أحمد الحبيشي - سبق لكاتب هذه السطور في العديد من المقالات والمقابلات والمداخلات السياسية والفكرية القول بأن اليمن الموحد لا يكافح منفرداً خطر الإرهاب الذي يمارسه تنظيم «القاعدة» منذ تأسيس الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والنصارى التي دشنت في بيانها التأسيسي عام 1998م حرباً مفتوحة ضد فسطاط الكفر والدول الإسلامية (( توالي الدول الكافرة من خلال اعترافها والتزامها بميثاق الأمم المتحدة والمواثيق الدولية التي تعامل الدولة الإسلامية، والدول الكافرة على قدم المساواة في السيادة والاستقلال )) بحسب ما ورد في ذلك البيان وغيره من أدبيات تنظيم «القاعدة» في شبه جزيرة العرب ،وشيوخ الحركة الصحوية السلفية الوهابية الذين أنتجوا هذا التنظيم الارهابي في اليمن والسعودية .
لقد أصبح الإرهاب اليوم مشروعاً لإغتيال المستقبل على نحو ما تشير اليه المعارك التي تخوضها قوات الجيش والأمن الى جانب المواطنين الشرفاء في مختلف مديريات محافظة أبين ضد قوات تنظيم ( لقاعدة ) التي تمكنت من السيطرة على مديريتي زنجبار وجعار، والتوغل في مديريات لودر ومودية ومكيراس برعاية الأوليغارشيات العسكرية والقبلية التي كانت تدير الدولة السرية من داخل الدولة الوطنية بصورة غير دستورية قبل ان تعلن انشقاقها عن النظام تحت مسمى( الثورة الشعبية للتغيير )، ناهيك عن أن الارهاب بما ينطوي عليه من فكر إلغائي ومتطرف وممارسة دموية يشكل خطراً كبيراً على الديمقراطية التعددية التي لامجال فيها للعنف وسفك الدماء.
ولا ريب في أن كافة الوطنيين والمواطنين الشرفاء في كافة الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والمثقفين والفنانين والصحافيين ورجال الدين المستنيرين والمؤسسات العلمية والإعلامية والثقافية ، معنيون بالمشاركة الفعالة في مكافحة الإرهاب، وتجفيف منابع التطرف، ونبذ ثقافة العنف وصياغة استراتيجية وطنية شاملة تحقق هذه الأهداف.. ولم يعد هناك مجال للحياد في الحرب على الإرهاب أو التماهي معه أو التستر عليه ، بعد أن أصبحت هذه القضية مهمة وطنية وعربية وإسلامية وإنسانية أكثر إلحاحاً، الأمر الذي يتطلب من الجميع الارتقاء إلى أعلى درجات المسؤولية تجاه المصالح الوطنية العليا،بعيداً عن الحسابات الضيقة والمكايدات الحزبية.
من نافل القول إن الإرهاب لم يعد فقط خطراً على حياة أبرياء يتعرضون للموت الجماعي على أيدي عصابات منظمة من القتلة المحترفين الذين جرى حشو أدمغتهم بأفكار سلفية تكفيرية متطرفة ترتدي طابع القداسة الدينية الزائفة ، بل إنه أصبح أيضاً يشكل خطراً على سيادة واستقلال ومصالح البلدان التي تكتوي بنار الإرهاب ، إذ يؤدي التهاون في مكافحته وإدانته بعد أن أصبح خطرا يهدد اليمن والسعودية ودول الخليج والعالم بأسره إلى تمهيد الطريق للتدخلات الأجنبية بذرائع مختلفة من بينها الدفاع عن النفس وتصفية بؤر الإرهاب الإقليمي والدولي.
لا يجوز بعد الآن السكوت أمام هذا الخطر أو الحياد في المعركة الدائرة ضده، وعلى الذين تعز عليهم سيادة واستقلال هذا الوطن أن يحددوا موقفهم بدون أي لبس أو تمويه من خطر الإرهاب الذي يتربص بأمن الوطن واستقلاله، وأن يقولوا رأيهم بوضوح حول إرهاب ما تسمى بالجبهة الإسلامية العالمية لمحاربة اليهود والنصارى، وذراعها العسكري المعروف بتنظيم «القاعدة»، وذلك حتى لا نقع ضحايا سذجاً لإرهاب يسعى إلى تدمير بلادنا وتغيير العالم بالقوة.
