محمد فيصل أبو ساق -
من الخطورة أن تنفرد أي قوى اجتماعية بقرارها الوطني وخصوصا في ظل الأزمات، لما يشكل ذلك من ابتزاز ومساومة ومحرض مستقبلي لسباق الأفعال والتصرفات المشابهة المضرة بأمن الوطن وسلم المجتمع.
ما يحدث اليوم في اليمن شأن مؤلم جدا لا يسر صديقا ولا يخيف عدوا؛ رغم ما حققه اليمن في العقدين الأخيرين من وحدة ونجاحات متعددة لا تخطئها العين. ودعوني أقول مبدئيا بأنني ممن ينظر إلى التركيبة القبلية بمنظور واقعي وليس افتراضي. فالقبيلة والعشيرة والأسرة مكون حتمي يفرض نفسه في كثير من مجتمعات العالم؛ وخصوصا في بلاد العرب وفي أفريقيا؛ بغض النظر عن التفاوت في قوى القبائل وأعدادها وأيضا في فلسفاتها وثقافاتها. وهنالك تحديات اجتماعية كثيرة تفرض نفسها على مسارات الأحداث في مسارح العمليات الإقليمية عموما، ويعتبر بعد القبيلة وقربها من الحدث أهم مؤشرات نجاح أو فشل الحدث. وكلما كانت الأنظمة المدنية أقل وجودا أو أقل تنفيذا ـ لأي سبب ـ كلما كانت الفعاليات الاجتماعية غير الرسمية أقوى وأكثر بروزا وتأثيرا.
وفي الدول المتقدمة، وخصوصا الغربية التي تقطعت أو ضعفت فيها الصلات الاجتماعية، نجد حاجتهم البارزة اليوم لنوع من الانتماء الاجتماعي؛ فيتم ذلك عن طريق الأندية الاجتماعية المغلقة على أصحابها. ورغم الفارق الكبير بين الأندية الاجتماعية ومفهوم الانتماء القبلي ـ إيجابا وسلبا ـ إلا أنها تتفق في إيجاد منظومة اجتماعية للاتصال والتعارف، وتقديم بعض الخدمات لأعضائها أحيانا.
وما يحصل اليوم في اليمن الشقيق يعد ناقوس خطر ويعرض تجربة صافية بصفاء الكريستال في أن الأوضاع تسيرها مصالح ضيقة وقوى متعارضة بوتيرة وصلت أعلى درجات الغليان؛ حيث تتحدى القبيلة الوطن كله والحكومة بكل قواها. فما يحدث من تداخلات قبلية واجتماعية أسهم في أعمال التمهيد الضرورية لصالح عناصر القاعدة وغيرها من القوى المسلحة غير الحكومية من العصابات لتحقيق اختراقات كبيرة. ومن الطبيعي لأي تكوين قبلي متنفذ في أي رقعة جغرافية من العالم أن تتراكم له قوى مضاعفة عبر الزمن بحكم العلاقات والتوازنات مع القوى القبلية الأخرى.
وفي كثير من البلدان ذات التركيبة القبلية يمكن الإشارة والقول باعتزاز حول كثير من القوى القبلية أفرادا ومجموعات لما قامت به من أدوار فاعلة في بناء واستقرار بلدانهم، بعيدا عن التسييس وبعيدا عن المصالح الفردية لقبيلة بعينها أو زعامة محددة. فالقبيلة بحكم معطيات قبلية كثيرة كانت ولا زالت قادرة على تحقيق الكثير من مقومات الاستقرار ونبذ كثير من السلبيات. والقبيلة في واقعها بنية تحتية رائعة للمجتمع المسالم والمحب للأمن والاستقرار والازدهار متى تضافرت الجهود.
ولا غنى لي هنا عن القول بأن ليس من إيجابيات الثقافة والحمية القبلية أن يتحول هم بني العشيرة الواحدة أو الأسرة الواحدة أو القبيلة الواحدة بأن تعطى الأولويات والميزات لصالح قبيلتهم وذويهم؛ فذلك أحد أبرز معوقات الحياة الاجتماعية ومفسدات التطوير والتنمية بصفة عامة. وقل أن يوجد في مجتمعاتنا الشرقية من ليس له انتماء وحمية وصلات قربى بمكونات أسرية وعشائرية وقبلية بغض النظر عن حجمها وتفاعلها. والمخلصون ممن لهم هذه الانتماءات لا ينظرون إلى بقية مجتمعهم ومن هم خارج دوائر انتماءاتهم الضيقة إلا بمنظور إيجابي، ويمقتون كل من يرغب أو يتصرف بحمية سلبية للانتقاص من حقوق أو مكانة الآخرين.
وقد شاهدنا تأثير الفكر السلبي حين يوجه مجاميع كبيرة في تحقيق نتائج انتخابات معينة لتقسيم النتائج بمحاصصة تتأثر بحجم الدعوة والتصويت والترويج العرقي أو الفكري بغض النظر عن مستوى العدالة وقرب ذلك من واقع ومتطلبات الخدمة الوطنية المفترضة.
