها، ويدركون أنها من معوقات تطور المجتمعات العربية والاسلامية، ومن الأسباب التي أسرت العقل، وقمعت إرادة الانسان، وأسست للاستبداد والارهاب والكهنوت. هم من يدركون أن هذه الأطروحات توظيف سياسي ونفعي للدين، يسلبه جوهره الحضاري ويلغي إرادة المجموع ليكرس سلطة الحاكم وسلطة العلماء وقداسة قراراتهم ومواقفهم. فمنذ تكفير الدكتور عبدالعزيز المقالح والدكتور حمود العودي في منتصف الثمانينات الى اللحظة الراهنة بتجلياتها المتطرفة والارهابية، مساحة وعي تراجع وتخلف، وحكاية طويلة بات من الضروري أن نقرأ فصولها بعناية ودقة فائقة.