وبوسعنا القول إن الرئيس علي عبدالله صالح عندما كان يتحدث طوال السنوات الماضية عن ضرورة تعاون كافة دول العالم لمكافحة الإرهاب ، فقد انطلق في هذا الموقف من إدراكه الواعي لما يشكله الإرهاب من مخاطر مدمرة تهدد المصالح العليا للوطن والشعب، بقدر ما تهدد في الوقت نفسه أمن واستقرار مختلف بلدان وشعوب المنطقة والعالم بأسره .. بيد أن موقف أحزاب المعارضة المنضوية في إطار تكتل (اللقاء المشترك) من هذا الخطر اتسم بالالتباس وعدم الوضوح لجهة نزوعها المستمر لتشويه موقف بلادنا المناهض للإرهاب، ومحاولة تحريض الجماهير ضد الدولة وقيادتها السياسية بذريعة التفريط بالسيادة الوطنية، وصولاً إلى ممارسة ضغوط مختلفة لإضعاف التزام الحكومة اليمنية بقرارات الشرعية الدولية ضد الإرهاب، وفي مقدمتها قرار مجلس الأمن الدولي رقم (1373) لعام 2001م بشأن التعاون الدولي لمكافحة الإرهاب وتجفيف منابعه ومنعه من الحصول على ملاذ آمن، وقطع كافة مصادر غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
الثابت أن لامبالاة أحزاب «اللقاء المشترك» إزاء الإرهاب، وعدم وضوح أسباب موقفها المحايد من المواجهة الدائرة ضد الإرهاب، وغياب موقف ملموس وصريح في إدانته وتعبئة الرأي العام لتفهم أخطاره والتصدي لها، إن كل ذلك يدل على أن هذه الأحزاب لا تستشعر خطر الإرهاب على مستقبل البلاد والمصالح العليا للوطن والشعب، وتنظر إليه وكأنه فرصة يجب استثمارها لخدمة أجندتها السياسية التي تستهدف إضعاف علاقة الحكومة بالدول والحكومات التي تتعرض مصالحها في بلادنا لخطر الإرهاب الذي يراهن ممولوه وفقهاؤه وسفهاؤه على أن يجدوا في اليمن ملاذاً آمناً له.
يقيناً إن أحداث 11سبتمبر 2001م الإرهابية أسهمت في تغيير الكثير من موازين السياسة الدولية، ومعايير العلاقات الثنائية والتعاهدية بين مختلف أطراف ومؤسسات وكيانات المجتمع الدولي.. وخلال السنوات العشر التي تلت تلك الأحداث، جرت مياه كثيرة في العالم،كان لها تأثير كبير في تجويف مسار المتغيرات التي كانت قد شرعت منذ انتهاء الحرب الباردة في إعادة صياغة النظام العالمي،وتسريع التحولات الديمقراطية على نطاق كوني،بالتلازم الوثيق مع تصاعد إيقاعات ومنجزات ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
ولعل من أبرز ملامح التجويف الحاصل في مسار المتغيرات العالمية تحت تأثير أحداث 11 سبتمبر الإرهابية بروز دور جديد للصنم الأيديولوجي من خلال استبدال المنظور القديم للأيديولوجية الشيوعية التي افترضت تقسيم العالم إلى عالمين: اشتراكي ورأسمالي، بمنظور أيديولوجي لاهوتي سلفي وهابي ، ينقسم العالم بموجبه إلى (فسطاط الإيمان وفسطاط الكفر)،الأمرالذي يشكل نكسة مروعة للميول الموضوعية التي أوجدتها ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات،ونهاية الحرب الباردة باتجاه تأكيد وحدة وتكامل العالم الواقعي والحضارة الإنسانية والمجتمع البشري.
الأخطر من كل ذلك أن تداعيات أحداث 11 سبتمبر لم تهدد فقط وحدة وتكامل العالم، بل تجاوزت ذلك الخطر لتهدد أيضاًوحدة وتكامل الحضارة الإنسانية المعاصرة، حيث ارتفعت أصوات متطرفة من هنا وهناك تروج لأطروحات بائسة مثل فرضية «صدام الحضارات» التي أطلقها في التسعينات من القرن العشرين صموئيل هنتجتون ثم اتخذ منها المحافظون الجدد في الغرب ذريعة لاتهام الاسلام والعالم الإسلامي بالارهاب ، أو نظرية «الاستحلال الحضاري» التي روجت لها المخرجات الفقهية للفكر السلفي الوهابي في العالم الإسلامي على نحو ما عبرت عنه أدبيات الحركة الصحوية السلفية في السعودية واليمن بعد تلك الأحداث مباشرةً،حيث يرى الشيخ سفر الحوالي في كتابه الشهير( بيان الى الأمة ) ما معناه بدون أي لبس ( ان الصراع مع الكفار وهم غير المسلمين بحسب مفهومه هو صراع عقدي محتوم ، لأن أصول عقيدة أهل السنة والجماعة ان الجهاد ماضٍ إلى قيام الساعة مع كل من حمل الراية لنصرة الدين وقتال الكافرين براً كان أو فاجراً) .