وعودة إلى الأوضاع في اليمن الشقيق، فقد شهدنا الإعجاب الكبير للعالم كله بما يتردد مؤخرا وبشكل كبير عن مفهوم "الحكمة اليمانية" التي جعلت الملايين المدججة بالسلاح تتجنب الانفجار والتقاتل والدخول المبكر في حرب أهلية، منذ بداية الأزمة الراهنة. وقد يعزى ذلك الشأن إلى كل الأطراف رسميا ومدنيا. ولكن واقعا قبليا متكونا ومتراكما منذ عقود طويلة حقق لبعض القوى القبلية قوة وتحصينا وعدة واستعدادا. وهكذا يمكن لذلك الواقع تحت ظروف وتحديات وضبابية مواقع ومواقف أن يزج بالمجتمع في مناورات خطيرة وغير محسوبة حينما وحيثما تشاء زعامة فردية فيتقرر أي فعل عاطفي ويزج بالمجتمع وبالوطن كله في أتون تبعات جسيمة وغير محسوبة.
وتحت أي مبرر وفوق أي مبرر وبغض النظر عن المحق والمخطئ وبغض النظر عن أي خلفيات ومسوغات انفجار الأزمة فإن قدرة القبيلة على استثمار مركز ثقلها وعلى تحريك قواها البشرية والمادية والمعنوية خارج الإطار الرسمي لتحقيق مواقع متقدمة أو القفز نحو المستقبل لمنع مواقع متأخرة مفترضة يعد شأنا مخزيا في هذا العصر الذي تتسابق فيه المجتمعات المدنية حول العالم نحو قفزات تنموية متطورة.
هنالك من ينظر للوطن ومكتسباته من منظور لك أو لأخيك أو للذئب، باعتبار منقوص لبقية أبناء المجتمع ومن لهم الأحقية أو الأسبقية. وليس أسوأ من الفساد الإداري في أبلغ صوره بين موظفي الدولة، إلا استغلال القوى الاجتماعية والزعامات القبلية لنفوذها بحمل السلاح وتحريك الرجال في دولة العصر الحديث. فالقبيلة بذلك التصرف والقرار تسهم في خطف المجتمع والعبث بأمنه وتسجل سوابق ومغريات للغير ـ متى كان قادرا ـ للعمل بنفس الفكر والمنهج تحت ظروف أخرى قد تكون لها نفس المسوغات.
والأسوأ في ذلك حين تعد الزعامات القبلية العدة مبكرا لتأسيس البنية التحتية لقواها وفعالياتها بعدد من الوسائط، فحينما تملك تلك الزعامات وسائط متكاملة للقيادة والسيطرة عبر شبكات اتصالات لاسلكية وكذا معدات وأسلحة مكدسة مسبقا؛ فإن ذلك يبرهن على خطر هذه القوى الاجتماعية وخطر توجهاتها بشكل وبترصد مسبق. إنها عبرة اجتماعية وسياسية تبعث على مؤشرات مستقبلية مقلقة، وهي فعاليات خطيرة تدور في حلقة مفرغة ويمكن نموها وتكاثرها وتفجرها في أحوال وأماكن متعددة.
ما عرضته وسائل الإعلام في الدولة الجارة خلال الأسابيع الماضية من فعاليات حربية قبلية تجوب الشوارع وتشارك في تقرير الواقع أو تغييره بقيادة وسيطرة قبلية لا يبرهن عن حالة سارة؛ بل شأن مؤسف ولا أجد له تبريرا أو قبولا. هنالك دوائر وقوى وطنية ومؤسسات عسكرية، وغيرها من الفعاليات المدنية التي تمثل كل الوطن وكل المجتمع؛ وأي تصرف تتبناه القوى الاجتماعية المدنية خارج إطار العمل القبلي يعد أكثر قبولا من الانفراد عبر الزعامات القبلية للعمل في مناورات حربية في مسارح أحداث الوطن.
إن من الخطورة أن تنفرد أي قوى اجتماعية بقرارها الوطني وخصوصا في ظل الأزمات استنادا إلى زهوها وتطلعاتها ومصالحها ورؤاها، لما يشكل ذلك من ابتزاز ومساومة ومحرض مستقبلي لسباق الأفعال والتصرفات المشابهة المضرة بأمن الوطن وسلم المجتمع. وحين تتجاذب القوى المحلية استنادا إلى معطياتها الحربية والمادية والبشرية غير الحكومية سعيا إلى أهداف ذاتية فإن ثغرات كبيرة تنشأ في جسد الوطن وأطواق دفاعاته. ومثلها، جسور وطنية أخرى تتكسر أو يصعب العبور الوطني الآمن من خلالها، وتتفرق المسؤوليات، وتتعقد الحلول، ويبرز لاعبون آخرون لهم أجندات ورؤى مختلفة، قد تكون أكثر شرا وخطرا.
* الوطن السعودية