د. علوي عبدالله طاهر - كان الاتراك قد أدخلوا مطبعة يدوية صغيرة الى اليمن في حوالي عام ٢٧٨١م، وهي المطبعة التي كانت تسمى مطبعة الولاية، ولا تطبع اكثر من صفحتين صغيرتين، وحروفها تجمع وترتب باليد عن طريق العمال، وعند جلائهم عن اليمن خلفوا وراءهم تلك المطبعة، فاستعان بها الإمام يحيى لطبع منشوراته وما يحتاج اليه من مطبوعات، وفي منتصف العشرينيات من هذا القرن ظهرت الحاجة الى وجود صحيفة رسمية تعبر عن لسان الحكومة اليمنية، وتنشر اخبار الإمام يحيى وانباء تنقلاته ومقابلاته، وكان الدافع لذلك هو الدفاع عن الامام والرد على ما كان ينشر ضده في الصحف العربية، فصدرت صحيفة »الإيمان« في صنعاء عام ٦٢٩١م، لتكون أول جريدة رسمية يمنية، فاتجهت وجهة دعائية للإمام، فظهرت فيها المقالات التي تشيد بالإمام وبحكومته الى جانب أشعار المديح والاخبار المتنوعة التي تعنى بتحركات الإمام وتتابع تنقلاته ومقابلاته.
ولم تكن تعنى بالشكل ولا بالإخراج ولا بنوعية ورق الطباعة، وسارت على وتيرة واحدة، بأسلوب تقليدي جامد، تدور موضوعاتها في فلك الدولة، ولم تحد عن ذلك، وكان الإمام هو الذي يوجه سياستها، فوقفت ضد الثقافة الحديثة، وهاجمت العلماء المتنورين الذين طالبوا بإدخال اصلاحات في المجتمع ونظام الحكم.
ثم أتت مجلة »الحكمة اليمانية« التي اصدرها الوريث عام ٨٣٩١م، لتكون أكثر انفتاحاً من »الإيمان«.. وكانت تطبع في مطبعة يدوية قديمة، وتحوي ٢٣ صفحة، وتصدر شهرياً، وساهمت الى حد ما في نشر الوعي والثقافة، من خلال كُتابها الذين كانوا يعملون في ظروف صعبة، وقد وجدت حركة المعارضة فيها بعض التنفس للتعبير عن مطالبها لإصلاح الاوضاع وتطوير البلاد، ولكنها جوبهت بالعديد من العقبات التي حالت دون استمرار صدورها، فتوقفت عن الصدور عام ١٤٩١م، في وقت كانت الحركة الوطنية في بداية نشاطها العلني في عدن، بعد ان تجمع فيها نخبة من قادة المعارضة لحكم الإمام يحيى، وشرعوا بتأسيس النوادي والجمعيات والمنظمات الاجتماعية والسياسية، فأصدروا في عدن صحيفة »صوت اليمن« عام ٦٤٩١م من أربع صفحات، ثم صارت ثمان صفحات فيما بعد، وكانت معظم موادها موجهة ضد حكم آل حميد الدين، واعوانهم ورجال حاشيتهم، وشنت حملات معادية للإمام، وطالبته بإجراء اصلاحات داخلية في كل المجالات.. فتعمقت صلتها بالقُراء، خاصة انها كانت تقارع النظام الإمامي وتفضح ممارسات المسئولين، فمهدت لانقلاب ٨٤٩١م، وتفاعلت مع احداثه الى ان فشل الانقلاب وأُغلقت الصحيفة.
ثم أتت بعدها صحف اخرى تطبَّل للإمام احمد وتدعم موقفه في اعدام رجال الانقلاب الفاشل، فصدرت اولاً صحيفة »سبأ« عام ٩٤٩١م في عدن، ووقفت منذ اعدادها الأولى مع الإمام وظلت تكيل له المدائح، ولخصومه الشتائم، وبررت مجازره في قتل زعماء المعارضة، والتنكيل بهم، او سجنهم، كما كانت تنشر اخبار تحركات الإمام ولقاءاته.
ثم صدرت بعدها جريدة »النصر« في مدينة تعز عام ٠٥٩١م.. بعد التوقف المؤقت لجريدة »سبأ« في عدن، وسارت »النصر« نهج »سبأ« و»الإيمان«.. وكانت جريدة شبه رسمية تنطق بلسان الحكومة، وساندت ولاية العهد للأمير محمد البدر، وعبرت عن وجهة نظر الإمام احمد ازاء القضايا المختلفة.