ولا يكتفي الحوالي بهذه الرؤية المذهبية المتطرفة فقط بل إنه يذهب الى أبعد من ذلك حيث يقول في كتابه ( القدس بين الوعد الحر والوعد المفترى) ما مفاده : ( إذا تركنا الجهاد وآمنا بأن العداوة مع الكفار قد انتهت أو يجب أن تنتهي فنحن ينطبق علينا الارتداد عما أمر الله تبارك وتعالى به ) ، فيما قال الشيخ عبدالله صعتر في شريط أصدره بمناسبة الذكرى الاولى لأحداث 11سبتمبر ، وأعادت نشره صحيفة (العاصمة) التي يصدرها حزب (الاصلاح ) في عددها رقم 35 الصادر بتاريخ1/10/ 2002م : (( لا يجوز أن يبقى شبر في الارض لا يحكمه الاسلام ولا يجوز أن يبقى انسان في الارض لا يدين بالاسلام والله ما ارسل رسوله ليدعو ويبقى في مكانه بل قال له ولاتباعه من بعده وقاتلوهم)) .
من السهل جداً تفنيد أطروحة تقسيم العالم إلى « فسطاط الكفر وفسطاط الإيمان»، ومن السهل أيضاً دحض مقولتي «صدام الحضارات» و«الاستحلال الحضاري» لأنها تشكل منظومة من المفاهيم البائسة والمحبطة والمتعالية.. بيد أن أطروحة تقسيم دول العالم بين «مؤيد للارهاب ومناهض له » تفتقر إلى الموضوعية ، لأن الغرب وفي المقدمة منه الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا على وجه التحديد كان أول من أطلق عفاريت التطرف والإرهاب من قمقمها، حين أباح لنفسه توظيف الدين لأغراض سياسية واستخباراتية في معارك الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفيتي وحركات التحرر الوطني، وقدم الملاذ الآمن لقادة الإرهاب وجماعاته، وساندهم بمختلف أشكال الرعاية الاجتماعية والحماية القانونية والخبرة الإعلامية والدعم الاستخباراتي.. وقد أوضحنا في مقالات سابقة كيف أن الرئيس علي عبدالله صالح كان سباقاً في عام 1999م وقبل عامين من أحداث 11 سبتمبر 2001م ، بانتقاده حكومتي الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا لمواقفهما المزدوجة من الإرهاب، فهما يطالبان دول العالم بمحاربته من جهة، بينما يقدمان لشيوخ الإرهاب وقادة الجماعات المتطرفة الرعاية والدعم، كما كان الرئيس علي عبدالله صالح سباقاً في ذلك الوقت بتحذير حكومتي هذين البلدين من الاكتواء بخطر الإرهاب ، وهو ما حدث فعلاً بعد عامين من إطلاق هذا التحذير بوقوع أحداث 11 سبتمبر الإرهابية والتفجيرات الارهابية التي روعت لندن وباريس ولشبونة !!
وحيث طالت عفاريت الإرهاب مدينتي نيويورك وواشنطن ومدينة لندن وبعض المدن الأوروبية، بدأ الغرب يحصد ما زرعته دوائره السياسية وأجهزته الاستخبارية ومؤسساته المالية التي ابتكرت طرقاً مموهة لرعاية وتمويل الإرهاب على نحو يعفيها من مساءلة المؤسسات الدستورية.. فصار لزاماً على هذه الدوائر والأجهزة والمؤسسات أن تفتح أرشيفها السري لتراجع قوائم المنظمات والبنوك والجمعيات التي تولت تنفيذ وتمويل الإرهاب برعاية أمريكية وأوروبية.. ولم تكتف بهذا الحد من ردود الفعل السريعة بل تجاوزت حدود المعقول بتوجيه تهمة إيواء الإرهاب لبلادنا التي كانت من أوائل الدول التي اكتوت بناره.
ثمة حكومات وشعوب عربية وإسلامية اكتوت بنار الإرهاب والتطرف طوال العقدين الماضيين، وكان لها سبق التصدي لهما ، وتجفيف منابعهما فيما كان الغربعلى الجانب الآخر يقف بسلبية مطلقة ويقدم الملاذ الآمن للإرهابيين والمتطرفين ، ويلاحق الدول التي كافحت أولئك المجرمين بتهم مصادرة الحريات الديمقراطية وانتهاك حقوق الإنسان.
ومنذ أحداث 11 سبتمبر 2001م، تحول الغرب من متهم بدعم الإرهاب وإيوائه إلى ضحية لشروره، وتحت ضغط تلك الأحداث سعت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها في أوروبا إلى قلب الموازين بإصرارها على تحويل ضحايا الإرهاب إلى متهمين بإيوائه ومتقاعسين في محاربته، وهو ما يستلزم تقديم البرهان على أن اليمن الذي اكتوى بنار الإرهاب لن يسمح انطلاقاً من مصالحه الوطنية بالدرجة الأولى بوجود ملاذ آمن للإرهاب في أراضيه ، ولن يسمح لأي شكل من أشكال التماهي معه والتستر عليه.
والحال ان بلادنا تشهد منذ عامين حربا مفتوحة بين قواتنا المسلحة الباسلة وبين الإرهاب متعدد الجنسيات الذي عبر الحدود إلى اليمن في أخطر عدوان على سيادة واستقلال وأمن واستقرار بلادنا، حيث سعى تنظيم «القاعدة» الى دمج جناحيه في السعودية واليمن في مطلع العام الماضي 2009م تحت قيادات عسكرية واحدة ، تتخذ من اليمن قاعدة انطلاق لتهديد أمن واستقرار وسيادة بلدان المنطقة وطرق الملاحة الدولية وخطوط إمداد العالم بالنفط ، وما يترتب على ذلك من تهديد مباشر للأمن والسلم الدوليين من جهة، وإلحاق أضرار كبيرة ومدمرة بالمصالح الوطنية العليا لليمن أرضاً وشعباً جراء تداعيات المواجهة الإقليمية والدولية مع الأخطار المفتوحة على محاولات تنظيم «القاعدة» تحويل اليمن الى ملاذ آمن للارهابيين الذين يستقدمهم من مختلف أنحاء العالم ، والانطلاق منها للإضرار بمصالح البلدان المجاورة والعالم بأسره.
وبقدر ما تشكل الحرب المفتوحة التي تخوضها قواتنا المسلحة ضد أوكار الإرهاب الوافد إلى بلادنا موقفاً وطنياً يجسد الحرص على إستقلال وسيادة وأمن وإستقرار البلاد من مخاطر تحويل اليمن إلى ملاذ آمن وقاعدة انطلاق للإرهاب الدولي الذي يمارسه تنظيم «القاعدة»، بقدر ما يشكل التستر على الوجود غير المشروع لتنظيم «القاعدة» في اليمن، والتماهي مع خطابه السياسي، وتوفير الغطاء المحلي لجرائمه الإرهابية تفريطا بالمصالح الوطنية العليا.
ومما له دلالة أن يتزامن نجاح الحملات التي قامت بها قواتنا المسلحة ضد أوكار الإرهاب الوافد على بلادنا، وتزايد الخسائر التي لحقت بهذه الأوكار جراء الحرب المفتوحة على تنظيم «القاعدة» في اليمن، مع بروز أصوات تدافع بشكل مباشر أو غير مباشر عن الإرهاب بهدف إيقاف الحملات التي تقوم بها قواتنا المسلحة ضد أوكار تنظيم «القاعدة»، وبالتالي فتح الطريق أمام التدخلات الأجنبية والإقليمية في الشؤون الداخلية، والتي لا يمكن منعها بدون قيام الدولة وقواتها المسلحة بواجبها الوطني في ملاحقة الإرهاب وحماية سيادة واستقلال وأمن واستقرار البلاد.
في هذا السياق يمكن القول إن البيان الذي وقع عليه قبل شهرين (150) من فقهاء وخطباء المساجد التابعين لحزب التجمع اليمني للإصلاح الذي يقود ويوجه ما تسمى ( الثورة الشعبية للتغيير ) كان متماهيا بوضوح سافر مع خطاب وأهداف تنظيم «القاعدة» ومدافعاً عن وجوده غير الشرعي في اليمن، حتى وإن حاول الذين صاغوا ذلك البيان ممارسة التدليس من خلال استخدام خطاب سياسي انتهازي يسعى من خلاله بعض رجال الدين إلى توظيف ما تسمى (ثورة التغيير ) للبحث عن وظيفة كهنوتية تجعل منهم طبقة سياسية فوق الدولة ومؤسساتها الدستورية وفوق الدستور والمجتمع المدني على غرار ما كانت تفعله الكنيسة ومحاكم التفتيش في أوروبا ، قبل ظهور الثورة الصناعية وانتشار أفكار الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة على الصعيد العالمي. |