وفي اواخر الخمسينيات كانت بريطانيا قد طرحت مشروع الاتحاد الفيدرالي للامارات الجنوبية، وهو المشروع الذي رفضه الامام والقوى السياسية في الجنوب، وكان عبدالله باذيب يومئذٍ قد لمع نجمه، وأيد موقف الإمام في الدخول لاتحاد الدول العربية، وهو ما عارضته حركة الأحرار، فاستدعى الإمام احمد عبدالله باذيب لمقابلته في تعز، واسفر اللقاء عن اصدار صحيفة »الطليعة« في تعز عام ٩٥٩١م، وقد ركزت معظم موضوعاتها حول قضية المحتل، ولم تجرؤ على تناول قضايا الشمال إلاّ في حدود ضيقة، ولم يصدر منها سوى ٣١ عدداً.
أما في عدن فقد شهدت نهضة صحفية لا بأس بها، وكانت اولى الصحف هي »فتاة الجزيرة« الصادرة عام ٠٤٩١م، وكانت متوسطة الحجم، من ثمان صفحات، تطبع طباعة يدوية، وغير مبوبة تبويباً صحيحاً، وفيها بعض الاكليشات الرديئة، وهي صحيفة أهلية صاحبها ورئيس تحريرها محمد علي لقمان، ولما كان صدورها اثناء الحرب فقد وقفت مع الحلفاء، ودعمتهم وتابعت اخبار الحرب العالمية الثانية، ونشرت تصريحات واخبار القادة الانجليز، وبعد الحرب تبنت مشروع الحكم الذاتي لعدن، وروجت لهذا المشروع، كما طالبت بإدخال بعض الاصلاحات والخدمات الى عدن، وساندت مطالب حركة الأحرار المعارضة للامام، ثم تتابعت بعدها الصحف والنشرات والدوريات.
فصارت عدن تحتل مكان الصدارة في الساحة اليمنية من حيث اصدار الصحف، ذلك ان الادارة البريطانية اضطرت خلال الحرب العالمية الثانية ان تصدر عدداً من النشرات الدورية لهدف توعية الناس وتوجيههم لما ينبغي اتباعه اثناء الحرب، اذ كانت قد وجدت في عدن بعض المطابع لغرض طبع المستندات الرسمية والوثائق الحكومية، واوراق الشركات التجارية، فاستخدمت بعض تلك المطابع لطبع الصحف، حيث كانت تصدر في عدن قبل الثورة العشرات من الصحف، ولكن معظمها غير منتظمة الصدور، وصغيرة الحجم، وتوزيعها ضئيل، وتخضع جميعها لقانون الصحافة والمطبوعات، المقيد لحركتها ونشاطها، لذلك كانت معظم الصحف الصادرة في عدن تسير في ركب المخططات الاستعمارية إلاّ القليل منها، وهي الصحف العمالية، كما كانت بعضها صحفاً تجارية تعني اساساً بالاعلان التجاري، وبعضها انحصر نشاطها في اهداف محددة لم تستطع ان تتجاوزها، إذ كانت الصحف التي تتعرض للسياسة الاستعمارية في عدن، او تفضح مخططاتها وتنتقد مشاريعها، تتعرض للاغلاق، ويتعرض محرروها للاعتقال كما حصل للنهضة، والبعث، والفكر، والعامل.. وغيرها.
وكان الطابع العام لصحف عدن يغلب عليه الجانب الاخباري، الى جانب المقالات السياسية التي تخلو من التحليل العميق والرؤية المستقبلية الواضحة.. حيث كان يتم تحليل الاحداث من وجهات نظر قاصرة، ومفاهيم فكرية متنافرة، وقد اتاح ذلك فرصة ظهور بعض الحوارات والمناقشات التي كانت في بعض الحالات تتحول الى مهاترات وتهجمات شخصية.
ثم قامت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر ٢٦٩١م المجيدة، وقلبت الامور رأساً على عقب، إذ اهتمت معظم الصحف بقضية الثورة، وتابعت اخبارها، ونشرت تصريحات قادتها، وردود الأفعال المختلفة لإجراءاتها، وقراراتها، وصارت معظمها تتناول الاحداث اليمنية بنوع من التحليل والتعليق المعبر عن وجهات نظر اصحابها، او الاحزاب والتنظيمات السياسية التي تمتلكها، فأخذت المناقشات السياسية تأخذ حيزاً واسعاً في الصحف اليمنية عموماً، خصوصاً ما يتعلق بقضية الدفاع عن الثورة والتصدي لأعدائها، وكشف مخططاتهم، وفضح عملائهم، فاكتسبت الصحافة مكانة متميزة في مرحلة الدفاع عن الثورة، حيث ساهمت في بلورة افكار الثورة، وشرح اهدافها، ورفع معنويات الناس، لكي يتحملوا متاعب الصمود دفاعاً عن الثورة، ثم تهيأت الظروف لاندلاع ثورة ٤١ أكتوبر ٣٦٩١م، فاحتلت تحركات الثوار ونشاطاتهم حيزاً كبيراً من اهتمامات الصحف، حتى غدت الجماهير متفاعلة تفاعلاً كاملاً مع الأحداث الجارية في المنطقة والعالم.
ويمكن القول ان الصحافة اليمنية واكبت الثورة منذ ايامها الأولى، وسجلت وقائعها اولاً بأول مما يجعلها مرجعاً مهماً لكل باحث في تاريخ الثورة اليمنية، ذلك انها اسهمت اسهاماً كبيراً في تغيير افكار الناس، وتصحيح كثير من مفاهيمهم الخاطئة عن الكون والعالم والحياة على اختلاف مجالاتها، واستطاعت ان تبلور وعي الناس ازاء القضايا الوطنية، وتثير اهتماماتهم نحو بناء الوطن، والدفاع عنه، والحفاظ على سيادته، وتحرير الأجزاء المحتلة منه، والسعي الجاد نحو تحقيق وحدته.
فهي رغم امكاناتها الشحيحة، ورداءة طباعتها وصعوبة توزيعها ومحدودية تداولها، لكنها عملت كل ذلك بدافع الاخلاص للثورة والولاء للوطن، ولها الفضل الكبير في التهيئة للوحدة اليمنية المباركة.
وفي مرحلة ما بعد الجلاء، واستقلال الشطر الجنوبي من الوطن، أخذت الصحافة تنهج نهجين متغايرين، خاصة بعد اقدام النظام الشمولي في الجنوب على ايقاف كل الصحف التي كانت تصدر في عدن، ومصادرة مطابعها والاكتفاء بصحيفة واحدة، او صحيفتين، تخضع كليةً لاشراف وتوجيهات التنظيم السياسي الحاكم، ثم الحزب فيما بعد، والذي وجه الصحافة وجهة عقائدية تتبنَّى افكار منظري الماركسية اللينينية، فأخذت الصحافة في عدن تنحو منحى مغايراً لصحافة صنعاء التي ظلت ملتزمة لخطها الواقعي ونهجها الوطني المعتدل.. وقد ابتعدت الصحافة اليمنية عن بعضها، فكراً ومنهجاً وقُرَّاءً، وانقطعت الصلة فيما بينها الى حين، إذ لم تكن صحف الجنوب تصل الى الشمال ولا صحف الشمال تأتي الجنوب، وكان رقيب الحدود في الشطرين يصادر اية صحيفة او نشرة يحملها المسافر من شطر الى آخر.
وفقدت الصحافة هيبتها في تلك المرحلة، وابتعد عنها كثير من القُراء الذين لم يجدوا فيها ما يثير اهتمامهم.. ولا ما يتناول قضاياهم، او يعالج مشكلاتهم، فلم تعد صحف الجنوب تعنى بقضايا المواطن في الشمال، ولا صحف الشمال تعنى بقضايا المواطن في الجنوب.. وفي الحالات النادرة التي قد تبرز فيها قضايا تمس المواطن في الشطر الآخر، يغلب عليها طابع التحريض والتجريح والشتائم، والمساس برجال السلطة في الشطر الآخر.
وهكذا فإن الصحافة في تلك المرحلة لعبت دوراً سلبياً في واقع الحياة الثقافية، حيث اسهمت بعضها لفترة من الزمن في تعميق الهوة بين وجدان الناس في الشطرين، وكرست التشطير بهذا القدر او ذاك، بدليل ان بعضها كانت ترفض نشر اية مقالة او خبر يتعلق بنقد او رفض الاجراءات التي كان معمولاً بها قبل الوحدة لتقييد حركة تنقلات الافراد بين الشطرين.
اما بعد الوحدة المباركة فقد تغيرت ملامح ومعالم الصحافة اليمنية تغييراً جذرياً، بفعل المناخات الديمقراطية المتاحة، فاندفعت الصحافة لانتقاد كل شيء، وبالذات صحف المعارضة التي لم يعد يعجبها عجب، فصارت تغربل الحكومة بمنخالها على نحو لم تشهده الصحافة اليمنية من قبل.
|